فلسفة النية في الجهاد في سبيل الله تعالى ومزالق الزلل فيها

الجهاد شرع لتكون كلمة الله تعالى هي العليا , ويكون الدين كله لله , فهذه هي قاعدة الجهاد الأساسية الكبرى ، وهذه هي العتبة الأولى التي يجب أن ينطلق منها المجاهد في سبيل الله تعالى حتى يكون جهاده مقبولاً وعمله مبروراً . قال الله تعالى : ﴿وقاتلوهم حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾ . الأنفال : 8/39 .

وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (1).

ودين الحق هنا , هو دين الإسلام , كما قال تعالى : {إن الدين عند الله الإسلام{2) . 

فإن خلت نية المجاهد عن هذا الهدف بطل جهاده, وأصبح ليس في سبيل الله تعالى , وإنما في سبيل الغاية التي طلبها من قتاله . فالشهيد هو من مات لأجل هذا الهدف , والجهاد هو ما كان لأجل هذا الهدف , والمجاهد هو من جاهد لأجل هذا الهدف , والمتصدق والباذل لأي نوع من الجهد في هذا المضمار لا ينال أجر الصدقة والجهاد في سبيل الله تعالى إلا إذا كان عمله لهذا الهدف(3).

وعن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ}(4).

وكلمة الله تعالى في الحديث هي شرعه وأحكامه , كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (5) . وقيل : هي كلمة التوحيد , وهي : (لا إله إلا الله, محمد رسول الله)(6). اهـ قلت : والمؤدى واحد .

وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بين الأهداف والغايات الفاسدة التي يطلبها المجاهد غالباً من جهاده , وهي : (شجاعة _ حمية _ رياء) , وإلا فالنوايا متعددة والغايات كثيرة متنوعة تختلف حسب كل زمان ومكان . 

ففلسفة الجهاد في سبيل الله تعالى تقوم على تخليص النفس البشرية من كل باعث لا يهدف إلى "إعلاء دين الله تعالى في أرضه , وإظهاره على الأديان الأخرى" , معنوية كانت البواعث, كـ (الرياء, والسمعة , والشجاعة, والعصبية , والعنصرية ...) , أو مادية (كالمغنم , والسبي ونحو ذلك) . 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من غزا في سبيل الله ولم ينوِ إلا عقالاً فله ما نوى}(7) . 

كما يجب أن لا يهدف المجاهد من جهاده أي هدف أخروي سوى مرضاة الله تعالى , كأن يهدف من جهاده "الجنة ونعيمها" فقط , أو "الحور العين" , أو القتل والشهادة في سبيل الله تعالى , أو الشفاعة لأقربائه" ونحو ذلك , بل يجب أن تكون نيته في جهاده خالصة لإعلاء كلمة الله تعالى في أرضه , طلباً لمرضاته وتقرباً إليه جل 

جلاله فقط . قال الله تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حنفاء} . البينة : 98/5 .

مزالق الزلل في فهم النية في الجهاد في سبيل الله تعالى : الجهاد لأجل الشهادة أو الحور العين ...

إن الخروج للجهاد في سبيل الله تعالى بهدف الشهادة والقتل (التهور), يعتبر مزلقاً خطيراً من مزالق الزلل في فهم الجهاد في سبيل الله تعالى , وذلك كأن يخرج الرجل ولا يوجد عنده هدف سوى أن يقتل في سبيل الله تعالى ويستشهد , وكذا الجهاد لأجل الجنة ونعيمها فقط , أو الحور العين , أو مجرد الشفاعة لأقربائه , أو ما شابه ذلك من أجور أخروية للشهادة في سبيل الله تعالى , أي لا يكون من ضمن أهدافه "إعلاء كلمة الله تعالى" ونصرة دينه , ورد الاعتداء , ونصرة المظلومين , وما شابه ذلك من أمور تندرج تحت أهداف "الجهاد في سبيل الله تعالى" وإعلاء كلمته في أرضه ...

فهذا لا يعتبر جهاداً في سبيل الله تعالى , وحتى يكون جهاداً في سبيل الله تعالى يجب أن يكون الخروج "لإعلاء كلمة الله تعالى" وتبليغ دينه ونشره ونصرته _لا مجرد طلب الشهادة_ فإن حصلت الشهادة وأجرها فهذا فضل الله , وإن لم تحصل الشهادة رجع بالأجر والغنيمة , فالجهاد هو طريق الشهادة , وليست الشهادة هي هدف الجهاد , وشتان بين النظرتين . 

وهذا شيء يغفل عنه كثير من الناس , فيخرج الرجل للجهاد بزعمه وهو يريد أن يقتل , ويظن أنه بذلك ينال أجر الشهادة ويصبح شهيداً , وأنى له ذلك !! 

فالجهاد شرع لإقامة الدين , ولحفظ دماء المسلمين لا إفنائها , وصيانة أعراضهم وحراسة أراضيهم , وكيف سيتحقق هذا لو أن كل واحد من المسلمين ضحى بروحه ؟!

وهذا من دقائق أعمال القلوب , ومن مداخل الشيطان لإفساد العمل الصالح , لذلك فإن من معتقد أهل السنة والجماعة أن لا يشهد لقتيل المعركة بعينه بالشهادة , وإنما يقال : ترجى له الشهادة , خشية أن تكون نيته غير صحيحة وغايته غير سليمة(8).

وهذا شيء ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام , إذ لو كان خروج الرجل لكي يموت ويقتل فيكون شهيداً , أو يخرج للحصول على الحور العين أمراً مشروعاً , لفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من بعده , وصرحوا بذلك , و لما أمرنا صلى الله عليه وسلم بأخذ العدة والعتاد ؟ ولما لبس الرسول صلى الله عليه وسلم الدرع أصلاً ؟ 

بل الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك , حيث كان صلى الله عليه وسلم يدعو قائلاً : {واجعل الحياة زيادة لي في كل خير}(9).

ولو كانت الشهادة هي المقصد الأصلي من الجهاد في سبيل الله تعالى لما جاز الفرار من أجل التحيز إلى فئة أو التحرف إلى قتال , كما قال تعالى : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . الأنفال : 8/16 . 

فعلم من هذه الآية وغيرها أن المقصد الأصلي من الجهاد في سبيل الله تعالى هو إظهار الدين والنكاية في العدو , وليس التعرض للقتل ودخول الجنة . وهذا وإن جاز في بعض المواطن كمن أحيط به وخشي الأسر فقاتل حتى قتل , كما في سرية عاصم بن ثابت(10), ولكن ليس هذا هو الأصل .

أما ما ورد عن بعض الصحابة والسلف الصالح من تمني الموت وطلب الجنة فإنما تمنوا ذلك عند لقاء العدو اغتناماً لها عند حضور أسباب الشهادة , ولم يتمنوه ليموتوا, وشتان بين الأمرين(11), وإذا تمنى بعض السلف الموت , فالأنبياء عليهم السلام أكمل هدياً , ولم يسألوا الله تعالى الوفاة , فتمني الموت منهي عنه(12), وكان بعض السلف يتمنى الموت خشية الفتنة في الدين , وهذا جائز عند أكثر العلماء , وشتان بين تمني الموت خشية الفتنة , وبين جعل الشهادة والقتل هدف المجاهد الرئيسي ! فهذا قياس مع الفارق(13).

أما قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر : { قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ... فقال عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا ... الحديث }(14).

وقوله تعالى أيضاً :{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (20)(15).

ونحو ذلك من الأحاديث والآيات القرآنية التي تحدثت عن الوعد بالجنة ونعيمها , إنما هي للتشويق ورفع الهمم لا على نية أن يكون هدف المجاهد هذه الأشياء .

ولو أن جميع المجاهدين طلبوا هذه النية وغامروا وفرطوا بأرواحهم في سبيل ذلك , فمن يدافع عن الإسلام وأهله ودياره ويرفع راية "لا إله إلا الله", ويقاتل الكافرين ويرد عدوانهم وبغيهم وظلمهم عن المسلمين ؟! 

ثم إن هذه الأشياء هي مجرد تحصيل حاصل للشهيد , فهي حاصلة لمن استشهد في سبيل الله تعالى وكانت نيته "إعلاء كلمة الله تعالى" , سواء طلبها أم لم يطلبها . فالمقصد هو إعلاء كلمة الله تعالى لا الشهادة التي قد تقع وقد لا تقع , وهي لا تقع إلا لمن اختاره الله تعالى لهذه المنزلة , قال تعالى : {ويتخذ منكم شهداء} (16).

فَفَهْمُ "الجهاد في سبيل الله" على هذه الشكل يعتبر فهماً خاطئاً , ومزلقاً خطيراً , فكيف يكون نشر دين الله تعالى بالموت , بل قد تكون حياة المجاهد أفضل من مماته ؟! فالحديث واضح وصريح : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" , فمنطوق الحديث لا يخدم هذا الفهم إطلاقاً , لا من بعيد ولا من قريب .

فالأصل أن المجاهد يدخل المعركة وهو موقن بالنصر من عند الله تعالى , وبنفس الوقت متيقن بالعيش سالماً منعماً , هادفاً القضاء على عدوه الذي يقف عقبة في وجه الدعوة , وليس راكضاً وراء الموت .

وهذه النية هي هدف كثير من أعضاء التنظيمات الجهادية التي تحمل طابعاً إسلامياً , فأغلب المقاتلين فيها يهدفون من جهادهم "الحور العين" , أو "دخول الجنة" أو "مجرد الشهادة" , أو ما شابه ذلك, وهذا خطأ , كما تقدم . وحجتهم في ذلك هي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي جاءت فيها فضل الشهادة في سبيل الله تعالى , وجزاء الشهيد عند الله تعالى . وهذه الأدلة حجة عليهم لا لهم , فلا يفهم من هذه الأحاديث السعي وراء الحور العين ... بل هي مجرد حافز للمجاهد في سبيل الله تعالى لإثارة الجانب الروحي لديه كما تقدم , فلا بأس أن يكون للمجاهد هدف سام , وطموح أخروي عظيم يسعى لتحقيقه , لا أن يسعى وراء الموت , فما الذي يحصل لو هدف المجاهدون كلهم هذه النوايا وفرطوا بحياتهم ؟!

أما إن كان قصد المجاهد من جهاده "إعلاء كلمة الله تعالى" وطلب أمراً أخروياً محضاً , كأن يطلب الفوز بالجنة ونعيمها مع الحور العين إن هو استشهد , أو المغفرة له والشفاعة لأقربائه , أو نيل الشهادة في سبيل الله تعالى , فكل هذه الأشياء لا تؤثر على عمله ما دامت نيته الأصلية والأساسية هي إعلاء كلمة (لا إله إلا الله) , وجاءت الأمور الأخرى تابعة للنية الأولى وليست أساسية , وإن كان الأفضل له أن لا يفكر فيها , لأنها تحصيل حاصل . وكذا طلب المغنم إن هو رجع سالماً مع "إعلاء كلمة لا إله إلا الله" , فهذا أيضاً لا يؤثر على عمله , إلا أن ذلك ينقص من أجره ولكن لا يبطله , لأن الله رخص للمسلمين طلب مثل هذا الأمر , وأدلة ذلك كله مستفيضة ومشهورة يضيق المكان بذكرها(17). 

وفي هذا يقول ابن رجب الحنبلي : (إِنْ خَالَطَ نِيَّةَ الْجِهَادِ مَثَلًا نِيَّةٌ غَيْرُ الرِّيَاءِ، مِثْلُ أَخْذِهِ أُجْرَةً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، أَوِ التِّجَارَةَ، نَقَصَ بِذَلِكَ أَجْرُ جِهَادِهِمْ، وَلَمْ يُبْطَلْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْغُزَاةَ إِذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً، تَعَجَّلُوا ثُلُثَيْ أَجْرِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَغْنَمُوا شَيْئًا، تَمَّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ»(18). وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِجِهَادِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ، وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي الْجِهَادِ إِلَّا الدُّنْيَا)(19). اهـ

يقول الباحث : النصوص الشرعية جاءت تدل على شرعية هذا التشريك , وهذا بخلاف المجاهد الذي يقصد من جهاده إعلاء "كلمة الله تعالى" ولكنه يخفي أمراً دنيوياً معه , مثل السمعة والرياء أو الشجاعة أو العصبية أو الانتقام, أو يطلب الرياء والسمعة أو العصبية فقط دون أن يكون عنده هدف "إعلاء كلمة الله تعالى" , فهذا مما لا خلاف في رده وإنكاره لورود النص برده وإنكاره , عكس الأهداف الأخروية , على النحو الذي تقدم بيانه . 

فلما كان الجهاد عبادة من العبادات فإنه يجوز للإنسان وهو يقوم بها أن يقصد إلى جانب القيام بهذه العبادة غرض الحصول على المال ولا حرج .. ولا ينافي هذا القصد الإخلاص المطلوب في قوله تعالى : {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (20) ؛ لأن الشرع ما دام قد منح الترخيص بأن يقصد تحصيل المنافع الدنيوية مع العبادة , ولم يمنح الترخيص بأن يقصد تحصيل مرضاة الناس وتعظيمهم مع هذه العبادة فإن ذلك يدل على أن الذي يتعارض مع الإخلاص هو أن يقصد المقاتل مرضاة الناس في عبادته , لا أن يقصد تلك المنافع , لأن المحرم إنما هو الرياء , والرياء لا يتأتى إلا أن يقصد مع العبادة الناس الذين لهم عيون يرون بها من القائم بالعبادة ما يثير إعجابهم وتعظيمهم .

ولا يتأتى الرياء حين يقصد مع العبادة المال , لأن المال لا عيون له يرى بها من يقوم بالعمل لأجله فيعظمه ويرفع من ذكره , هذا هو سر التحريم في الرياء كما تدل عليه مادة الكلمة "الرياء" , أي أن يقصد مع إرادة العبادة أن يرى المتعبد من تتأتى منه الرؤية فيكبر في نظره , فهذا رياء , وهو حرام .

وإذا قصد مع إرادة العبادة شيء لا تتحقق منه الرؤية للمتعبد كالمال , فهذا لا تصدق كلمة "رياء" عليه أصلاً , وبذلك لا يكون ذلك القصد حراماً .

نعم , إذا لم يقصد المقاتل من القيام بعبادة الجهاد إلا الحصول على المال فحسب دون أن يكون ذلك وسيلة لتعكير صفو العدو وشغل حياته بالخوف والرعب بقصد النيل منه , وإضعافه في سبيل تقوية المسلمين وإعلاء كلمة الله تعالى , فإن مثل القتال في هذه الحالة _وقد تجرد عن هذه المقاصد المنشودة_ يكون خالياً مما يجعله قتالاً في سبيل الله , وبذلك لا يترتب عليه أجر ولا ثواب , وينطبق عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : {«لَا أَجْرَ لَهُ». فَأَعْظَمَ ذَلِكَ النَّاسُ، وَقَالُوا لِلرَّجُلِ : عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَعَلَّكَ لَمْ تُفَهِّمْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ يُرِيدُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ يَبْتَغِي عَرَضًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: «لَا أَجْرَ لَهُ». فَقَالُوا: لِلرَّجُلِ عُدْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُ : الثَّالِثَةَ. فَقَالَ لَهُ: «لَا أَجْرَ لَهُ»}(21).

والذي يفهم من هذا الحديث بجمعه مع غيره من النصوص الشرعية في الموضوع أن هذا الرجل كان يريد الجهاد في سبيل الله , بمعنى يريد "القتال" من أجل المال فقط , إذ كانت بغيته هي "عرضاً من الدنيا" كما جاء في الحديث , ولم يذكر أن مبتغاه كذلك "إعلاء كلمة الله تعالى" , وأما كونه أراد الجهاد في سبيل الله تعالى, فالمراد من العبارة أنه أراد القتال لهذه الغاية التي ذكر أنها بغيته , وهي المال , ومن هنا لا أجر له, ويحتم فهم العبارة على هذا الوجه ما جاء في نصوص أخرى من إباحة قصد المال من وراء القتال _على النحو السالف ذكره_ على أن الحديث هنا إنما يذكر حرمان هذا المقاتل من الأجر فقط , ولم يذكر انه قد ارتكب إثماً أو معصية لأنه يبتغي عرض الدنيا فقط . 

والدليل على أن قصد المال وحده من القتال لا إثم فيه ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : {خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ، فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ، فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : جِئْتُ لِأَتَّبِعَكَ , وَأُصِيبَ مَعَكَ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»، قَالَتْ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالشَّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، قَالَ: «فَارْجِعْ، فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ»، قَالَ : ثُمَّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ: «تُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «فَانْطَلِقْ»}(22) .

ففي هذا الحديث تجرد قصد الرجل لإصابة المال فقط من وراء قتاله , ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك , ولكن منعه من الاشتراك معه في القتال حين كان كافراً , وأذن له حين أسلم , ولم يدل الحديث على تغير قصد الرجل من وراء الاشتراك في هذا القتال(23).

نعم مثل هذا القتال بالنسبة لمن يتجرد قصده لطلب المال لا يسمى جهاداً في حقه , ولا يستحق ثواب المجاهدين إذ لا جهاد إلا بنية "إعلاء كلمة الله عزوجل" _ ولو شرك مع هذه النية قصد الحصول على المال_ تبعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ... الحديثَ} .

ولكن مع ذلك فللمسلم الحق أن يتجرد قصده للوصول إلى مال العدو ولو عن طريق التسلل إليهم وسفك دمائهم ما دام هذا المسلم لم يدخل بأمان إليهم , وذلك لأن دار العدو دار قتال ودار إباحة , بدليل إباحة قتالهم واغتنام أموالهم(24).

وفي الختام أقول : وفي المقابل _ومع الأسف_ هناك فئة أخرى من المسلمين فهموا الجهاد على أنه قتل وذبح وتدمير وتخريب وعنف وتفجير , بخلاف هذه الطائفة التي فهمت منه مقاصد شخصية وإن كان له أضرار إلا أن ضرره راجع إلى أنفسهم , بخلاف تلك الطائفة من الجهلة الأغبياء الذين جعلوا الجهاد غاية في ذاته وليس وسيلة , وراحوا يكفرون ويقتلون المسلمين ويحكمون عليهم بالردة لأبسط الأشياء , ويعتدون على المسلمين علاوة على الكافرين ويخربون ويسيئون باسم الإسلام والإسلام منهم براء ...

يقول الباحث : إذا كان الجهاد لأجل النوايا الأخروية يعتبر مزلقاً خطيراً من مزالق الزلل في فهم الجهاد , ويسلب صفة الجهاد من القتال ضد العدو ويحرمه الأجر والثواب في الآخرة , فمن باب أولى الجهاد بهدف الغنائم والمناصب والأمور الدنيوية الأخرى التي يسعى لها أغلب المجاهدين , وخاصة في زماننا الحالي ...

كما يلفت الباحث نظر القارئ الكريم إلى أن القتال بهدف الأمور الدنيوية (المعنوية حصراً دون المادية) يختلف عن القتال لأجل الأمور الأخروية أو الأمور الدنيوية المالية (كالمغنم), فالأول صاحبه آثم وعمله باطل , والثاني صاحبه ليس بآثم , وإنما لا يستحق ثواب الجهاد في سبيل الله تعالى والنعيم الذي وعده الله تعالى للمجاهدين ... إلا أن المال الذي يحوزه حلال عليه ولكنه لا يأخذ حكم الغنيمة كما أنه لا يقسم قسمة الغنائم , لأن اسم الغنيمة لا يطلق عليه , كون العمل ليس جهاداً , فالغنيمة وأحكامها شيء , والقتال العادي إن لم نعتبره جهاداً شيء آخر وإن كان شكله شكل جهاد وادعى صاحبه انه جهاد ...

========

(1) سورة التوبة , 9/33 .

(2) سورة آل عمران , 3/19 .

(3) تفسير ابن كثير 4/358؛ القادري , عبد الله بن أحمد , الجهاد في سبيل الله (حقيقته وغايته) , عدد المجلدات (1_2) , دار المنارة _ جدة , ط2: 1992م ج2: 153_189؛ القرضاوي, فقه الجهاد ج1: 258؛ سيد قطب , معالم في الطريق ص55 وما بعد .

(4) البخاري , محمد بن إسماعيل , الجامع الصحيح المطبوع مع فتح الباري شرح صحيح البخاري , للحافظ ابن حجر العسقلاني , كتاب الجهاد والسير , رقم (2810) , 6/108 . مسلم , مسلم بن الحجاج , الجامع الصحيح المطبوع مع إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض اليحصبي , كتاب الإمارة 6/327 , حديث رقم : (1904)؛ القاري , علي بن سلطان ت1014هـ , مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح , تحقيق صدقي محمد جميل العطار , عدد المجلدات (1_10) , دار الفكر _ بيروت , ط1: 1414هـ _ 1994م , 7/378 .

(5) ابن حجر العسقلاني , أحمد بن علي ت852هـ , فتح الباري شرح صحيح البخاري , 6/28 .

(6) علي بن سلطان محمد القاري ت1014هـ , مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح , 7/378 .

(7) سنن النسائي , كتاب الجهاد , حديث رقم : (3138)؛ مسند أحمد 37/398 , حديث رقم :(22728) .

(8) العثمان , حمد بن إبراهيم , الجهاد أنواعه وأحكامه والحد الفاصل بينه وبين الفوضى , الدار الأثرية _ الأردن , ط1: 2007م, ص181_185؛ ابن حجر , فتح الباري شرح صحيح البخاري , باب : لا يقول فلان شهيد : 6/186 , حديث رقم (2898) .

(9) أخرجه مسلم في صحيحه , كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار , رقم : (2720) .

(10) القصة في صحيح البخاري , كتاب المغازي والسير , باب غزوة الرجيع , حديث رقم :(4086) ؛ابن قدامة المقدسي , المغني , 10/553 .

(11) ابن رجب الحنبلي , زين الدين عبد الرحمن بن أحمد ت795هـ , مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي , عدد المجلدات (1_4) , تحقيق أبو مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني , دار الفاروق الحديثة للطباعة والنشر _ مصر , ط4 : 2004 , 1/151_162 .

(12) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا{ , أخرجه البخاري في صحيحه برقم : (7235) ؛ ومسلم في صحيحه أيضاً , برقم : (2682) .

(13) ابن رجب الحنبلي , مجموع رسائل الحافظ ابن رجب , 1/158.

(14) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه , كتاب الجهاد والسير , باب ثبوت الجنة للشهيد , رقم : (1901) .

(15) سورة الفتح : 48/20.

(16) سورة آل عمران : 3/140 .

(17) ابن حجر العسقلاني , فتح الباري 6/28؛ ابن النحاس , أحمد بن إبراهيم بن محمد , مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق ومثير الغرام إلى دار السلام في الجهاد وفضائله , عدد المجلدات (1_2) ,تحقيق : إدريس محمد علي ومحمد خالد إستنبولي , دار البشائر الإسلامية _ بيروت , ط3: 2002م , 2/612_646؛ حمد بن إبراهيم العثمان , الجهاد أنواعه وأحكامه والحد الفاصل بينه وبين الفوضى , الدار الأثرية _ الأردن , ط1: 2007م , 188_196 .

(18) صحيح مسلم المطبوع مع إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض , كتاب الإمارة , 6/330 , حديث رقم : (1906) .

(19) ابن رجب الحنبلي , عبد الرحمن بن أحمد ت 795هـ , جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم , تحقيق : شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس , عدد المجلدات (1_2) , مؤسسة الرسالة _ بيروت , ط7: 2001م , 1/82 .

(20) سورة البينة , 98/5 .

(21) أبو داود , سليمان بن الأشعث السجستاني ت 275 هـ , سنن أبي داود , تحقيق : يوسف الحاج أحمد , مكتبة ابن حجر / دمشق , ط1 : 2004 م , كتاب الجهاد , باب الغزو فيمن يغزو ويلتمس الدنيا , حديث رقم : (2516) , وهو حديث حسن .

(22) أخرج الإمام مسلم في صحيحه , كتاب الجهاد والسير , باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر , حديث رقم : (1817) .

(23) ابن قدامة المقدسي , المغني 10/457 .

(24) هيكل , محمد خير , الجهاد والقتال في السياسة الشرعية , 1/275_277 . 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين