شعب يصارع الماء والهواء

في يوم شديد البرودة من أيام نهاية شهر يناير كانت أول رحلتي إلى هولاندا ، الثلوج تغطي الأرض في أمستردام ، وكل ما هو مسطح على الأرض أو أسطح المنازل ، والأشجار على جانبي الطريق تستقبل الثلج الساقط على سيقانها وأغصانها العارية من الأوراق ، منظر بديع وخاصة لأمثالي ممَّن لم يتعود عليه في بلاده ، ولكنه مع جماله معيق للحركة ، وبرغم تلك الإعاقة أرى أمامي خلية نحل من البشر ؛ مارة يمشون بغاية الجديَّة صوب جهات عملهم متدثرين بثيابهم حاملين مظلاتهم للحماية من الثلوج المتساقطة من السماء ، وأسراب غيرهم من راكبي الدراجات ، رجال ونساء وكبار وصغار ، هذا يحمل حقيبته بيد ومقود الدراجة بيد ، وهذه تحمل أطفالها في صندوق أمام مقود الدراجة لتوصيلهم إلى المدارس ، الكل يتسابق في نظام في طريقه لعمله ، والدولة توفر في كل شارع رئيسي أو فرعي حارات مخصصة لقيادة الدراجات ، وأماكن لوقوفها .

كنت أظن قبل رحلتي أن هولاندا عبارة عن مراعٍ خضراء وأرض خِصْبة ، واكتشفت أنها عبارة عن أرض منخفضة عن سطح البحر ، تتشكل في عمومها من مستنقعات ، ومعرَّضة للفيضان من بحر الشمال أو من الأنهار ، قبل ثمانمائة عام لم يكن ثمة تاريخ يذكر للإنسان على هذه الأرض في شمال أوروبا ، ماقام به الإنسان على هذه الأرض هو واحدة من معجزات القدرة التي أودعها الله في الإنسان ، هذه الأرض المخضرة التي ترعى فيها الماشية التي تدير وراءها أفضل وأكثر المصانع إنتاجا للمنتجات الحيوانية ، هي في الأصل كانت مستنقعات استزرعها الإنسان الهولندي عبر عملية معقدة ، تبدأ ببناء السدود ، ثم شفط الماء ، ثم معالجة اليابسة عاما بعد عام من التجفيف والتصريف المستمر للماء في دورة لا تقل عن خمس سنوات حتى تنبت فيها الحشائش التي تصلح للرعي فقط وليس الزراعة ، حتى الأحياء السكنية التي تراها بين الممرات المائية التي تتشكل منها أمستردام الجميلة وغيرها من المدن ، كانت مستنقعات أو جزءا من البحر تم تحويلها لأراض للسكنى عبر شبكة من السدود ، ومازالت المدن تتمدد وسط البحار والمستنقعات في عملية مستمرة لا ينتهي أمد تطويرها ليجد الإنسان له مكانا علي هذه المساحة الصغيرة .

هؤلاء السكان الذين نشأوا في صراع مع المياة صاروا بحارة مهرة ، ونجحوا على صغر مساحة دولتهم وعدد سكانها في أن يحولوها إلى واحدة من أهم موانيء أوروبا ، ونجحوا في بناء واحد من أكبر الأساطيل البحرية في العالم في عصرهم الذهبي في القرن السابع عشر ، وجابوا به العالم ووصلوا به إلى أقصى الشرق ، ووطأت أقدامهم الأرض الجديدة (أمريكا) ، وبنوا "نيو أمستردام" التي تم تغير اسمها فيما بعد إلى "نيويورك" .

بل إن الامبراطور الروسي "بطرس الأكبر" ذهب إلى بلادهم متخفيا لنقل أسرار بنائهم لأسطولهم البحري .

وكما طوعوا المياه ، طوعوا الهواء والرياح ، وتفوقوا في بناء طواحين الهواء التي شكلت طفرة هائلة في عالم الطاقة منذ ثلاثة قرون .

وفكرتها تقوم على تحويل طاقة الرياح إلى طاقة محركة ، تنتقل من شفرات مراوح متصلة بعامود يتحرك دائريا مع تحريك الرياح للشفرات ، ويقوم بدوره بنقل الحركة إلى قرص حجري ضخم عبر سلسلة من التروس ، وبحركة الحجر الدائرية على سطح ثابت يتم طحن الحبوب ، سواء القمح لإنتاج الدقيق أو البن لإنتاج مسحوق البن أو بذور الكتان وغيرها لإنتاج الزيت ، وغير ذلك ، كما تستخدم أيضا كمضخة رافعة للماء ، وقد مثلَتْ تلك الطواحين طفرة إنتاجية مكنت هولاندا الصغيرة في عصرها الذهبي من بناء قاعدة صناعية ضخمة تفوقت بها علي كثير من البلدان الكبيرة والعريقة .

وبعد عصر البخار تراجعت قيمة طواحين الهواء ، وبرغم ذلك مازالوا يحافظون على ماتبقي منها ، ويعتبرونها جزءا أصيلا من تراثهم القومي ، ومصدر إلهام جعل هولاندا أحد القلاع الصناعية للتربينات العاملة بطاقة الرياح .

هذه هي البلاد التي ننقل عنها إباحة كل المحظورات من جنس ومخدرات - وهذه حقيقة - .

ولكن ؛ هذه رؤيتي لها ، (ولِكُلٍّ وجْهة هو موليها ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين