الشافعي حامي الأصول

أبو عبد الله، محمد بن إدريس الشافعي ( 150 – 204هـ) : هو العالم، الفقيه، مؤسس المذهب المعروف باسمه، ولد في مدينة غزة بفلسطين سنة 150هـ، جعل الله لذته في العلم، فتعلق قلبه بالعلم منذ الصغر، ولما أتى عليه سنتان، حملته أمه إلى مكة لينهل من علمائها حتى صار عالم عصره بلا منازع .

الشافعي واضع علم الأصول :

أجمع أهل العلم والمؤرخون على أن الشافعي هو أول من وضع "علم أصول الفقه" في كتابه "الرسالة" فكان هذا الكتاب فتحا جديداً لم يسبق إليه، فقد أرسى المبادئ الأساسية التي صارت منطلق الأصوليين والفقهاء، وبهذا استحق الإمام الشافعي لقب مجدّد القرن الثاني للهجرة .

وترجع أهمية هذا العمل إلى الواقع التاريخي الذي دفع الشافعي لوضع قواعد علم الأصول :

• ففي زمن الشافعي كان قد دخل في الإسلام أمم كثيرة غيرعربية نتيجة الفتوحات الإسلامية؛ ما جعل البيان القرآني يتهدّده اقتحام الدخيل على اللغة العربية .

• وبدأت بوادر فساد السليقة العربيّة وضعف المدارك عن فهم مقاصد الشريعة، وهذا ما ألمح له الشافعي في مقدّمة رسالته حين ذكر قوماً تكلّموا في العلم، وهم يجهلون أساليب العربيّة .

• كما أن مسيرة الفقه قد أصابها بعض الاضطراب والفوضى، بسبب حريّة الاجتهاد في ذلك العصر، وحدوث مشكلات لم يرد فيها نصّ قرآني صريح، واختلف فقهاء الأمصار لاختلاف أعراف أمصارهم؛ فظهر الخلاف الفقهي وتعددت المدارس الفقهيّة، في الحجاز والعراق والشام، وتعدّدت الأحكام والاجتهادات الفقهيّة، واشتد الخلاف بين مدرسة "الرأي" ومدرسة "الحديث"

فهذه الظروف الحرجة هي التي حركت الشافعي فبادر إلى جمع قواعد هذا العلم فكان عمله علاجاً قاطعاً لهذه الخلافات، ونزع فتيل الأزمة التي كادت تهدد وحدة الأمة، واختلافها في دينها، فجزاه الله عن الأمة خير الجزاء .

مكانة علم أصول الفقه :

يعد هذا العلم من أشرف العلوم الإسلامية؛ لاجتماع الوحي والعقل والسمع فيه، ونظراً لشرف علم الفقه وأصوله، قيض اللهُ عز وجل له نخبة من أفذاذ العلماء لخدمة هذا العلم، فلا غرابة أن تجد علماء الأصول والفقه هم أرفعَ العلماء مكانة، وأجلَّهم شأناً، وأكثرَهم أتباعاً وأعواناً .

وهكذا تبوَّأَ هذا العلم منزلةَ الرأسِ من منظومة العلوم الشرعية، وحاز من الشرفِ ما ذكرناه، وصار أقرب العلوم إلى حياةِ المسلمين؛ حتى إن كثيراً من الباحثين وصفوا الحضارةَ الإسلامية بإنها (حضارة فقه) كما يطلق على الحضارة اليونانية أنها (حضارة فلسفة)

وغني عن البيان أن الفقه لم يكتسب هذه المكانةَ المتميزة إلا لأنه ينطلق أساساً من الوحي الإلهي، ويستهدف ضبط سلوك المسلم، من حيث عَلاقته بربه ونفسه، والعالم .

ويتفق الباحثون على أن علم أصول الفقه قد بلغ خلال العصور التي مضت على تأسيسه درجة عالية من المتانة والتكامل ، وأصبح عُدَّة أساسية لكل فقيه مجتهد، فلم يعد بإمكان أحد أن يخوض بحار النصوص وينظر في مصادر التشريع ويجتهد فيها ما لم يستكمل هذه العُدَّة ، بل ظنَّ بعض الفقهاء المتأخرين أنَّ هذا العلم قد بلغ الغاية في الكمال حتى لم يعد عليه من مزيد، إذ يروي أحدهم فيقول : ( لقد سمعتُ من بعض أساتذتي الأفاضل، أن علم الأصول علم نشأ ونضج ثم انتهى وانطوى، فاستغربت لهذا الأمر، وقلت : ما هي إذاً فائدة دراسة هذا العلم ؟ وبعد التحري والتثبت انتهيت إلى أن لهذا العلم فائدة عظمى، حتى سمعت مطالبة قوية من رجال القانون في كلية الحقوق في مصر بالاقتصار فقط على تدريس علم أصول الفقه، والتوسع فيه دون حاجة إلى دراسة غيره من علوم الشريعة الإسلامية، لأن هذا العلم قد نضجت نظرياته، ولمست آثاره وفوائده في دراسة القانون النظرية، وفي مجال تطبيقه في ميدان القضاء والمحاماة، فإذا تكلم الشخص بقاعدة أصولية أذعن له المنازعون، لأنه مبني على أدلة علمية من المعقول والمنقول لا مجال للقدح فيها أو الغض من شأنها ) .

بل ذهب باحث آخر إلى أن الأمم التي أحرزت تقدماً واسعاً في الحضارة والمدنية في العصور الحديثة قد استلهمت قوانينها وأحكامها من قواعد هذا العلم، كما ورد عن واحد من رموز التنوير العربي المعاصرين هو رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873 ) الذي بعد زيارته المشهورة إلى باريس كتب يقول : ( ومَنْ زاولَ علم أصول الفقه، وفَقِهَ ما اشتمل عليه من الضوابط والقواعد ، جزم بأنَّ جميع الاستنباطات العقلية التي وصلت عقول أهالي باقي الأمم المتمدِّنة إليها، وجعلوها أساساً لوضع قوانين تمدنهم وأحكامهم، قلَّ أن تخرج عن تلك الأصول التي بنيت عليها الفروع الفقهية التي عليها مدار المعاملات، فما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى ما يشبهه عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية، وهي عبارة عن قواعد عقلية، تحسيناً وتقبيحاً، يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما نسميه بفروع الفقه يسمى عندهم بالحقوق والأحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية ) .

وبالفعل فقد أثبتت قواعد هذا العلم الجليل جدارتها على مدى العصور الماضية، واستلهمها كثير من أهل القانون في أرجاء المعمورة، ويكفي هذا العلم فضلاً أنه حافَظ على وحدة الأمة الإسلامية، وصان هويتها؛ بمحافظته على أصول الدين؛ فبالرغم من تعدد المذاهب الفقهية التي عرفها تاريخنا الإسلامي فإن الأمة الإسلامية ظلت متماسكة بدينها، وبقيت الأصول التي تؤمن بها محلَّ إجماع من عامة المسلمين .

محاولات تجديد علم الأصول :

هكذا وجدنا أن علم أصول الفقه يعد من أعظم وأهم العلوم المنهجية التي أنتجها العقل المسلم للتعامل مع النصوص الشرعية وضبط طرق الاستنباط منها، وتقليل تَحَكُّمِ الأهواء في قراءة النصوص وتفسيرها .

وقد أولى علماؤنا عناية كبيرة بهذا العلم منذ الإمام الشافعي، مروراً بالأئمة الكبار "ابن حزم" و "الجويني" و"أبو حامد الغزالي" و "عز الدين بن عبد السلام" و "ابن تيمية" و "ابن القيم" و "الشاطبي" وانتهاء في عصرنا بكل من "أبي زهرة" و "عبد الوهاب خلاف" و "محمد الخضري حسين" و "محمد الأمين الشنقيطي" وغيرهم من علماء الإسلام الأفذاذ الذين شيدوا صروح هذا العلم .

وقد ظهرت في العصر الحديث دعوات لتجديد علم أصول الفقه وإعادة النظر في مباحثه، غير أن أغلب أصحاب هذه الدعوات لم يقدموا رؤية منهجية واضحة للتجديد، وهذا ما عرض محاولات التجديد إلى الكثير من النقد والمعارضة، لاسيما وأن بعضها خالطه أهداف أخرى غير التجديد؛ بل اتجه بعضها إلى هدم الدين بالنيل من علم الأصول الذي يعد الأداة الأولى من أدوات التعامل مع نصوص الدين، وحاول بعضهم إلغاء مباحث هذا العلم، والاستعاضة عنه بأدوات منهجية أخرى نشأت في سياق حضاري مغاير للسياق الحضاري والثقافي الذي في ظله نشأ الفكر الإسلامي ونما ونضج !

الشافعي ودعاة التجديد :

وفي خضم الحرب الفكرية التي أعلنت على الإسلام خلال السنوات القليلة الماضية؛ وجدنا الشافعي من أبرز علماء الإسلام الذين استهدفوا بهذه الحرب؛ ليس من قبل أعداء الإسلام وحدهم، بل كذلك من قبل زمرة من أدعياء الفكر الإسلامي الذين تصدوا لتجديد علم أصول الفقه من منظور معاصر، وقد انصبت محاولات هؤلاء على إعادة بناء مقاصد الشريعة وفق رؤى غربية معاصرة، وقد برز من بين هذه المحاولات محاولة المفكر المصري "حسن حنفي" في كتابه "من النص إلى الواقع" التي حاول فيها تحويل علم أصول الفقه إلى علم سلوكي يعطي الأولوية للواقع على النص، ومن خلال دراستنا لهذه المحاولة ظهر لنا تحايل حنفي على القضية القديمة التي اشتهرت بإشكالية (النقل والعقل) فقد حاول حنفي التذاكي في المسألة فاستبدل مصطلح العقل بمصطلح الواقع، ما يعني أن محاولته لا تعدو إعادة طرح جديد لقضية قديمة أطال فيها العلماء شرحاً ونقداً وتفنيداً، وهكذا لم تضف محاولة حنفي إلى التجديد شيئاً، بالرغم من الإعلام المغرض الذي بذل جهداً خارقاً بتقديم هذه المحاولة باعتبارها فتحاً جديداً في محاولات تجديد الإسلام، هذه المحاولات التي حولها الإعلام إلى مهرجان للشهرة وفرصة لتلميع شخصيات لا تفتقر إلى الأرضية العلمية الشرعية فحسب، بل شخصيات تنطلق من أرضيات معادية للإسلام، كما هي الأرضية الماركسية التي ينطلق منها حنفي؛ كما صرح به حنفي نفسه في مناسبات عدة !

ويمكن أن نحيل هنا إلى جملة من الباحثين الذين انتقدوا كتابات «حسن حنفي» في كتب أو مقالات في دوريات أو فصول في كتب، منهم : محسن الميلي، وأحمد خضر في نقد «اليسار الإسلامي»، ومحمد عمارة في «نقد التراث والتجديد»، وكذلك محمد إبراهيم مبروك، وناهض حتر، وأديب ديمتري، وفضيل دراج، ورفعت سلام، ومحمود إسماعيل، وعلي حرب، وجورج طرابيشي، وصلاح قنصوه، ونصر حامد أبو زيد، وفؤاد زكريا .. وغيرهم !

وانتقادنا لمحاولة حنفي وغيرها من محاولات التجديد، لا يعني أننا ضد التجديد في علم الأصول وفي غيره من العلوم الإسلامية، بل يشهد التاريخ الإسلامي أن تجديد هذه العلوم كان ومازال عملاً متواصلاً واتجاهاً مستمراً؛ ابتداء من "الرسالة" للشافعي إلى "الموافقات" للشاطبي، و "مقاصد الشريعة" لمحمد الطاهر بن عاشور، و "مقاصد الشريعة ومكارمها" لعلال الفاسي إلى "تجديد أصول الفقه الإسلامي" لحسن الترابي .. وغيرهم .

(والحمد لله رب العالمين)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين