تربية الله تعالى للعبد

لا غنى للإنسان أي إنسان – صغيراً أو كبيراً - عمن يوجهه ويسدد خطاه ... وهو بحاجة إلى من يهذبه ويؤدبه ويقومه ويربيه ... والإنسان بدون تربية يغدو كالوحوش - أعزكم الله تعالى - ...لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ... فبالتربية تتشكل الشخصية وتُصقل؛ فتكون قادرة على مواجهة الحياة بكل ما فيها من مصاعب بقدرٍ كافٍ من الإيمان والثبات ... .

والمربون في حياة الإنسان كثيرون، ومتولو تأديبه عديدون ... فهناك الأبوان ... يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه أو يسلمانه ، قال تعالى :{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }. الأحقاف: ١٧.

وهناك المعلم ... الأستاذ .... الشيخ .... قال بعض السلف: لولا المُرَبِّي ما عرفت ربي. وقيل للإسكندر المقدوني: إنك تعظم مؤدبك أكثر تعظيمك والدك! قال: لأن أبي كان سبب حياتي الفانية، ومؤدبي هو سبب حياتي الباقية...

وهناك من يعلمه الدهر .. ويؤدبه الزمان ... بأحداثه ...بنُوَبه ... بصروفه... بمجرياته ...بوقائعه.... إذا تأمل فيها الإنسان ... قلبها ظهراً لبطن ... إذا وعاها ... إذا أدرك فحواها وعرف مغزاها .... عاد من ذلك بخير وفير وأدب غزير ... 

إذا رأى غدر الزمان بأهله ... وتقديمه الغني وتأخيره الفقير ... وتخوينه الأمين وتأمينه الخائن ... ومكافأته الظالم وحرمانه المظلوم ... فيكون قد أدبه الدهر بطريق غير مباشرة ، وربّته الحياة برسائل صامتة ... وما أجمل قول ابن الوردي رحمه الله : 

واتركِ الدنيا فمِنْ عاداتِها تخفضُ العالي وتعلي مَنْ سَفلْ

كم جهولٍ وهْوَ مثرٍ مكثرٌ وحكيمٍ ماتَ منها بالعللْ

كم شجاعٍ لم ينلْ منها غنى وجبانٍ نالَ غاياتِ الأملْ

وأحكم قول الإمام الشافعي رضي الله عنه : 

كُلَّما أَدَّبَني الدَهـــــــ رُ أَراني نَقصَ عَقلي

وَإِذا ما اِزدَدتُ عِلماً زادَني عِلماً بِجَهلي

وهناك الأعداء والحساد ... الذين يتربصون بك الدوائر، ويحيكون لك المؤامرات، ويحسدونك على ما آتاك الله من فضل ونعمة ... ورحم الله أبا الفتح البستي إذ يقول : 

عِداتي لَهُم فَضلٌ عَليَّ وَمِنَّةٌ فَلا أَذهبَ الرَحمنُ عَنّي الأَعاديا

همُ بَحَثوا عَن زلَّتي فَاجتَنَبتُها وَهُم نافَسُوني فَاكتَسَبت المَعاليا

وهناك تأديب الله تعالى ... نَعمْ... الله يؤدب عبده ..يعلمه ... يوعيه ...يبصره ... يذكره ...يفكره .. وهذا التأديب أعلى درجات التربية وأحلاها ... لأنها دليل محبة ... دليل عناية ... دليل رعاية ...

وتأديب الله تعالى عبده يكون بدفع نقمة عنه وصرف نعمة إليه... تأديب الله يكون بابتلاء عافانا الله وإياكم ... أو بمنعك ما تريد من الدنيا ... أو حجزك عما تبتغي من آمال ... فيربيك ويجتبيك، فتخرج من ذلك بقيمة عظيمة ... ودرس كبير أن الله هو المدبر ... هو المصرف ... هو المربي ... هو المؤدب ... 

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ولو أنصف العبد ربه - وأنى له بذلك - لعلم أن فضل الله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه منها! فإنه ما منعه إلا ليعطيه"، ويقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله : متى فتح لك باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء. متى أعطاك أشهَدَك برّه، ومتى منعك أشهدَك قهره، فهو في كل ذلك متعرّف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك. إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه".

أيها الإخوة الأماثل : 

كثيرون أدبهم الله تعالى فأحسن تأديبهم ... 

منهم سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، فقد روى الإمام مسلم عن أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « قَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ خَطِيبًا فِي بَنِى إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَي النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ. قَالَ: فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ مُوسَى : أَي رَبِّ كَيْفَ لِي بِهِ ... 

وممن أدبه ربه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : "أدبني ربي فأحسن تأديبي". أي أحاطني بعنايته، وصنعني على عينه، وتولى تأديبي ، قَالَ الْمُنَاوِيُّ : أَيْ عَلَّمَنِي رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَمَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ،وَالْأَدَبُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ... «فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» بِأَفْضَالِهِ عَلَيَّ بِالْعُلُومِ الْوَهْبِيَّةِ مِمَّا لَمْ يُعْطَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ. 

لقد ربى الله تعالى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

لقد ربى الله تعالى أصحاب الجنة:{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}[ القلم: ١٦ - ٣٣ ] فلما رأوها قالوا : إنا لضالون ... أدركوا أنهم كانوا على خطأ ... 

ومنهم كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من أمره ما كان، وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى أخويه حصارأً اجتماعياً ، فنهى الصحابة عن محادثتهم والتعامل معهم ، حتى ضاقت عليهم الا{ض بما رحبت ، ثم تاب الله عليهم ، يقول كعب بن مالك : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ - قَالَ - فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِي هَذَا أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلاَنِي اللَّهُ بِهِ وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمي هَذَا وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِىَ.

فانظر كيف رباه الله تعالى على الصدق من خلال هذه الأزمة التي مر بها .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين