قراءة في أهم أسباب ظهور الخطاب الديني المتطرف (2-2)

الأسباب الذاتية المنهجية

ثانيًا: الأسباب الذاتية المنهجية

إن الأسباب الذاتية للتطرف تختلف من زمان إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، وبما أننا نتكلم عن واقع التطرف المعاصر فإن أهم أسبابه الذاتية تتلخص في الآتي:

1- السيلان المعرفي:

إن السيلان المعرفي غير المنضبط له أثر كبير في سرعة انتشار الأفكار الخاطئة عن الدين والإنسان والحياة. ولهذا السيلان أوجه عدة تتنقل ما بين تطوّر الطباعة وسهولة النشر إلى الأنظمة المعلوماتيّة، وسهولة التداول المعرفيّ وخاصّة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ ودورها في تسهيل وصول الأفكار المتطرّفة إلى كلّ فرد على وجه الأرض، وهذا بدوره أدّى إلى انفلات التعليم الشرعيّ والتأثير الدينيّ الصادر عن المرجعيّات الشرعيّة المحافظة، حيث حجَّم الواقع الإعلامي والمعلوماتي دورهم؛ في مقابل فتح ساحة الدعوة لكلّ من هبّ ودبّ بدون أيّ موانع أو رقابة.

2- التشويش على المشروع الإسلامي السياسي المعتدل:

من الأسباب الرئيسة في سرعة انجذاب الشباب المسلم نحو الخطاب المتطرف: فقدان الأمل في خلاص قريب نظرًا لغياب المشروع السياسي الإسلامي المعتدل بحسب هؤلاء الشباب. والواقع أن المشروع الإسلامي السياسي المعتدل حكم الأمة قرونا طويلة ولم يغب في يوم من الأيام في عصرنا الراهن ولكن التخادم الحاصل بين القوى العلمانية والمتطرفة في التشويش على المشروع الإسلامي يفقد بعض الشباب القدرة على رؤيته أو التفاهم معه أو فهمه، وقد استخدم المتطرفون والعلمانيون الإعلام والأنظمة السياسية كوسيلة ناجحة للتشويش على المشروع الإسلامي ومنع الناس من فهمه والتواصل الطبيعي معه.

3- عدم ترشيد الخطاب الديني: 

لقد غدت الوعود والمغريات دنيوية أو أخروية ركنًا أساسًا في الخطاب الديني اليوم لدى البعض، كالوعود السخية بإمكانية عودة الخلافة الإسلامية وفتح البلاد الغربية والتمكين لأمر الإسلام بمجرد مبايعة جماعة إسلامية أو بمجرد تحرير قطعة من الأرض وحيازة بعض السلاح، وصولًا إلى الوعد بدخول الجنة والحصول على الحريات بمجرد تفجير الإنسان نفسه في سبيل قتل فلان أو الانتقام من علان.

كما نجد نوعين آخرين من الخطاب الديني لهما دور كبير في سوق الشباب إلى التطرف، وهما الخطاب الحماسي الذي يخاطب عاطفة الشباب ويثير كوامن الغضب في نفوسهم على الداخل والخارج دون وجود أي واقع ترشيدي لهذه الطاقات الغاضبة، وأما الخطاب الآخر فهو الذي يقوم به علماء السلطة حيث يستفزون الشباب المسلم من خلال تسخيرهم الدين لخدمة الطغاة بكل فجاجة أمام سمع الأمة وبصرها.

كل تلك الخطابات المستفزة والتصورات الخاطئة عن الحياة والدين، في ظل ضعف الخطاب الديني العاقل المبني على الإيمان والفضيلة في الوصول إلى الجيل والتواصل معه بوضع طبيعي؛ أدى لانحراف كثير من الشباب المسلم في العَقدين الأخيرين.

4- دعوات الجهاد العشوائية:

حيث تصدر هذه الدعوات العشوائية في الغالب عن دعاة متطرفين أو دعاة جهلة بالواقع الاجتماعي للأمة، وخطر هذه الدعوات في كونها تتم دون وجود إمكانيات تنظيمية وإدارية قادرة على استيعاب الشباب المجاهد في تشكيلات مأمونة من الانحراف والغلو، وهذا ما أدى لاندفاع عدد كبير من الشباب المسلم للقتال في سوريا فغُرر بهم وانخرطوا في مشاريع داعش والقاعدة وانقلبوا وبالًا على أهلهم.

لعل هذه الأسباب الأربعة التي ذكرتها تعتبر أهم المغذيات الذاتية لظهور الخطاب المتطرف وسرعة انتشاره بحسب الاستقراء ومراقبة الواقع، وإذا انضم إليها ما سبق ذكره من أشهر الأسباب الموضوعية نستطيع تكوين تصور شبه متكامل عن شرايين التطرف ومغذياته في مجتمعاتنا المسلمة.

الخاتمة:

كثيرةٌ هي أسباب ظهور الخطاب المتطرف، بعضها عميق، وبعضها مباشر، وبعضها ذاتي، وبعضها موضوعي، وقد اقتصرت هنا على تسليط الضوء على أقرب المؤثرات المحيطة بنا مما قد تمتد يدنا إلى تغييره يوما.. وهناك أسباب خارجة عن قدراتنا وتكمن في الأثر الدولي في هذا الباب، ولعل من أهمها التسلل الاستخباراتي الغربي والإسرائيلي والإيراني إلى داخل بعض التجمعات الإسلامية السنية وزراعة العملاء فيها - منذ سقوط الخلافة العثمانية - وتأمين الدعم الإعلامي اللازم لها لإشعال نيران التطرف في أماكن تواجدها، يضاف إلى ذلك عمل بعض أنظمة الحكم في الدول الإسلامية على نشر التطرف والتكفير لاستخدامه في مواجهة دول إسلامية أخرى منافسة أو معادية لها.

ونجد لهذه الحواضن البيئية للتطرف دعمًا ماليًا ولوجستيًا في معظم الدول الأوربية والأمريكية وكثير من دول آسيا وإفريقيا، حيث يسيطر حملة هذه الأفكار التكفيرية أو المتطرفة على مساجد ومراكز إسلامية كثيرة في هذا العالم، وتعمل معًا على نشر تصورات متشددة وخاطئة عن الدين والشريعة، تجعل المتدين عن جهل مستعدًا لتلبية أول نداء للقتال أو التطرف في أي بقعة من هذه الدنيا دون معرفة بالعدو أو الأرض والواقع الذي سيذهب إليه.

ونهاية؛ يمكننا القول: إن علاج قضية الخطاب الديني المتطرف تكمن في علاج الأسباب التي أدت إليه، أو على الأقل محاولة تطويق آثارها التي تصل إليها أيدينا وتطيقها قدراتنا المحدودة، وذلك من خلال ترشيد الخطاب الديني والأخذ على يد دعاة الغلو والجهل أو الانحلال، وتنظيم العمل الإسلامي وترشيد الطاقات.

كما أن فتح باب الاختيار السياسي، وإقامة القضاء النزيه وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية وتحسين الأوضاع الاقتصادية؛ كل هذا كفيل بكبح جماح التطرف المصنوع والمسيس، ليحل محله مشروع إسلامي ناضج تجتمع فيه إرادة المسلمين على كلمة حق ورشاد.. والحمد لله رب العالمين.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة االأولى هنا 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين