المستقبل الأخلاقي للجيل القادم

نوفل عبدالهادي المصارع

 

ألا تستغرب من قولك لمن حولك: هل اليوم الأحد أو الاثنين؟ فيقال لك إنه الثلاثاء!
ألا تحار من السرعة التي أنهيت بها دراستك الجامعية أو العليا، وأنت الآن لا تتذكر حتى الجهود التي بذلتها؟
هل تفكر أحيانًا: كيف أصبحت زوجًا منذ أكثر من عشر سنوات، وجُلّ ما تذكره هو طلبك لأمك العزيزة البحث عن زوجة صالحة؟

ألا تعجب بعد قولك: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله"، عندما ترى أولاد جارك وقد أصبحوا في مرحلة المراهقة، وكل ما تذكره أنهم كانوا أطفالا يلعبون ويمرحون عندما شاهدتهم آخر مرة؟
في السنوات الأخيرة بدأنا نحس بتغييرات (Transformation) عظيمة لم نعهدها من قبل بكل أوجه الحياة المختلفة، فهذه أساليبنا في الحياة وطرقها (Lifestyles) قد تغير حالها وتبدل إلى طور جديد كليةً، ربما لا نقتنع أحيانًا بأننا نلامسه ونعيش فيه، ونلاحظ أيضًا تكنولوجيا تسابق الوقت والأيام وكأنها تسبقها، وأجزم بأن ما نشاهده منها ما هو إلا ما يريد الذي يصنع ويبتكر ويفكر أن نشاهده، فما خفي أعظم، وربما لا يصدقه العقل.

وقد استفز الفكر قول إدوارد كورنيش (Edward Cornish) مؤلف كتاب استشراف المستقبل (futuring) الذي تم نشره في سنة 2004 بقوله: "إن الأمر لا يتعلق بهذه التغييرات وحقيقتها، ولكن بالسرعة المذهلة التي تحدث بها!"، ويسترسل ويقول: إن القرن العشرين لم يكن في حقيقة الأمر يمثل "مائة سنة" قياسًا بمعدل سرعة تقدم (Progress Rate) القرن الحادي والعشرين حتى الآن، إذ إنه لا يتعدى بهذا المقياس "عشرين سنة" من التقدم والرقي، علمًا بأن هذا المعدل تزيد سرعته بصورة مطردة ومذهلة هذه اللحظة، أي أن أربع عشرة سنة من هذا القرن سوف تساوي القرن الماضي، وأن سبعة منه سوف تساويه بعد ذلك أيضًا، وهكذا دواليك، حتى يساوي هذا القرن عشرين ألف سنة من الازدهار والتقدم موازنة بالقرن الماضي، أي أنه أسرع منه بألف مرة.

في رأيي، إن من أعظم العوامل التي تهدم المجتمع أو تبنيه، ترفعه أو تخفضه، تجعله "خير أمة" أو غير ذلك، هي ثقافة هذا المجتمع أو ذاك، ودعنا نُعرفها حتى لا نستعمل هذا المعنى أو ذاك السياق، وأيضًا حتى نتفق على المفهوم، فالثقافة هي النشاطات الإنسانية التي يقوم بها الإنسان بصورة فردية أو مؤسسية أو مجتمعية أو غيرها، وهذه النشاطات تحدث نتيجة تفاعلات اجتماعية معقدة، وتراكمات تاريخية ومعرفية طويلة، وما تحتويه من عقائد وقيم ومعارف وممارسات على مر السنين تظهر لنا على شكل أفكار ومفاهيم وسلوكيات وأساليب تواصل، نراها ونشعر بها، فنتفاعل معها وهكذا، وهذا في مجمله يساوي مواقفنا في الحياة (Attitudes) واستجابتنا لظروف الحياة المتحولة (Transition) وردود أفعالنا تجاهها، علمًا بأن هذا المزيج الثقيل بمكوناته المتغيرة يتغير مع الأيام والسنين، وبناءً عليه نتعرف أدوات وطرقًا جديدة تساعدنا في حياتنا اليومية، وفي نفس الوقت نتخلص من أخرى قديمة وهكذا...

وعلى أساس ذلك، يرى مؤلف الكتاب أن وضع هذه التغييرات العظيمة التي تمر بها المجتمعات الإنسانية بمختلف تصنيفاتها في سياق تحولاتنا الثقافية وتقدمها (Cultural Evolution) سوف يجعلنا أكثر فهمًا لوضعنا الحالي، وأقدر تفهمًا لما يحدث به من ظروف متقلبة، وذلك حتى نعرف ملامح المستقبل، ولكن - وهذا مهم جدًّا - ولأننا بشر، عادةً ما ننغمس في ثقافتنا إلى درجة لا نشعر بها، مع أنها وسيلتنا الوحيدة للتعامل مع العالم المحيط بنا، مما يجعل من قراءة هذه الملامح المستقبلية أمرًا صعبًا أحيانًا أو غير ذي أولوية، لذا يبدو واضحًا وجليًا أن سرعة حدوث الأشياء وتغيرها حاليًا وانغماس الناس في ثقافتهم سوف يؤدي بلا شك إلى تحولها إلى مجموعة ثقافات جزئية غير مترابطة من هنا وهناك، مما يضعف الأمة ويصيبها بالوهن.

لا شك أن مكونات الثقافة بينها علاقة وثيقة وشائكة، ومكونات هذا الخليط الإنساني العجيب ونسيجه الصعب بأجزائه المتغيرة تحتاج إلى أساس متين يدل هذا الإنسان على المنهج الصحيح، ويضبط عمله وسلوكه، وهذا يتمثل في التشريع الإلهي بما يحويه من عقائد وتوجيهات، لذا نجد الرسول الكريم اهتم اهتمامًا كبيرًا بالبناء العقدي والنفسي والأخلاقي للمسلمين، وليس المادي، لما لهذا البناء من أثر عميق في تكوين شخصية الإنسان ومنهجه.

وأعتقد أن من أهم المحاور التي تهمنا عند حديثنا عن مستقبل ثقافة المجتمع: المحور الأخلاقي؛ لأنه يعد من أهم مقومات بناء المجتمع أو انحطاطه، ويرتبط بهذا المحور الأثر الذي قد ينعكس على عقيدتنا الإسلامية الصحيحة وثقافتنا الراسخة والعريقة في قابل الأيام، ولا ننسى مع كل هذا أن الأصل هو بقاء طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق، وهو من الأحاديث النبوية العظيمة التي عنيت بالحديث عن المستقبل، فقد قال الرسول ‏صلى الله عليه وسلم: ‏"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" [صحيح البخاري]، والسؤال الذي ما برح يرن برأسي: ما شكل ثقافتنا الأخلاقية وملامحها التي سوف نعيشها بعد عشر أو عشرين سنة قادمة أو أكثر؟
بصراحة، أصبحت أخشى حتى من التفكير في الإجابة، ولكن من منطلق التفكير العميق في الأشياء بقصد الوصول لنتائج فاعلة ومحركة لازدهار المجتمعات أخلاقيًّا، سوف أتحدث عن الأداة التي قد تساعد بصورة كبيرة في الإجابة عن هذا السؤال، وهي استشراف المستقبل، وهو ليس توقع المستقبل نفسه، ولكن فهم المتغيرات الحالية وبناء توقعات معينة في ظل التغيرات والتحولات الحاصلة في حركة المجتمع المستمرة؛ من تعليم وإعلام وتربية واقتصاد وثقافة وفنون ورياضة وعادات وسلوكيات وغيرها من عناصر أخرى مهمة، وذلك لوضع الخطط المناسبة في محاولة لتحسين أحوال المستقبل وظروفه وتطويرها، فنحن نريد توقع أموره حتى نتجهز لها، ونعرف فرصه المتوقعة ومخاطره المحتملة حتى نكون مستعدين لمواجهتها والتعامل معها، بمعنى أن نرفع من مستوى استعدادنا لهذه التحديات قبل أن تأتي، وإن أتت فنحن نتعامل مع جوهرها وليس أعراضها كما هو شأننا هذه الأيام، لذا فإن القراءة السابقة لمستقبل القنوات الفضائية مثلا وما تحتويه من برامج وفعاليات، وتحديد ملامح مواقع الإنترنت المستقبلية يساعدنا على الأقل أن نكون أكثر استعدادًا لها وأقدر تعاملا مع آثارها السلبية في المجتمع ومكوناته ونعرف كيف نستخدمها كأدوات تبنيه وترتقي به.

دعني أتحدث بتفاؤل جم - فالرسول الكريم كما نعلم يحب الفأل وأهله - من خلال إثارة بعض الأسئلة لك أنت يا مَنْ تقرأ:

- هل أنت راضٍ عن مستوى الأخلاق في مجتمعك المسلم؟ وهل فعلا نعيش بوقت يضبط به المسلم تعاملاته الإنسانية من خلال أخلاقيات المسلم الحقيقي؟

- هل هناك وفرة من الشخصيات المسلمة في مجتمعك التي تود أن تكون مثلا لك بعد الرسول عليه السلام؟
- هل هناك احترام حقيقي لقوانين الدولة وأنظمتها بمختلف المجالات، بالطبع بشرط أن لا تكون بمعصية الخالق؟
- هل تأخذ حقوقك الوظيفية كاملة مثلا دون واسطة أو تدخل من آخرين بصورة أو بأخرى؟

- ماذا عن الألفة وإفشاء السلام؟ هل هما بصحتهما وعافيتهما؟

- وهل الثقة موجودة ما بين الناس فتشعر بها وتراها؟
- كيف ترى مسار علاقاتنا الاجتماعية والتواصلية؟ إلى ضعف أو إلى قوة؟

- كيف ترى لهفتنا على الدنيا ومتاعها؟ أبازدياد أم نقص؟
بطبيعة الحال هناك الكثير من الأسئلة، ولكن القصد منها إثارة الانتباه، وليس الدخول في تفاصيلها التي إن بدأت فلن تنتهي، وقد تكون أجوبتك هنا بناءً على فهمك للأمور ومعرفتك بها، فأنا لا أتحدث هنا عن رأي قد نختلف عليه أو لا، ولكن أنا أتكلم عن موضوع خطير للغاية سوف يجعل بعضًا منا قد يحيا غريبًا في مجتمعه المسلم في المستقبل المنظور بسبب هجرتنا لأخلاق القرآن، إلا ما رحم الله، لذا أدعوك هنا لإدراك هذه التساؤلات وليس معرفتها فقط، إذ إن معرفة أمر ما تعني الارتقاء بالفهم ولكن بنفس المستوى والجانب، ولكنني أطلب منك أن تحيط بهذا الأمر بكماله قدر الاستطاعة، أي أن تراه من جميع جوانبه، وأن لا تترك زاويةً إلا وقد مررت عليها حتى نصل بإذن الرحمن إلى معرفة الخلل - إن وجد - الذي يجعل من ثقافتنا الأخلاقية - في غالب الأحيان - مزيجًا غريبًا علينا، لا نكاد نعرفه، ولكننا بنفس الوقت نعيش فيه ونقول ونفعل استنادًا عليه.

وحتى يكون مستقبلنا الأخلاقي بالمفهوم الذي طرحته هنا أكثر إشراقًا بنور هذه الشريعة السمحة والعقيدة العظيمة، فيجب برأيي أن نقترب أكثر من مصدر النور، وأن نلازمه ونعتني به، فنحن بدون هذا الضياء سوف نكون أمةً زائدةً على هذه الخليقة، وسوف نستخدم "أنوارًا" أخرى دنيوية لا تضيء الدرب ولا تدلنا عليه، لذا أرى بكل تواضع أن نبدأ بخلق رغبة قوية وذاتية للتغيير الإيجابي تخص النفس لم يسبق لها مثيل لتغيير ثقافتنا الاجتماعية والسلوكية الخاصة بنا والتي لا تتواءم مع عقيدتنا الحقة، فإن صلحت العقيدة بمفهومها الشامل صلحت كل شؤوننا الدنيوية وكان الفوز بالآخرة نتيجة طبيعية للإنسان المسلم.

إن الحديث عن أخلاقنا الإسلامية العريقة وأغوارها التي أتمها الرسول صلى الله عليه وسلم، ينعش النفس، ويجعل للعقل لذة جميلة يتغير طعمها من موضوع إلى آخر في حال تأملها والتفكر فيها وتعلم طرائق تفكير جديدة تساعدنا على التغيير الطيب المُبارك حتى تكون هذه الدنيا محورًا للارتقاء الإنساني، فتنمو المجتمعات، فتسمو، فتزدهر، ونتذكر بعدها الإيمانيات في المقام الأول، وليس الماديات، ونستعرض قوتنا الأخلاقية الباقية وليس المالية الفانية، ولكن شرط استمرارية فلاح هذه المجتمعات الإسلامية هو التمسك بهذه العقيدة وبمنهج السلف الصالح، وإلا فلن نرى في المستقبل القريب إلا مزيدًا من الغربة المجتمعية التي سوف نضطر لتذوقها، لذا يجب علينا أن نستعد لذلك من خلال تمكين الدعائم الأخلاقية المعروفة في المجتمع المسلم من خلال التخطيط الاستراتيجي المبني على الحقائق والدراسات وليس على المفردات والمصطلحات، إذ إن تغيير المجتمعات إلى الأفضل لا يدير نفسه بنفسه، بل يحتاج إلى قيادة وقادة، وإدارة ومديرين، وإلى أناس صادقين في رغبتهم التغييرية نحو منهج وطريقة حياة لا تخالف منهج الرسول عليه السلام وصحبه، والله المستعان.

من موقع الألوكة    

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين