خيريَّة أمَّة 

علينا أن نوحد النموذج الذي يعكس خيرية الإسلام وقيمه الربانية، لنكون بحق كما أكرمنا ربنا بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران: آية 110]، خير أمة في استقامتها وتقواها، خير أمة في أدائها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والتربوي، خير أمة في خُلقها وتعاملها الفردي والجماعي.

خير أمة في تحقيق حرية الإنسان وكرامته وحقوقه.

خير أمة في أمنها واستقرارها وعدلها ومساواتها.

خير أمة في تراحمها ورحمتها فيما بينها وبين غيرها.

خير أمة في سيرها الحضاري والإنساني والفكري والثقافي.

خير أمة في التنافس في الخبرات والتدافع الحضاري.

لأجل هذا أرسل الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس بشيرا ونذيرا وهداية ورحمة ومتمما لمكارم الأخلاق، ومكملا لما بعث به الأنبياء من قبله، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سورة سبأ: آية 28]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: آية 107].

عالمية الإسلام بدأت من مكة قبل أن تقوم للإسلام دولة في المدينة، وقبل أن تكون للمسلمين قوة، لأن الإسلام قويٌ بمنهجه المنزل من رب العالمين الذي تكفل بحفظ كتابه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: آية 9].

كانت بعثته صلى الله عليه وسلم منعطفًا تاريخيًّا في حياة الناس جميعًا، وتحولًا حضاريًّا متميزًا في نهج حياتهم وثقافتهم تحول معها الخطاب الثقافي من مقررات قومية الأديان إلى عالمية الإسلام وشموله، ومن عزل المجتمعات البشرية وتضادها وتصارعها إلى وحدة الأسرة البشرية وتعاون مجتمعاتها، حيث سمع الناس أول مرة في التاريخ البشري فكرة الإخوة الإنسانية ((يا أيها الناس إن ربكم واحد)) ((يا أيها الناس إن أباكم واحد)).

وسمعوا أول مرة مبدأ التعارف لأجل التعايش بينهم، من غير تمييز إلا بالاستقامة والعمل الصالح، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة الحجرات: آية 13].

ولأول مرة تطرق مسامعهم دعوة إقامة العدل بينهم، والتواد والتراحم في تعاملهم، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [سورة النحل: آية 90].

لقد جعل الإسلام العدل قضيته الأولى، وقد أمر سبحانه أن يكون العدل مع الجميع دون تمييز، حتى في حال الخصومة والعداوة، قال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة: آية 8].

بالأسوة الحسنة، والأنموذج الحضاري النظيف نقول للناس بجدارة ما رسالة الإسلام السمحة العادلة، وبالأنموذج الحيّ وفق تعاليم القرآن والسنة فقط نستطيع التدليل على معنى صلاحيّة الإسلام لكل زمان ومكان، ونستطيع على أساس من ذلك كله أن نكون بحق حملة رسالة خير أمة أخرجت للناس، ونكون جديرين برتبة الوسطية التي بوأنا الله موقعها بين الأمم قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سورة البقرة: آية 143].

بالعمل بتعاليم القرآن السامية بإقامة الحق وإماتة الباطل والمسارعة في الخيرات والإيمان بالله؛ نرتقي إلى شرف مهمة الشهود الحضاري على الناس، قال سبحانه: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [سورة الحج: آية 78].

وإذا رجعنا إلى تاريخ خير أمة نجد الخليفة الراشد العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أروع المُثل بالإنصاف وإقامة العدل بين الأمم؛ يوم أن أنصف القبطيَّ من ابن واليه على مصر عمرو بن العاص، وقال في تلك المناسبة وهو يخاطب ابن الأكرمين ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)).

وقد حفظت الإنسانية الصادقة لعمر هذا الفضل في إقامة العدل، ومما جاء في أخبار الثورة الفرنسية أن خطيبها المسيو لافاييت عندما قرأ بيانها الأول، ومر على المادة الأولى فيه، والتي تقول: (يولد الرجل حرا، ولا يجوز استعباده)؛ رفع رأسه قائلا: (أيها الملك العربي العظيم عمر بن الخطاب أنت الذي حققت العدالة كما هي).

ويقول المؤرخ غوستاف لوبون في "حضارة العرب": (لم تكن القوة عاملًا في انتشار القرآن قطعًا، فقد ترك العرب المغلوبين أحرارا في المحافظة على دينهم، وإذا اعتنقت الشعوب النصرانية دين غالبيهم فذاك لأن الفاتحين الجدد بدوا أكثر عدلًا نحوها مما كان عليه سادتها السابقون).

هكذا كنا الأسوة الحسنة وخير أمة أخرجت للناس، فالواجب علينا نحن المسلمين في إطار المهمة الربانية أن نقدم اليوم الأنموذج الرائد "خير أمة" في ميادين عمارة الحياة على أسس راشدة، وأن نكون الأسوة الحسنة في الأداء الحضاري، وفي ميادين الإنتاج والاستهلاك.

علينا أن ندرك أن مهمة الاستخلاف في الأرض إنما هي أمر أساس في تحقيق العبودية لله تعالى، بل هي الشق العملي والتطبيق لما وقر في القلوب، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة: آية 105]، {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود: 61]، هذا ما ينبغي أن نؤكد عليه في مناهجنا العلمية والتربوية والثقافية.

ويجب علينا في تربية شبابنا أن نعلمهم العبادة بمفهومها القرآني الواسع الشامل لكل جوانب الحياة الروحية والمادية، ليستقر في تربية الأجيال واعتقادهم أن عمارة الأرض وإقامة الحياة من صلب العبادة الخالصة لله تعالى.

إن الخطأ القاتل الذي وقع فيه بعض المسلمين أنهم تصوروا أن الدين عبادات شعائرية بينما هو أيضا عبادات تعاملية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس...)) والخمس هي القواعد وليست البناء، لأن البناء الذي يقوم على هذه القواعد هو بناء أخلاقي تعاملي، نصت عليه نصوص الشريعة بأوضح العبارات وأجلاها.

لقد نصت الشريعة على أن العبادات الشعائرية لا تحقق القبول التام والغاية المقصودة منها إلا إذا صحت العبادات التعاملية، والورع ليس بالمظاهر، وإنما في الحلال والحرام، وحفظ حقوق الناس، وفي التعامل الأخلاقي.

ذُكر رجل في بعض مجالس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشهد له بعض من حضر، فقال عمر للشاهد: (هل صحبته في سفر؟) فقال: لا، قال: (فهل ائتمنته على شيء؟) قال: لا، قال: (ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد)([1]).

يرى عمر أن استقامة الإنسان تظهر في التعامل بالدرهم والدينار، وفي السفر، وفي الجوار، ولا يكفي أن نراه في المسجد يصلي، فالأمر ليس كذلك إذ نحن بحاجة إلى عبادات تعاملية أخلاقية، إلى جانب العبادات الشعائرية، حتى نكون بحق خير أمة أخرجت للناس.

والمفلس المشهور في السنة أوضح مثال على العلاقة بين العبادات الشعائرية والعبادات التعاملية، إذ رسب في الامتحان نتيجة لإهماله العبادات التعاملية لا بسبب العبادات الشعائرية، ولقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الجاد في العبادات الشعائرية، ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِى يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ)) ولكنه مقصر في العبادات التعاملية ((وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا))، ونتيجته كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ))([2]).

في المقابل نجد أن الشخص الذي حَسن خلقه قد يبلغ درجة الصائم القائم، قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ، دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ))([3]).

ومن هنا نقول: إن الشعائر العبادية لا تستقيم دون الشعائر التعاملية، وهي حسن الخلق، وأن تلك الشعائر إذا لم تثمر أخلاقًا فاضلة، فعلى المرء أن يراجع نفسه! ولقد ربط القرآن بينهما بقوله سبحانه عن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة العنكبوت: آية 45]، وبقوله عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [سورة التوبة: آية 103]، فقد أثمرت الصلاة سلوكًا قويما وأثمرت الزكاة طهارة في النفس، وكذلك الأمر في الصيام، فالعبرة ليست بالجوع والعطش، بل بما ينتج من حسن الخلق، وفي الحج لا رفث ولا فسوق ولا جدال.

وإن هذا لا يعني أبدًا التخلّي عن شعائر العبادات كما يدعو بعض المنحرفين، وإنما بيان لتعاليم الإسلام في الربط الشديد والتكامل التام فيما بين العبادة والمعاملة.

نعم إن العبادات المقبولة في الإسلام هي ما تنتج سلوكًا حسنًا ينعكس على حياة الإنسان المسلم في تعامله مع نفسه أو ربه أو الآخر المحيط به، وهذا جوهر الرسالة المحمدية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ))([4]).

نعم بالاستقامة وحسن المعاملة والأخلاق كنا خير أمة أخرجت للناس، وبدون هذه الاستقامة في الخُلق والسلوك لن توجد "خير أمة".

ومن الظواهر المخيفة التي بدأت تنتشر عند بعض المسلمين؛ ظاهرة التدين البديل، وهي ظاهرة خطيرة تجتاح كافة طبقات الأمة ومستوياتها، فمثلًا قد نجد بعضا من ضباط الاستخبارات وأمن الدولة ملتزمين دينيًّا يؤدون الصلاة، ويصومون، ويحجون، لكن ذلك لا يمنعهم من ممارسة عملهم اليومي في الضرب والتعذيب وظلم الأبرياء.

وأحد هؤلاء مسؤول بارز في الحكومة المصرية، اشتهر بتزوير الانتخابات، والاعتداء على استقلال القضاء، وهو معروف في محيط الأسرة بالتدين، حتى إنه يعطي أقاربه دروسًا في الدين.

وهكذا نجد بعض المسلمين يؤدون فرائض الدين، ولكنهم في حياتهم اليومية يتصرفون بطريقة أبعد ما تكون عن الدين.

المسألة إذن ليست مجرد نفاق أو جهل، وإنما هي تصور فاسد عن الدين، يؤدي إلى نوع من التدين الظاهري الذي يشكل بديلا عن التدين الحقيقي الذي جاء به الإسلام، وهذا التدين البديل مريح وخفيف ولا يكلف جهدًا ولا ثمنًا، لأنه يحصر التدين في العبادات الشعائرية والمظاهر دون أن يكون لها أي تأثير في حياتهم العملية.

ومع الأسف نجد أكثر الناس في هذا العصر وقعوا في التدين البديل، فكيف يمكن أن يكونوا الأنموذج الحضاري لخير أمة؟

إن الدفاع عن مبادئ الإسلام الحقيقية التي هي الحرية والمساوة والعدل مسألة محفوفة بالمخاطر في نظر هؤلاء، لأنها قد تؤدي بهم إلى السجن وقطع الرزق والتشريد والقتل.

أما التدين البديل فلن يكلفهم شيئا بل يمنحهم إحساسًا كاذبًا بالطمأنينة والرضا عن النفس.

إن الذين يتبنون التدين البديل يُصلّون ويصومون، ويحيّون الناس بتحية الإسلام، ويلزمون زوجاتهم وبناتهم بالحجاب، وربما اشتركوا في مظاهرة ضد منع الحجاب في فرنسا أو غيرها، وهم بعد ذلك يعودون إلى بيوتهم وكلهم اعتقاد جازم بأنهم أدوا واجبهم الديني كاملًا غير منقوص.

المتدين تديُّنًا بديلًا لا يعتقد أساسا أن له حقوقا سياسية كمواطن وعليه واجبات إصلاحية تجاه مجتمعه أو أمته، ولا تشغله فكرة الشورى ولا العدالة، وأقصى ما يمكن أن يفعله في هذا الصدد أن يدعو الله أن يُولّي علينا من يصلح، ثم يحدثك عن الخلفاء العظام مثل عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز، دون أن يحدث نفسه بالمشي على طريقهم.

التدين البديل مرض محزن أصاب المسلمين فأدى بهم إلى السلبية والغفلة، وجعلهم قابلين للاستعمار والاستبداد والقمع، والتأقلم المريح مع كل أنواع الاحتلال أو الظلم الممارس على مجتمعاتهم.

إن انتشار التدين البديل له أسباب عديدة منها:

وجود التناقض الفاحش بين المظهر والجوهر في المجتمعات الإسلامية، ففي القنوات الفضائية يظهر عشرات المشايخ يتكلمون عن الذكر والطلاق وقيام الليل وقراءة القرآن مع التبجيل للحاكم الظالم المستبد دون أن يتحدثوا عن حقوق الإنسان في انتخاب من يحكمه، أو قوانين الطوارئ، أو سرقة أموال الأمة، والتعذيب والتشريد، وهم يظنون أنهم يقومون بأداء رسالة الإسلام بينما هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم ويخدعون الناس بهذا التدين البديل، عندما يقدمون لهم صورة منقوصة ومشوهة عن دين الله ورسالة الإسلام.

إذا أردنا أن نُقيم نموذج خير أمة لا بد من تربية المسلم على العبادات الشعائرية والتعاملية، العبادات الروحية والأخرى الإنسانية، لأن التكامل والتلازم بين هذين الصنفين من العبادات هو من مقتضى تمام الإسلام والإيمان وكمالهما.

قد يسأل سائل ويقول: لقد عرفنا العبادات الروحية والشعائرية، فماذا تقصدون بالعبادات التعاملية الحياتية؟ وما العلاقة بين العبادتين؟

إن على هذا السائل أن يتأمل جملة من نصوص الإسلام ليصل إلى جواب سؤاله، ليتأمل مثلًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ))([5])، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ... وَلِأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ - شَهْرًا))([6])، وليتأمل مع ذلك قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [سورة البقرة: آية 148]، وقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [سورة الملك: آية 15]، وقوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا} [سورة التوبة: آية 105]، وقوله سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود: آية 61].

إن كل هذه الأدلة من القرآن والسنة تؤكد على الجانب العملي الميداني في عبادة الله، وأن البدعة الكبرى هي تعطيل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحياة.

إن الفتنة والبدعة هي في الانصراف عن مراد الله في عمارة الكون، والبدعة والانحراف كل الانحراف هو في القعود عن تفعيل رسالة القرآن العالمية الخالدة وحبسها في سجون الهوى والعادات والتقاليد والمظاهر.

والفتنة والبدعة هي في تحجيم الإسلام ورسالته العالمية، وتحويلها إلى طقوس وهيئات كهنوتيه، وتفريغها من غاياتها ومقاصدها الربانية في إقامة كيان "خير أمة" من خلال تأسيس الحياة الكريمة للناس، وسيادة العدل والأمن والسلام فيما بينهم.

إن العبادة الروحية من شأنها أن تصقل النفوس وتهذبها وتؤهلها للسير باستقامة وأمانة وصدق وإخلاص وأخلاق في ميادين الحياة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: آية 13]، والعبادة الحياتية التعاملية هي التي تؤهل الإنسان عمليًّا وتزوده بالعلم والمهارة والخبرة، ووسائل الإبداع والارتقاء، وبكل وسائل العمارة والبناء في محاريب العبادة الحياتية التعاملية، وبالعبادتين يستطيع المسلم أن يُمثِّل خير أمة ويقدم النموذج الإسلامي للعالم.

بالتكامل والتلازم والتواصل بين العبادتين الروحية الشعائرية والتعاملية تتحقق وحدة البناء التربوي والثقافي للإنسان، ومن خلالها يكون مؤهلًا لأداء واجباته في الحياة بإيمان وإخلاص.

وهكذا فإن نموذج خير أمة يقوم على مرتكزين اثنين رئيسين هما:

1_ مرتكز الإيمان والقيم والمبادئ والأخلاق.

2_ ومرتكز الماديات والوسائل والمهارات.

فالتكامل بين {فَاعْلَمْ} وبين {فَامْشُوا} هو أساس التكامل والتلازم بين العبادة الروحية والعبادة التعاملية الحياتية، هذا هو الأساس الصحيح لتأسيس نموذج حضاري عادل وراشد لخير أمة أخرجت للناس.

وأحسب أن اختلال العلاقة بين النظرية والتطبيق، وبين {فَاعْلَمْ} و {فَامْشُوا} هو من أخطر مصادر الخلل الحضاري والأمني في المسيرة المعاصرة.

========

([1]) رواه الحكيم الترمذي في أدب النفس، وابن قتيبة في عيون الأخبار.

([2]) رواه مسلم والترمذي وغيرهما.

([3]) رواه أبو داود وأحمد.

([4]) رواه أحمد والبيهقي والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما بلفظ "صالح الأخلاق"، وفي الموطأ بلفظ "حسن الأخلاق" واللفظ المشهور رواه البزار وجماعة.

([5]) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

([6]) رواه الطبراني في الأوسط والكبير.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين