الإسلام في أفريقيا (54) العابد المجاهد أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد السبائي المتعبد

يوم الثلاثاء لثمان بقين من رجب من سنة (356هـ/966م) صعدت روح السبائي رحمه الله إلى الرفيق الأعلى. وكان مولده سنة (270هـ/883م). وأجداده من طرابلس.

كان أبو إسحاق وقّافاً عن الشبهات، مشهوراً بالعبادة، لا يدانيه أحد في ذلك من أهل وقته، شديد الغلظة على أهل البدع، كثير التنبيه على أحوالهم وزندقتهم، وثق بالله فحماه، وتوكل عليه فكفاه. وكان لا يُغتاب عنده أحد من المسلمين إلا مبتدع أو ملحد.

أبطأ عليه الرزق مرة، فقال في نفسه: امض فادخل فيما يدخل فيه الناس وتعرض للرزق فيما يمكنك. فخرج من موضعه إلى موضع يلتمس فيه الرزق، فسمع معلماً يقرأ في هذه الآية: (لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين) فانتبه ورجع إلى بيته وجلس، فدخل عليه بعد ذلك رجل من إخوانه فقال له: هذا دينار فخذه سلفاً، فأخذه ومضى به فاشترى به أبداناً، فكان يقصرها في داره على البئر، فكان يربح في البدن قيراطاً أو نحوه. فقام له من ذلك معاش كثير كما حدّث هو.

كان - كما يصفه أهل زمانه - ولياً لله عز وجل من الذين ينزل بدعائهم القطر، وتظهر عليهم البراهين والعجائب والكرامات بالدعاء والرقى.

ولقد كان من بالقيروان من أهل الدين والعلم إنما ينظرون إذا نزلت المعضلات إلى ما يفعل، إن أغلق بابه فعلوا مثله، وإن فتح بابه فتحوا أبوابهم، وإن تكلم ونطق تكلموا مثل كلامه لتقدمه عندهم ومكانه من الفضل والعلم مع المعرفة بمحنة الوقت وكيف تلقى الحوادث.

وكان السبائي شديد الأخذ على نفسه، شديد الورع. وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد الله. وكان الفقيه أبو محمد بن أبي زيد يصفه بكثرة الفضل والعقل ويقول: ما هذا الذي نحن فيه إلا من بركته ودعائه.

قال أبو الحسن الفقيه: ما انتفعت إلا بدعاء أبي إسحاق فإنه قال لي: أعلى الله تعالى قدرك في الدنيا والآخرة.

وقال أحمد بن نصر الفقيه: لا تعارضوا أبا إسحاق السبائي فلو وُزن إيمانه بإيمان أهل المغرب لرجحهم.

وسُئل أبو محمد بن أبي زيد فقيل له: أصلحك الله هل تعلم أحداً في أقطار الأرض يشبه أبا إسحاق السبائي؟ فقال: أما في إيمانه فما علمت أحداً يشبهه - يعني في وقته - .

محنة إبراهيم بن أحمد السبائي ومواقفه

حقد النعمان على أبي إسحاق فأمر بطلبه، وسجنه في حبس (الزيادية) مدة، فكان إذا قرأ في السجن اجتمع الناس في الأزقة خارج السجن، فخاف النعمان فأخرجه، فخرج أبو القاسم إلى الأندلس مهاجراً بدينه امتثالاً لقوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) وقوله: (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً).

ووصل أبو القاسم إلى الأندلس وحط رحله عند أميرها الحكم، فرفع به وأدناه.

وذكر أن أبا القاسم قرأ عند الحكم أمير المؤمنين رحمه الله في إيوانه في سورة إبراهيم: (ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون). فلما انتهى إلى قوله عز وجل: (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال) نزل الحكم من فوق سريره، وهو يبكي وينتحب، وجثا بين يديه.

وكان الحكم يقول: ليس أشتهي من دولة الشويعي إلا أربعة: أبو القاسم ابن أخت الغساني المقرئ، وابن الصيقل الشاعر، وابن الجزار الطبيب، وابن القصطلية المغبّر. فأما أبو القاسم ابن أخت الغساني وابن الصقيل فقد وصلا إليه وأقاما عنده حتى ماتا. وأما ابن القصطلية وابن الجزار فلم يصلا إليه.

قال الشيخ أبو الحسن الفقيه: كان الشيخ أبو إسحاق يحب الماء البارد حتى لقد كان يشرب الماء المبرد في الليالي. قال: فقال لأصحابه: أي شيء يبرد الماء؟ قالوا له: الأزقاق السودانية. قال: فقال له أبو محمد ابن أبي زيد الفقيه: عندي واحدة آتيك بها، فقال له: كم ثمنها؟ فغضب أبو محمد وقال: والله ما كانت إلا مرمية في المخزن تقول ايش ثمنها؟ قال: فردها عليه الشيخ ابو إسحاق، فقال ابو محمد عند ذلك: شيخ مبارك كلما قلنا إنا قربنا منه لم نزد منه إلا بعداً.

قال أبو الحسن: ولم يكن أحد عند أبي إسحاق مثل ابن ابي زيد ولا أعز منه. لكنه قد سدَّ باب القبول عن نفسه، فما كان يقبل من أحد شيئاً. يقول: ما تركت سائر القبول - يعني الهدية - إلا خوفاً من شغل القلب، إذ لابد لكل من قبل هدية من المكافأة، وترك ذلك عندي أسلم، فقيل له: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، فغضب عند ذلك وقال: لا نشبه نحن النبي صلى الله عليه وسلم، لو فعلنا نحن هذا لتمندلوننا.

قال الشيخ أبو الحسن الفقيه: دخل عبد العزيز بن أيوب يوماً على الشيخ أبي إسحاق السبائي - وكان يحبه - فقال له: أصلحك الله جئت إليك فلما وصلت إلى رحبة ابن أبي داود إذا بشيخ لم أر أجمل منه هيبة ولحية وهو يزمر بالزق، فبقيت أتعجب منه وأنظر إلى بياض لحيته وجمالها على الزق، فبدر الشيخ إليه وقال له: إيه، يا عبد العزيز إياك أن تقول لك نفسك إنك خير منه، لأنه مسلم ما بينك وبينه إلا أن يتوب ويراجع أمر الله تعالى، إياك أن تحدثك نفسك أنك خير منه، وأقبل يكرر ذلك عليه وقد صال عليه وتغيظ. ثم قال أبو إسحاق: والله ما أرى لي فضلاً على أهل الكبائر من المسلمين، فإذا رأيتم أهل البلاء فاحمدوا الله تعالى على العافية.

قال عبد الله (المالكي): فذكر عن رجل كان في مجلس أبي إسحاق في ذلك اليوم أنه قال: خرجت إلى مكة في العام المقبل فبينا أنا عند الطواف إذا بالرجل الزامر يطوف بالبيت، فقلت له: ألست فلانا؟ قال: نعم. فقلت: ما سبب توبتك وحجك؟ قال: لا أدري إلا أنه ألقي في قلبي التوبة فتبت. ثم خرجت إلى هاهنا فحججت كما ترى، فحسن حاله ونفعه الله عز وجل بدعاء الشيخ أبي إسحاق.

قال أبو القاسم بن شلبون الفقيه: حضرت يوم العيد أنا وصاحب لي، فطلع إسماعيل السلطان، وكان قد تغيّر لونه واصفر من الزمهرير الذي أصابه بطريق جلولاء فقال في خطبته: أيها الناس إن حُسَيناً أتاكم بنقطة من قلة، وهذه القلة بين أظهركم - يريد بحسين أبا عبد الله الشيعي لعنه الله - قال: فانصرفنا إلى مجلس أبي إسحاق فأخبرناه بهذا الكلام فقال: عجباً، نقطة من قلة خرقت المشرق والمغرب، اللهم أكسر القلة. قال الشيخ: فبعد أيام يسيرة مات إسماعيل.

قال أبو بكر بن عبد الرحمن الفقيه حدثني الشيخ أبو الحسن قال: لما دخل عبيد الله إفريقية وتم له ملكها تشرق ابن غازي المتعبد بقصر الطوب. لقد حدثني أبي (أبو بكر بن خلف) قال: لما توجه ابن غازي - لعنه الله - إلى عبيد الله ليدخل هو وأصحابه في دعوته، قيل لعبيد الله لعنه الله: قد أتى ابن غازي وأصحابه ليدخلوا في دعوتك، ويتصلوا بك. 

فقال: أدخلوهم الداموس، فلبس عبيد الله فرواً ودخل عليهم الداموس (حفير داخل الأرض ليس له مخرج) دابّاً على يديه ورجليه مثل الدابة، فقال لهم: بح، ورجع إلى سرير ملكه فلبس ثيابه وجلس، فأتى إليه أحد وزرائه فقال: يا مولاي أتأذن لابن غازي وأصحابه في الدخول عليك؟ فقال له: ولأي شيء يدخلون وقد فرغت من أمرهم، وحكى له ما فعل، فقال له: لابد أن يدخلوا وتبين لهم ذلك بلسانك، فأذن لهم، فدخلوا عليه، فقال لهم: أما رأيتم الذي دخل عليكم الداموس؟ قالوا: نعم. قال: أنا الذي فعل ذلك، فأما دخولي على يدي ورجلي فإنما أردت بذلك أعلمكم أنكم مثل البهائم لا شيء عليكم لا وضوء ولا صلاة ولا زكاة ولا شيئاً من الفروض، سقط جميع ذلك عنكم. وأما لباسي الفرو مقلوباً، فإنما أردت بذلك أن أعلمكم أنكم قلبتم الدين الذي كنتم عليه ودخلتم في هذا الدين. وأما قولي لكم: بح، فإنما أردت أن أعلمكم أن الأشياء كلها مباحة لكم: من الزنا، وشرب الخمر، وجميع ما حرم الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا -.

قال الشيخ أبو الحسن: وأخبرني من رأى ابن غازي راكباً على دابة وعليه رداء طويل، وهو في زقاق الروم، والناس حوله وهو يقول: يا ريان لا قود ولا ديّة - يريد بذلك إنه لا حرام ولا حلال، ولا حد ولا حكم -.

وحدث ابو بكر أحمد بن محمد بن يحيى القرشي، المتعبد الصقلي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن خراسان قال: كان ابن غازي ساكناً بقصر الرباط بسوسة، وكان قد بلغ من العبادة إلى غاية لم يبلغها أحد غيره في وقته، وكان له صوت حسن في القراءة فقرأ ليلة وأعلن بقراءته، فسمعه إبراهيم بن أحمد الأمير، فسأل عنه، فقيل له: هذا ابن غازي، فاستحسن قراءته وأعجبه حسن صوته، فذكر ذلك لابن غازي فقال: لو علمت أنه يسمعني لحبّرت قراءتي تحبيراً - يريد تحسين صوته - فخرج إبراهيم من سوسة إلى تونس، فتبعه ابن غازي إلى تونس، فهو ليلة في قصره بتونس ينظر إلى النجوم - وكان إبراهيم ينتحل علم النجامة - إذ سمع قراءة ابن غازي التي سمعها بسوسة، فقال لهم: سلوا عن هذا الرجل القارئ من هو؟ فسألوا عنه ، فعرفوا أنه ابن غازي فأخبروا بذلك إبراهيم بن أحمد، فقال إبراهيم: ما أرى هذا الرجل يموت على الإسلام، فلما وصل عبيد الله إلى إفريقية تشرق ابن غازي وكان في جملة النفر الذين قالوا لعبيد الله: أنت.. أنت…

ذكر الشيخ الفقيه أبو القاسم بن شلبون رحمه الله عن الشيخ أبي إسحاق السبائي أنه كان إذا رقى أحدا يقرأ في رقيته: (الحمد لله رب العالمين) و (قل هو الله أحد) والمعوذتين، كل سورة سبع مرات، ثم يقول - في آخر رقيته -: يبغض في عبيد الله وذويه، وحبي في نبيك وأصحابه وأهل بيته: اشف كل من رقيته، فيشفى بإذن الله سبحانه وتعالى.

رحم الله الشيخ العالم المجاهد السبائي وجزاه عن المسلمين كل خير وأسكنه فسيح جناته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين