الإسلام في أفريقيا (53) الشهيد محمد بن إسحاق الحبلي

قاضي برقة.. المعروف بابن خيرون.. كان فقيهاً صالحاً فاضلاً، عالماً نظّاراً، حسن الأخلاق سمحاً.

وليَّ قضاء برقة لإسماعيل، وكان ابن الكافي عاملاً عليها، فأتى إليه ابن الكافي فقال له: إن غداً العيد، فقال له: إن رئي الهلال الليلة كان ما قلت، وإن لم يُرَ لا أخرج لأنه لا يمكنني أن أفطر الناس يوماً من رمضان وأتقلد ذنوب الخلق، فقال له: بهذا وصل كتاب مولاي، فالتمس الناس الهلال تلك الليلة فلم يروه، فأصبح العامل إلى القاضي بالطبول والبنود وهيئة العيد، فقال له: لا والله، لا أخرج ولا أخطب ولا أصلي العيد ولا أتقلد أن أفطر الناس يوماً من رمضان ولو علقت بيدي.

ومضى ابن الكافي فجعل من يخطب ويصلي، وكتب بما جرى إلى مولاه السلطان إسماعيل.

فلما وصل إليه الخبر أمر برفعه إليه، فلما وصل قال له: إما أن تتصل بنا ونعفوا عنك أو نفعل بك ما قلت. فامتنع ابن خيرون من الدخول في دعوته، وقال: افعل ما شئت.

ونصب العبيدي لابن خيرون صارياً عند الباب الأخير من أبواب الجامع الذي يلي درب المهدي، وعلق بيده إليه في الشمس فأقام كذلك ضاحياً للشمس في شدة الحر يومه ذلك، فلما كان بالعشي مات رحمه الله.

مات ابن إسحاق الجبلي ولسانه خارج من العطش وهو يطلب من يسقيه الماء فلم يسق خوفاً من عامل البلد، وذلك في سنة (341هـ/1049م). فلما مات أخذوه رجال العبيدي وصلبوه بباب أبي الربيع رحمه الله، وكان الله عز وجل حسيب الظالمين والمنتقم منهم يوم الجزاء والدين.

القارئ المجاهد

أبو بكر يحيى بن خلفون المؤدب الهواري

كان من أقرأ أهل زمانه. وكان فاضلاً رحمه الله.

وكان قد ابتلي برجل مشرقي يقف بإزاء كتَّابه فيسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لينكيه بذلك ويغيظه، فلما أكثر عليه من ذلك قال لصبيانه: إذا أقبل فأخبروني، فلما أقبل أخبروه، فقام فاستخف في زاوية من زوايا الكتَّاب وقال لهم: إذا وقف وسبَّ فابتدروه وأدخلوه الكتَّاب، فلما أقبل على العادة وثب عليه الصبيان، فأدخلوه الكتَّاب وجعلوا رجليه في الفلقة، فلما فعلوا ذلك قال لهم الهواري: ارفعوا أصواتكم بالقراءة، وقفوا بالباب وارفعوا ألواحكم، ففعل ذلك الصبيان وأقبلوا يصيحون لكيلا يعرف أحد بذلك، ثم ضربه المؤدب ضرباً مبرحاً حتى أدماه وضربه على الرأس والظهر، فلما أعيا وكلَّ قام إليه الصبيان فقالوا له: يا مؤدب قد نلت أنت سهمك من ضربه فدعنا نحن ننال من ضربه مثل ما نلت أنت، فقال لهم: دونكم، فقاموا إليه فضربه كل واحد منهم ما قدر عليه، فلما لم يبق منه مفصل صحيح أخذوه بيد ورجل فرموه بالزقاق، فمرَّ به حّمال، فسأله، أن يحمله في القفة، فأتى الناس إلى الهواري فقالوا له: هو عند السلطان من حاله ومن شأنه كذا وكذا، فنخشى أن تمتحن على يديه، ولكن امض إلى فلانة الحرة، ولا سيما ابنها عندك في الكتَّاب، فقال لهم: أحسنتم وأصبتم، فصاح بالصبي ولد الحرة وقال له: كلما أقول لأمك شيئاً فصدقني عليه، فقال: نعم.

فمضى المؤدب بعكازه إلى دار الحرة، فضرب الباب، وقال: الهواري، فخرج إليه والد الصبي فقال له: ما قصتك يا مؤدب؟ فقال له: الحرة لابد لي منها، فأذن له في الدخول، فدخل عليها، فقالت له: ما شأنك يا مؤدب؟ فقال لها: أتى فلان إلى كتَّابي فعارض الصبيان في الفساد، فإن كنت لم تصدقيني فيما قلت لك فسلي الصبي يخبرك، فقال الصبي: نعم سألني في الفساد، فقالت: هذا الفاعل الضائع عليَّ به، فأُتي به إليها، فأخذ الهواري عصاه وأتى إليه فضربه برجله وقال له: أنا الهواري يا خنزير يا مشرقي.

محنة الهواري وجهاده

قال الشيخ أبو الحسن الفقيه رحمه الله: انتهى إلى أبي ذميم لعنه الله ما يتولى منه المؤدب الهواري من الشتم واللعن، فبعث في طلبه فوصل إليه صاحب المجوس، فدخل عليه وقال له: يا مؤدب، المعلم نصر يدعوك، فقال: من نصر؟ فقال له: السجّان. قال: فأردت التحيل في الانفلات فما وجدت، فأخذت قرقي وعصاي وإزاري ومضيت معه إلى سجن نصر، فأدخلوني فيه، وأتوا بي إلى غرفة في عتبتها حبل معلق، فقالوا: يا مؤدب، اطلع هنا، فقلت في نفسي: إنما أرادوا مني أن أتعلق بالحبل فينقطع بي فأسقط إلى الأرض، فأنكسر وأنا شيخ كبير، فجعلت يدي في العتبة وثرت، فصرت في الغرفة، فلما أن جلست دخل علي نصر وأعوانه ومعه قفة فيها الأنكال والأغلال، فقال: مدَّ رجليك يا مؤدب، فقلت: لماذا؟ فقال: أُمرنا بتقييدك، قال: فمددت رجلي، فلما أن قربت مني الأنكال دخل علي فتى جميل الوجه طيب الرائحة وقال: تنحوا عن الشيخ، وصاح عليهم، فقلت له: من تكون؟ فقال: أنا جوهر، فقلت له: أنت جوهر المذكور في مجالس العلماء والصالحين. وقلت في نفسي: باللعنة؟ فقال: نعم. فزالوا عني، ومضى بي، فأدخلني عند مؤدب ولده، ومضى يستأذن علي. 

ثم أقبل فأخذ بيدي وأدخلني على ابن بادية، وهو معد، وكذلك كان يسميه المؤدب، فلما أن دخلت عليه في إيوانه وهو جالس على سرير ملكه ورأيته، أقبلت وأنا ألعنه وأدخلت يدي تحتي وأنا أعقد السفافل وأقول في نفسي: ابن بادية هذه في عينك، هذه في قلبك.

قال: فلما أن قُربت منه قال لي: يا مؤدب، بما استحققنا الشتم منك تشتمنا وتلعننا؟ قال: فقلت له: على ابن خيرون قرأته وتصاممت له، وأريته إنما سألني على من قرأت. قال: قال: فكرر علي الكلام ورفع صوته وقال لي: بلغنا أنك تشتمنا وتطعن علينا، فقلت له: القرآن قائل هذا، وحولت ظهري وقلت له: من ها هنا يؤخذ الحد، ولم يدر ما تحت ذلك. ثم أمر لي بعشرة دنانير وصرفني وقال لي: يا مؤدب لا تعود. قال: فقلت له: القرآن قلت لك القائل هذا. قال: فانصرف معي جوهر ودفع لي الدنانير. قال: فلما صرت في سقيفة القصر قام إلي البوابون وأرادوا أن يأخذوا مني مما أعطاني، فلما رأيتهم ضيقوا علي صحت: يا أبا الحسن جوهرا، فجرى إلي وقال لي: مالك يا مؤدب؟ وزجر البوابين عني، فخرجت بها.

قال الشيخ أبو الحسن الفقيه: فصرّ الدنانير في صرة وقال لنا: هذه إنما أخذتها لأستعين بها على هدم قصرهم نعطي لكل رجل ربع درهم. قال: فكان يسأل عن الصرف فإذا أخبروه أنه زاد ربع درهم فرح وقال: زادني في الهدّامين رجلاً، فلما أن توفي رحمه الله وجدت الصرة في صندوقه على حالها وعليها مكتوب: هذه دنانير أخذتها من ابن بادية تصرف أرباعاً ويعطى لكل رجل ربع درهم لهدم قصرهم. ولم يمس منها شيئا.

قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله: وكنا يوماً في مسجد ابن خيرون ونحن نقرأ عليه حتى وثب قائماً وقال: قوموا معي، قال الشيخ أبو الحسن: فخرجت أنا وأبو الحسن ابن الجزري وأبو عبد الله بن الأندلسي ومن كان معنا، فوقف وقال: إذا قلت قولاً وفرغت منه فقولوا: آمين، ولا تختلف أصواتكم، فقلنا: نعم. فصاح بأعلى صوته وحول وجهه إلى جهة صيرة وقال: اللهم العن ذا الأمير الصنعاني. ثم قال: قولوا: آمين. قال: فعالجنا أن تتفق أصواتنا فلم نقدر، فنزق علينا، ثم قال: الهم العن ذا الأمير الديصاني فما اتفقت أصواتنا إلا عن جهد وشدة. قال: ثم أخذ عصاه وجاء إلى العمود الذي في المجنبة، فأقبل يطعن فيه بعصاه وهو يقول: ابن بادية هذه في قلبك، هذه في بطنك، هذه في عينك. قال: وهو في جهد حتى عرق عرقاً عظيماً، ثم دخل إلى المسجد فجلس وجلسنا حوله وهو يلهث ويقول: الحمد لله… الحمد لله…

قال الشيخ أبو الحسن: ومرض مرضة شديدة أشفى فيها على الموت. قال: فأريناه لابن الجزار الطبيب - وكان ابن الجزار على خلاف السنة - فلما رآه قال: ليس يغلّق الخمسة أبدا، هو ميت، فلما رجع الرسول من عنده قال له المؤدب: ما قال لك ابن الجزار؟ قال: فسكت الرسول. فقال له: أقال لك أني أموت من هذه العلة؟ فقال له: يا مؤدب لا تسأل عن هذا. قال: فقال لهم: اشتروا لي لحم بقري وباذنجان وقرعاً واعملوا لي سكباجاً محكماً، واشتروا لي خبزاً نقياً، فعملوا له ذلك، ثم أكل الجميع مع الخبز، ثم قال لهم: 

دثروني، فدثروه، فعرق عرقاً عظيماً، فلما كان بعد العصر أفاق من غمرته ووجد الراحة فقال لهم: أعطوني قرقي وعصاي، فأعطوه ذلك، فمضى إلى دار ابن الجزار.

وأخبر بعض من كان جالسا عند ابن الجزار قال: بينما نحن جلوس معه تلك العشية حتى سمع حس قرق، قال: فوثب ابن الجزار وقال: هذا حس قرق الهواري وطلع الدرج وردَّ الباب على نفسه ووقف خلف الباب حتى طلع الهواري فقال: أين هذا الجزار ابن الجزار الذي يقطع في حكم الله عز وجل ويقطع علي بالموت؟ وحق هذه القبلة لو وجدته جالساً لجعلت عصاي هذه بين أذنيه، قولوا له: يا كذاب هذا أنا صحيح سوي، بهذه العصا أحارب الدجال ثم مضى.

وبقي هذا القارئ المجاهد يتحدى العبيديين إلى أن صعدت روحه إلى السماء تشكو ظلمهم، وذلك في سنة (347هـ/958م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين