حدث في الحادي عشر من ربيع الآخر: معركة نصيب بين العثمانيين ومحمد على باشا الكبير

في الحادي عشر من ربيع الآخر من سنة 1255 المصادف 24 يونيو 1839، جرت معركة نصيب، في جنوبي تركية اليوم شرقي غازي عنتاب Nizip، بين الجيش العثماني وبين جيش محمد علي باشا الكبير حاكم مصر، وانجلت في ساعتين عن أكبر انتصار حققه محمد علي باشا في حروبه مع الدولة العثمانية، وعن هزيمة شنيعة للجيش العثماني، وجرت المعركة في عهد السلطان العثماني محمود الثاني المولود 1203 والذي توفي بعد المعركة بأسبوع دون أن تصله أخبارها، إذ لم تكن البرقيات قد اخترعت بعد في ذلك الوقت، وكان لهذه المعركة نتائج سياسية بالغة الأهمية، كما سنرى.

تسنم السلطان محمود الثاني العرش سنة 1223= 1808، وتميز عهده باستمرار ضعف الدولة العثمانية وتكبدها الحملة العسكرية تلو الحملة، وتمرد الأقاليم غير المسلمة بتأييد من الدول الأوروبية.

فقد انتهت الحرب الروسية التركية بمعاهدة بوخارست عام 1227= 1812 التي تنازلت بموجبها الدولة العثمانية عن بيسرابيا، وتقع اليوم في غرب أوكرانيا، وفي نفس العام قام حاكم مصر محمد علي باشا الكبير بطلب من السلطان العثماني بإرسال حملة عسكرية على الحجاز ونجد يقودها ابنه الأكبر إبراهيم باشا للقضاء على الدولة السعودية الفتية، والتي هدد توسعها سيادة الدولة العثمانية على الحرمين الشريفين، وفي سنة 1230= 1815 أصبحت صربيا مستقلة من الناحية العملية، وإن بقيت إسمياً تتبع السلطنة، وفي سنة 1236 = 1820 تمرد اليونانيون في شبه جزيرة المورة، وقتلوا المسلمين من السكان، وتلتها جزيرتا قبرص وكريت، وأيدها الرأي العام الأوربي تأييداً شديداً، وفشلت الحملات التي أرسلها السلطان محمود الثاني في إعادة الهدوء والقضاء على التمرد، لذلك طلب السلطان من محمد علي باشا في مصر المساعدة مقابل أن يجعل جزيرة كريت تحت حكم محمد على، فأرسل محمد علي أسطوله وجيشه إلى كريت وخاضوا بها عدة معارك متتالية انتهت بالقضاء على الثورة واستقرار الأمن بالجزيرة تحت الحكم المصرى.

وفي سنة 1242= 1826 قام السلطان محمود بحل القوات الإنكشارية وقتل كثيراً من ضباطها وعساكرها، على أمل أن يؤسس جيشاً على الأسس الحديثة، وانتهز أهل اليونان ذلك فتمردوا مطالبين بالاستقلال فاستعان السلطان محمود بقوات محمد علي باشا، على وعد أن يجعل اليونان تحت حكمه إذا نجح، وجرى قمع التمرد وإعادة السيادة العثمانية على اليونان على يد قوات عثمانية مصرية ولكن ليس بعد أن قامت أساطيل بريطانيا وفرنسا وروسيا بتدمير الأسطول العثماني المصري في خليج نافارينو سنة 1243= 1827، وأعلن السلطان محمود الجهاد العام إزاء هذه الهزيمة، ولكن العثمانيين هُزِموا في الحرب الروسية التركية في عامي 1244-1245=1828-1829 فاعترفوا باستقلال اليونان سنة 1246=1830، واحتل الفرنسيون الجزائر في نفس العام.

ثم واجه السلطان مشكلة أخرى من محمد علي باشا الكبير، تابعه وحليفه بالأمس، الذي أرسل ابنه الأكبر إبراهيم باشا في سنة 1247على رأس حملة عسكرية استولت على مدن الشام واحدة تلو الأخرى دون مقاومة تُذكر، حتى عكا التي استعصت على نابليون، نجح إبراهيم باشا في فتحها، وكان لسقوطها دوي عظيم، ومضى إبراهيم في طريقه حتى هزم الجيش العثماني في قونية سنة 1248 = 1832 وأصبح الطريق مفتوحاً إلى إستانبول.

كان السبب المعلن لقيام محمد علي بحملته الظافرة على الشام هو رفض والي عكا إمداده بالأخشاب اللازمة لبناء أسطوله، ورفضه إعادة بعض المصريين الذين هاجروا إلى عكا هرباً من الخدمة العسكرية والسخرة والضرائب الباهظة، متعللا بأن الاقليمين تابعان لسلطان واحد، ولسكانهما الحق في الإقامة في أي مكان اختاروه، ولكن السبب الحقيقي كان أن محمد علي يعتبر سوريا جزءاً متمّماً لمصر، وأن حدود مصر الطبيعية هي جبال طوروس، وكان يتحين الفرصة لتحقيق هدفه، حتى إذا ما لاحت انتهزها، وجرّد حملته إلى الشام.

وكانت فرنسا تدعم محمد علي باشا بالخبراء والمعدات، وكان الضباط الفرنسيون يشرفون على تنظيم وتدريب جيشه، فطلب السلطان العثماني مساعدة بريطانيا متوقعاً استجابتها نظراً للتنافس العدائي بينها وبين فرنسا، ولكن بريطانيا رفضت، فاتجه السلطان إلى روسيا التي أرسلت أسطولها إلى البوسفور، ووقعت مع السلطان معاهدة دفاع مشترك في سنة 1249=1833، وهو ما أقلق فرنسا وبريطانيا، وتوجستا من تدخل روسيا وانفرادها بحماية الدولة العثمانية وتأثير ذلك على موازين القوى في أوروبا.

ثم انتهت الأمور بما عرف باسم معاهدة كوتاهية، واتفق الطرفان على أن تتخلى الدولة العثمانية لمحمد علي عن سوريا وإقليم أضنة مع تثبيته والياً على مصر وجزيرة كريت والحجاز، في مقابل جلاء الجيش المصري عن باقي بلاد الأناضول.

وما كان السلطان ليسكت على الضيم، وسنحت له الفرصة في سنة 1250ـ=1834، حين قامت الثورة في سوريا على إثر ما أدخله إبراهيم باشا من النظم الجديدة والتي تضمنت فرض ضرائب جديدة، والتجنيد الإجباري ونزع السلاح من أيدي الأهالي، وما صاحب ذلك من استبداد وقهر، وسارع السلطان العثماني بدعم وتأييد هذه الثورة، وتأجيج نارها، وبذل إبراهيم باشا جهودًا خارقة في إخماد الثورة، واستنفد ذلك أموالاً طائلة ونفوساً كثيرة.

وفشلت المفاوضات بين الدولة العثمانية ومصر في تسوية النزاع بينهما بطريقة ودية، فأعلن محمد علي عن عزمه في قطع العلائق التي تربط مصر بدولة الخلافة العثمانية، مستنداً إلى قوته المتنامية ونفوذه المتزايد، وكان السلطان العثماني قد أعد العدة لاسترداد سوريا من محمد علي، فحشد قواته على الحدود، ولما أتم العثمانيون استعدادهم عبروا نهر الفرات وواصلوا زحفهم حتى اجتازت طلائعهم الحدود المرسومة السورية- التركية التي حددتها اتفاقية كوتاهية، فأرسل إبراهيم باشا إلى أبيه يخبره بالأمر، وفي الوقت نفسه لم ينتظر رد أبيه، بل تحرك بجيشه الذي كان يقيم بحلب؛ وفي أثناء ذلك جاء الرد من محمد علي إلى ابنه ألا يكتفي بصد هجوم العثمانيين وأن يعبر الحدود إذا اقتضى الأمر ذلك لسحق الجيش العثماني.

كان الجيش العثماني قد تمركز في نصيب وأخذ فيها استحكاماته الدفاعية، وبلغ عدده 40.000 جندي، بقيادة حافظ باشا، ويعاونه أركان حربه من كبار الضباط الألمان، وكان من بينهم الرائد هلموت فون مولتكه، الذي سيصبح فيما بعد رئيس أركان الجيش الألماني ويهزم فرنسا في حرب 1870، ويمكن القول أن ميزان القوى كان في صالح الجيش العثماني من حيث أركان حربه الألمان، وقوة استحكاماته في نصيب، وخبرته في ميدان القتال، وبوفرة الجند والذخائر والإمداد، وكان معه عدد من المقاتلين غير النظامين من أكراد المنطقة وتركمانها.

وكان الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا وتعداده كذلك 40.000 جندي، وعسكر في قرية تدعى مزار جنوبي غربي نصيب.

ولد إبراهيم باشا سنة 1204 = 1789 في قولة، باليونان اليوم، ولما تولى محمد على حكم مصر استدعى ابنه ابراهيم من استانبول، وعينه في إدارة مالية مصر، ثم أرسله إلى الصعيد لإخماد تمرد المماليك والبدو، فظهرت مهارته العسكرية، وقضى معظم حياته قائداً لجيوش والده في حروب شملت السودان والجزيرة العربية واليونان وبلاد الشام والأناضول، وسيتولى فيما بعد حكم مصر بفرمان عثماني في سنة 1264 = 1848 نظرا لمرض والده، ولكنه توفي بعد أقل من ثمانية أشهر في نفس السنة.

كان إبراهيم باشا عسكرياً من الطراز الأول، يحلل المواقف بذهن لماح رابط الجأش، ويتخذ القرارات الصائبة دون تردد، ويقرر الاحتمالات في مخيلته ويضع لها الرد المناسب، وكانت نتيجة تحليله للموقف غير متوقعة، فقد ارتأى أنه لتحقيق النصر يجب أن يباغت الخصم ويكون هو البادئ بهجوم مفاجئ، وهو قرار في غاية الخطورة لأن من يهاجم عدواً متخندقاً متحصناً يتكبد عادة أشد الخسائر، ولكن القرار ينم عن ثقة إبراهيم بنفسه وبالقوات التي تحت إمرته.

وشكل إبراهيمُ باشا قوة من 2000 جندي وترأسها هو مع مستشاره الفرنسي سيف أو سليمان باشا، وتعرضت للمواقع التركية بغية سبر قوتها، وأدرك إبراهيم باشا على إثر الاستكشاف أن من المستحيل اقتحام المواقع التركية في هجوم مباشر، فقرر الالتفاف حولها ومهاجمتها من الشرق الأقل تحصيناً، وقام إبراهيم بالالتفاف بجيشه جنوب نصيب حتى وصل إلى شرقها، وعبر في سبيل ذلك القنطرة المقامة على النهر، ثم بدأ ينظم مواقعه في شرق المدينة، ولا تخلو حركات الالتفاف من الخطورة لأن الجيش في أثناء تحركه مكشوف كشفاً ذريعاً لأي هجوم قد يشنه الخصم، ولتجنب هذا الاحتمال حرص إبراهيم أن يتم تحريك القوات بمنتهى الدقة والحرص والنظام، وقد انتبه الجيش العثماني إلى التحرك وأدرك ما يهدف إليه، وأشار مولتكة والضباط الألمان على حافظ باشا بأن يهاجم المصريين أثناء تحركهم وعبورهم النهر، ولكنه في نزعة عثمانية تقليدية استخف بالخصم، ولم يصغ لاحتجاجات الضباط الألمان، وقرر البقاء في معقله في نصيب، وأخذ على عجل في تحصين الجهة الشرقية حتى يعتمد عليها جيشه أثناء الموقعة.

ونظر إبراهيم فوجد القائد العثماني في تسرعه قد أهمل تحصين أَكَمة مرتفعة في الشمال الشرقي من نصيب، فاغتنم الفرصة وأرسل سليمان باشا الفرنساوي على رأس فرقة من جيشه فاحتلتها، وبدأت تقيم فيها الاستحكامات وتنصب المدافع، ولم يتنبه حافظ باشا إلى أهمية تلك الأكمة إلا بعد فوات الأوان فأرسل فرقة عثمانية لاسترجاعها ولكنها رُدَّت في الحال على أعقابها، وكشفت الأكمة لإبراهيم مواطن الضعف في المواقع العثمانية، وأن المنطقة الجنوبية كانت أضعف جهاته، فقرر إبراهيم تركيز الهجوم عليها في الوقت الذي يهاجم فيه الخصم من جميع الجهات.

ولما بدأت المعركة اعتمدت بشكل كبير على قصف مدفعي يمهد للهجوم، واستمر القصف ساعة ونصف لم يفلح معها أي طرف في تحطيم دفاعات الطرف الآخر، ونفدت في أثناء ذلك ذخيرة المدفعية المصرية، فتوقفت انتظاراً للإمداد، فانتهز العثمانيون الفرصة، وصبت المدفعية التركية نارها بشدة على مواقف المشاة المصريين، فتقهقرت الصفوف الأولى، وكانت فرصة نادرة للهجوم لم يستغلها الأتراك، وتقدم إبراهيم إلى الصفوف الأولى بين المشاة، فثبَّت المنهزمين وجدد الحماسة في النفوس، حتى وصلت الذخائر وعاودت المدفعية المصرية الضرب والهجوم حتى تشتت شمل المقاتلين الأكراد غير النظاميين في الجيش العثماني؛ فأحدثوا في انسحابهم الاضطراب بالجيش، وتحطمت صفوف الجند النظاميين، وارتبك الجيش كله فلاذ أفراده وسط الذعر والخوف بالفرار، وكما فعل الجيش فعل قائده الذي فضل الفرار على الوقوع في أسر المصريين.

خلف الجيش العثماني وراءه 4.000 قتيل و12.000 أسير، واستولى الجيش المصري على مايقرب من 20.000 بندقية و74 مدفعاً، وعلى 6 ملايين فرنك في خزينة الجيش المنهزم، الذي كانت هزيمته مباغتة إلى درجة أنه ترك كل شيء وراءه حتى خيمة حافظ باشا قائد الجيش بما كان فيها من الأرائك التركية المطعمة بالصَدَف والأوراق الرسمية وحتى الأوسمة التي كان يتحلى بها ذلك القائد وقعت هي الأخرى في يد إبراهيم باشا.

بلغت خسائر الجيش المصري نحو أربعة آلاف بين قتيل وجريح، وكأي عسكري محنك استغل إبراهيم باشا هزيمة خصمه، واستمر في تقدمه عقب انتصاره، واحتل مدن عينتاب ومرعش وأورفه.

وقد كتب الجنرال هلموت كارل فون مولتكة، المولود سنة 1800 والمتوفى سنة 1890، ويعد من ألمع العسكريين، مذكرات حول هذه المعركة وغيرها من المعارك التي خاضها مع الجيش العثماني، ومن أبرز ما ذكره حولها إعجابه بالسرعة والنظام الذي أتم به الجيش المصري التفافه، وأنه لا يقل في ذلك عن أي جيش أوربي، وأن حركة احتلال الأَكَمة كانت هي مفتاح النصر في هذه الموقعة.

ولم تكن هذه المعركة نهاية الأمر بل أعقبتها كارثة أخرى أصابت الدولة العثمانية في أسطولها، وتعطي صورة عن الجو السائد في أوساط الحاشية والقادة العثمانيين، فقد كان السلطان محمود لما بدأت المعارك المصرية التركية قد أمر قائد أسطوله أحمد باشا فوزي بالتحرك لضرب الأسطول المصري، ولكن فرنسا وإنجلترا أرسلتا بعض السفن لمنع التصادم بين الأسطولين تنفيذا لخطة اتفقتا عليها تتضمن الحيلولة بين تصادم مصر وتركيا.

وبعد هزيمة نصيب ارتأت الدولة العثمانية وسلطانها الجديد الشاب عبد المجيد الجنوح للسلم، فأرسلت إلى مصر رسولاً يحمل عرضاً بعقد هدنة وإجراء مفاوضات للاتفاق على حل يرضي الطرفين، وأمرت قائد الأسطول أحمد باشا فوزي بالعودة إلى إستانبول، ولكنه كان قلقا على مركزه بعد موت السلطان محمود، إذ كان مقربا منه ومحسوباً عليه، وكان السلطان عبد المجيد قد عيَّن خسرو باشا رئيساً للوزراء، وكان بينه وبين فوزي باشا عداء قديم، فتقلبت الوساوس بفوزي باشا، وظن ان استدعاءه إلى إستانبول لم يكن إلا لعزله أو لقتله، وزين له نائبه عثمان باشا ان يلتجئ إلى محمد علي باشا، ويسلمه الأسطول التركي بأكمله هدية خالصة، فينال منه المكافاة وحسن الجزاء، فأصغى فوزي باشا لهذا الرأي الخياني الدنيء، ومضى إلى الإسكندرية، حيث انضم إلى الأسطول المصري.

كان الأسطول العثماني يتألف من 9 بوارج، و11 فرقاطة، و5 سفن مطاردة، ويضم 21.000 ملاح وجندي، ثار أكثرهم لما علم بهذه الخيانة وعادوا إلى تركيا، وصارت مصر بهذه القوة البحرية المزدوجة أقوى دولة بحرية في البحر المتوسط، ورجحت كفتها على العثمانيين في البر والبحر.

وكان هذا الوضع منذراً أن تخسر الدول الأوربية الغربية مقابل مكاسب ضخمة للدولة القيصرية الروسية، فلو أن ابراهيم تابع مسيرته نحو إستانبول التي لم يعد لديها جيش ولا أسطول، فإنه يجب على روسيا إرسال جيوشها لمحاربته بناء على معاهدة الدفاع المشترك التي وقعتها مع الدولة العثمانية، وهذا يعني أن الدولة العثمانية ستصبح في فلك روسيا وستتمتن العلاقات بين الدولتين اللتين طالما تحاربتا، ولذا سارعت فرنسا وبريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا بعرض أن تتوسط بين السلطان وبين محمد علي باشا لحل هذه المشكلة، وقبل السلطان عرض التوسط الذي انتهى إلى أن يكون مفاوضات بين الدول الأوربية لحل الإشكالات فيما بينها، فكانت فرنسا وبريطانيا تريدان الحيلولة دون أن تقع الدولة العثمانية في أحضان روسيا، ولذا عرضتا أن ترسلا أساطيلها إلى الدردنيل والبحر الأسود، فيما رفضت روسيا أن تتنازل عن حقها في إرسال قواتها لحماية الدولة العثمانية، وكذلك عن حقها في عبور مضائق الدردنيل، وكانت بريطانيا والنمسا وبروسيا تريان أن على محمد علي إعادة بلاد الشام للدولة العثمانية، وعارضها في هذا الرأي فرنسا التي أصرت أن تكون ولايتا مصر والشام لمحمد علي ولذريته وإقليما أضنة وطرسوس له مدة حياته.

وجرت عدة مفاوضات تتوجت بمؤتمر في لندن حضرته هذه الدول، وانجلى عن اتفاقية 1840 = 1256وقعت عليها هذه الدول باستثناء فرنسا، وتنص على إلزام محمد علي بإعادة بلاد الشام إلى الدولة العثمانية باستثناء عكا التي تعود بعد وفاته، وأن أساطيل روسيا والنمسا وبريطانيا كلها لها حق الدخول في البوسفور لوقاية القسطنطينية لو تقدم نحوها الجيش المصري، وليس لأحد الحق في دخوله إذا لم تكن القسطنطينية مهددة.

وفي هذه الأثناء جاء رئيس وزراء فرنسي جديد هو لويس أدولف تيرز فأرسل لمحمد علي باشا أن لا يقبل مطالب بريطانيا بل يقوي مركزه في الشام ويتأهب للقتال، وأن فرنسا مستعدة لنجدته لو عارضته بريطانيا، فبدأ محمد علي باشا في الاستعداد للدفاع عن بلاد الشام وتوفير الأموال والعساكر اللازمة لذلك، وسحب قواته من الجزيرة العربية.

وتحركت بريطانيا لتنفيذ الاتفاقية وتقليم أظافر محمد علي وتحجيم النفوذ الفرنسي، فقام الأسطول البريطاني بمحاصرة السواحل الشامية، والتربص بأسطول محمد علي الذي بات حبيس الإسكندرية خشية إغراقه، فما عاد يستطيع إمداد الحاميات في سواحل الشام، وشجعت بريطانيا سكان الشام على العصيان وإظهار ولائهم للدولة العثمانية.

وقابل سفراء الدول الأربعة محمد علي وأنذروه بقبول المعاهدة خلال عشرة أيام وإلا سيفقد ولاية عكا، ولما انقضى الأجل المضروب اجتمعوا به فطردهم، فأعطوه عشرة أيام أخر لإبداء جوابه، وإن لم يجاوب فإن تلك الدول ستتخذ ما يلزم من إجراءات لتنفيذ المعاهدة.

وسرعان ما تبين لمحمد علي أن فرنسا التي جرّأته على المقاومة ووعدته بالمساعدة لا تقوى على مساعدته في وجه بريطانيا الدولة الأعظم، وانسحب الأسطول الفرنسي تاركاً موانئ مصر والشام مفتوحة أمام السفن البريطانية، وبدأ البريطانيون، الذين قاموا بالعبء الأكبر، فأنزلوا قواتهم في بيروت ثم في غيرها من موانئ الشام، وأدرك محمد علي أن من العبث مقاومة الدول المتحالفة فأمر ولده ابراهيم باشا بعدم تعريض عساكره للقتال والموت بلا فائدة، وبالانسحاب من الشام مع الاحتراس الكلي من العربان وسكان الجبل من الدروز والموارنة، فانسحب الجيش باتجاه مصر والعربان يناوشونهم في قحة وجراءة، وهلك عدد كبير من الجنود بسبب قطاع الطريق والإنهاك والعطش.

ودارت الأمور لتعود حيث بدأت فقد عرضت الحكومة البريطانية على محمد علي أن تسعى لدى السلطان العثماني في إعطاء مصر له ولورثته لو تنازل عن الشام وأعاد الأسطول العثماني، فقبل هذه الشروط ولم تقبلها إستانبول إلا بعد شهر ونصف من التردد والإحجام، وصدر بذلك فرمان همايوني في 21 ذي القعدة من سنة 1256=14/1/1841، منحه أيضا ولايات النوبة ودارفور وكردفان وسنار مدة حياته بدون ان تنتقل إلى ورثته، وكان من شروط الفرمان تحديد عدد الجيش المصري فلا يتجاوز 18.000 جندي، بعد أن كان يقارب 100.000 جندي، وألا ينشئ والي مصر سفناً حربية إلا بإذن السلطان.

ما هي الأسباب التي أدت بمحمد علي باشا، وهو التابع إسمياً للدولة العثمانية، أن يقاتلها في بلاد الشام بعد أن كان يقف إلى جانبها ويرسل جيوشه في حملاتها؟

الدافع الأول في ذلك هو طموحه الشديد للاستقلال بملك مصراستقلالاً تاماً لا تدخل فيه للعثمانيين ولا غيرهم، تتوارث عائلته فيه الحكم ابناً بعد والد، وإن لم يُمكِن ذلك فأن تبقى سلطة العثمانيين في مصر سلطة إسمية شكلية.

وكأي حاكم مستبد ذي طموح، كان محمد علي ذا أطماع واسعة، ولكنه كان حذراً يتصرف وفق ما يتاح له من فرص، وهناك ظروف شجعته على اتخاذ هذه الخطوة وغيرها، وجعلته يشعر أن الفرصة سانحة لتحقيق طموحه وأحلامه.

أولها أن محمد علي كان حاكماً واعياً لأهمية الاقتصاد، ليس لرفاه الرعية بل لتقوية الدولة وتمكينها من الإنفاق على القوة العسكرية، ولذا كانت مشاريعه الزراعية والصناعية والإقتصادية والتنموية في مصر تنتهي في مآلها إلى توفير المال للصرف على تقوية الجيش والأسطول.

وثانيها أن محمد علي بسبب تعامله وتعاونه الوثيق مع الدولة العثمانية أدرك إدراكاً شاملاً ما كانت السلطنة تمر به من تخلف شديد وضعف متزايد في الإدارة الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وعجز السلطنة ورجال الحكم في إستانبول عن تطوير أنظمتهم وأساليب حكمهم لتواكب التطورات العصرية فضلاً عن أن تكون قائمة عليها أو سابقة لها.

وثالثها أن محمد علي رأى الدولة العثمانية الضعيفة العاجزة تُنتقَصُ من أطرافها في اليونان والبلقان والجزائر، فأراد أن ينتزع منها بلاد الشام فتعود تحت السيادة المصرية كما كانت في أيام دولة المماليك قبل أن يقضي عليها السلطان سليم.

ورابعها أن علاقاته بالدول الأوربية، ودعم فرنسا له بالذات، وتربص هذه الدول بتركة الدولة العثمانية التي اسمتها الرجل المريض، قدمت له حلفاء في مواجهة العثمانيين، يقدمون له الدعم الدبلوماسي والعسكري المباشر ويوفرون لقواته السلاح والعتاد والتدريب.

وهناك من الكتاب والمؤرخين من يكيل المديح لمحمد علي لما أدخله في مصر من إصلاحات في الزراعة والصناعة والاقتصاد والجيش، ولكن المتأمل يرى أنها كانت في تفكير محمد علي وتخطيطه بناءً لكيان دولته الشخصية، فليست هناك أية مؤشر على أنه فعل ما فعل لبناء كيان يشبه ما كان موجوداً آنذاك في فرنسا أو بريطانيا.

وهناك من المحللين من يتهمه بالخروج على الوحدة الإسلامية وتفكيك عرى الدولة العثمانية، وهم في هذا يغفلون عن أنه ما كان إلا حاكماً مستبداً، يبني دولة على النمط المملوكي، ولكن دون مماليك، وما كان ولاؤه إلا لنفسه، وهمُّه الأول والأخير أن يحافظ على سلطانه، فهم يكلفونه مالم يدعيه، ويطالبون تارك الفرض بأداء السنة.

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين