الإسلام في أفريقيا (52) ربيع القطان ابن سليمان بن عطاء الله القرشي

استشهد ربيع القطان وهو يجاهد بني عبيد في حصار المهدية يوم الإثنين من صفر (334هـ/945م) وهو ابن ست وأربعين سنة، فقد عثر عليه مضرجاً بدمائه بالوادي المالح.

كان ربيع رحمه الله حافظاً لكتاب الله عز وجل، قارئاً له بالروايات عالماً بتفسيره ومعانيه وغريبه، حافظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالماً بمعانيه وعلله وغريبه وأسماء رجاله وكناهم وقويهم وضعيفهم.

نأ ربيع في بيت فضل وعلم، فقد كان له أربعة أخوة كلهم صالحون فضلاء. وكان سليمان والد الربيع يجلس في الليل مع أولاده فإذا خطر في نفسه شيء يسأل عنه من العلم يقوم من مكانه ويجثو على ركبتيه بين يديه فيقوم إليه ربيع ويقول: يا والدي لم فعلت هذا؟ فيقول له: إنما أردت أن أعطي العلم حقه فيسأله عما يجب، فيجيبه ثم يرجع إلى مكانه.

وكان قد جعل على نفسه ألا يشبع من طعام ولا نوم حتى يقطع الله عز وجل دولة بني عبيد. فختم الله تعالى له بالشهادة في قتالهم.

قال أبو محمد عبد الله بن يوسف الجبي المتعبد بالمنستير: كنت يوماً جالساً عند ربيع القطان والمجلس محتفل، فوقع بقلبي شيء فأقلقني، فتربصت لينصرف الناس فلم أقدر، وقمت قائماً وقلت: أصلحك الله عز وجل، مسألة، فنظر إلي وقال لي: اجلس فجلست ساعة، فاحترق قلبي فقمت فأعدت الكلام، فنتَرني وقال: اجلس، فغضبت وقلت له: ويحك، يحل لك تكتم العلم؟ ثم خرجت، فأقمت أياماً ثم قلت لنفسي: حيث قطعت حظك من ربيع فلن يبالي هو بك، مضيت إليه أم تأخرت عنه، إنما وقع الضرر بك لما يفوتك منه الخير.

قال: فمضيت إليه، فوجدت الباب مردوداً بلا حديدة، وكانت علامة جلوسه، فدخلت إليه ولم أستأذن، فوجدته جالساً على رجليه، وقد أخذته حالة وهو يبكي ويقول في بكائه:

أنت دائي ودوائـــي … أنت عزي ومنـاي

أنت فخري أنت ذخري … أنت كنزي وغناي

قال: فبقيت أنظر إليه وقد هاج في حاله، قال: فسلمت عليه فانتبه من حاله وقال: مرحباً بك، فأخذ بأطواقي فجمعها علي ثم جلس بي في وسط البيت وقال لي:

صارت لك نفس تغضب وتنزق، فقلت له: أصلحك الله أي شيء أعمل، وقع بقلبي شيء فاحترقت، فقمت إليك أرجو الفرج وأنت تجلسني؟ فقال لي: قد رأيتك وحسست بك فما سألتك؟ فأخبرته بها. فقال لي: فتلومني على نزقي عليكن فهذه مسألة ينبغي أن لا تذكر قدام الناس. الجواب فيها كذا كذا.

قال عبد الله بن يوسف الجبي: حضرنا يوماً جنازة مع ربيع رحمه الله فرأينا في الفحص زرعاً حسناً قد أسبل. قال: فنظر ربيع إلى سنبله قد علت فوق السنبل كله، فعمد إليها فقبلها، قال: فصنعنا كما صنع اتباعاً له، قال: ثم سألته لم فعل ذلك؟ فقال: عجبت من الموهبة التي خصت بها دون سائر السنبل والأرض واحدة والماء واحد.

حكم ربيع ومواعظه

وأما كلامه بالحكمة ومواعظه فكثير، منه هذه الخطبة:

الحمد لله الواحد الرحمن، الفرد الديان، الصمد الموجود بكل مكان، الحي المعبود الذي كشف الأغطية عن قلوب أهل خالصته فأبصرت، وفتح بأنوار الإيمان دياجيها فأشرقت، ونزع عنها قناع الجهل فأسرعت، ودعمها برفيع العلم فتأيدت، وحالت بنوافذ لمحاتها في الملكوت فأيقنت، فغدت لدى تكوين الرياضات مشربها، وجلَّ بفضل العزيز في المعارف خطبها، حتى أحلهم - تعالى - برياض ونهر مبرّته، وكساهم حلل أهل معرفته، وتوجهم بتيجان أهل مودته، ومكّن رتبهم بأوطان الصديقين، وسقاهم صفواً من شراب المقربين، وأوزعهم الشيم الزكية والأخلاق الرضية، عند تلوين الأقدار، وتصرف الاختيار، فجعلهم في الدار أوتاداً، وله عبيداً أوحاداً، لا يفزعهم دونه صوت ملك جبار، ولا صولة ذي سلطان قهار، إذ هو - تعالى جل وعز - حصنهم الذي لا يُضام، وكهفهم الذي لا يُرام: (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)(1)، ثم أحلهم - تعالى - بما به آمنوا من دار الأمان، وأشهدهم مصداق وعده هناك بالعيان، منّاً منه عليهم وتطوّلاً منه لديهم، وإحساناً منه إليهم، سبحانه لا إله إلا هو الرحمن الودود.

وله في هذا المعنى كثير. 

ثورة القيروان واستشهاد ربيع القطان

كان ربيع القطان رحمه الله قد تحقق عنده أنه لابد له من الشهادة، فكان ذلك يجري على لسانه، وإنما ذلك لرؤيا رآها.

قال أحمد بن سليمان: دخلت على أخي ربيع رحمه الله مرة فأصبته جالساً في البيت نصف النهار، وهو ساكت متفكر، فقلت له: مالي أراك يا أخي متفكراً؟ فقال لي: تفكرت في أمري وفيما يُراد بي، فقلت له: في ماذا؟ فقال لي: يُراد بي وبرأسي هذا أمر عظيم! فقلت له: وكيف ذلك؟ فقال لي: رأيت رؤيا لها مقدار عظيم. فقلت له: وما هي يا أخي - وأقسمت عليه -؟ قال: رأيت الحق جل ذكره في المنام فأمرني أن أدنو منه، فدنوت منه، فشرف موضعاً من رأسي وعظَّمه - وهو ما بين صدغي وأذني من الجانب الأيسر - وأشار بيده إلى ذلك المكان.

فكانت الوالدة رحمها الله تعالى سألته إذا حلق الحجَّام ذلك المكان أن تأخذ ما اجتمع فيه من الشعر، فاجتمع لنا من ذلك شيء كثير، فلما ماتت أوصت أن يدفن معها لتتبرك به فضرب في ذلك الموضع بالسيف حين جهاده لبني عبيد، فحصلت له الشهادة بتلك الضربة رحمه الله.

قال الحسن بن فتحون الخراز: قال ربيع: يا حسن ليدارن بهذا الرأس - وأشار إلى رأسه - فشاء الله تعالى أن دير برأسه بطرابلس.

وعُوتب ربيع القطان رحمه الله في خروجه مع أبي يزيد إلى حرب بني عبيد، فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني، فمن ذلك أني حضرت يوماً إشهاداً، وكان فيه جمع كثير، أهل سنة ومشارقة، وكان بالقرب مني أبو قضاعة الداعي، فأتى رجل مشرقي من أعظم المشارقة، فقام إليه رجل من المشارقة وقال له: إلى ها هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني أبا قضاعة، ويشير بيده إليه - فما أنكر أحد منهم شيئاً من هذا، فكيف يسعني أن أترك القيام عليهم؟

وروى بخطه رحمه الله قال: لما كان في رجب سنة (331هـ/942م) قام الصبي المكوكب يقذف الصحابة ويطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعُلقت عظام رؤوس أكباش وحمير وغيرها على أبواب الحوانيت والدروب عليها قراطيس معلقة مكتوب فيها أسماء يعنون رؤوس الصحابة رضي الله عنهم، فلما رأى ذلك ربيع لم يسعه التأخر عن الخروج عليهم لمّا أن وجد رجلاً من أهل القبلة قام عليهم، وكذلك كان جميع الشيوخ يتأولون.

قال الشيخ الفقيه أبو بكر بن عبد الرحمن الخولاني: حدثنا أبو الحسن الفقيه رحمه الله قال: خرج الشيخ أبو إسحاق السبائي رحمه الله مع شيوخ إفريقية إلى حرب بني عدو الله مع أبي يزيد، فكان أبو إسحاق يقول - ويشير بيده إلى عسكر أبي يزيد - : هؤلاء من أهل القبلة، ويشير إلى عسكر بني عبيد الله ويقول: هؤلاء ليسوا من أهل القبلة، فعلينا أن نخرج مع هذا الذي من أهل القبلة لقتال من هو على غير القبلة وهم بنو عدو الله فإن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد، لأنه خارجي، والله عز وجل يسلط عليه إماماً عادلاً فيخرجه من بين أظهرنا ويقطع أمره عنا.

وخرج مع ربيع من الفقهاء والعبّاد: أبو العرب بن تميم، وابو عبد الملك مروان بن نصرون، وأبو إسحاق السبائي، وأبو الفضل الممسي وجماعة من العراقيين.

ويذكر أن أبا الفضل الممسي تكلم في أمر الجهاد للمشارقة مع الشيوخ، وكان من بعض خطابه أن قال لهم: إن كنتم تعزمون عزيمة رجل واحد وتجتهدون في هذا الأمر فإني لا أضن بنفسي عنكم. فقال له أبو إسحاق السبائي: جازاك الله يا أبا الفضل عن الإسلام وأهله خيراً، أي والله نشمر ونجد في قتال اللعين المبدل للدين، فلعلَّ الله أن يكفِّر عنا بجهادنا تفريطنا وتقصيرنا عما يجب علينا من جهادهم، فكلمهم أبو الفضل واحداً واحداً، فقال ربيع القطان أنا أول من يشرع في هذا الأمر ويخرج فيه، ويندب الناس إليه ويحضهم عليه. 

وتسارع جميع الفقهاء والعبّاد، فلما كان الغد خرج أبو العرب وخرج جميع الفقهاء ووجوه التجار إلى المصلى بالسلاح الشاكّ والعدة العجيبة التي لم ير مثلها، وضاق بهم الفضاء.

وتواعد الناس أن ينظروا في الزاد وآلة السفر إلى يوم السبت، وذلك يوم الاثنين،وركب بعض الشيوخ إلى الجامع بالسلاح، وشقوا سماط القيروان، وزادوا في استنهاض الناس.

فلما كان يوم الجمعة اجتمعوا في الجامع، وركبوا بالسلاح الكامل، وعملوا البنود والطبول، وأتوا بالبنود فركزوها قبالة باب النمسجد الجامع، وهو المعروف بالحدادين، وكانت سبعة بنود:

-بند أصفر لربيع القطان رحمه الله مكتوب عليه البسملة ومعها (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

-وفي الثاني، وهو لربيع أصفر أيضا مكتوب عليه: (نصر من الله وفتح قريب).

-وفي الثالث، وهو أصغر، لأبي العرب: بعد البسملة: (قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون).

-وفي الرابع، وهو بند أحمر، لعباس الممسي: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).

-وفي الخامس، وهو بند أخضر، لمروان المتزهد، بعد البسملة: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين).

-وفي السادس، وهو بند أبيض، للسبائي، بعد البسملة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (أبو بكر الصديق)، (عمر الفاروق).

-البند السابع، وكان لإبراهيم بن العمشاء، وكان أكبر البنود، لونه أبيض، فيه: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا).

فلما اجتمع الناس وحضرت صلاة الجمعة طلع الإمام على المنبر، وهو أحمد بن محمد بن أبي الوليد - وكان الممسي هو الذي أشار به - وخطب خطبة أبلغ فيها، حرّض الناس على الجهاد وأعلمهم بما لهم فيه من الثواب، وتلا هذه الآية: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) الآية . وقال: 

يا أيها الناس جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله تعالى وغيَّر أحكام الله عز وجل وسب نبيه وأصحاب نبيه وازواج نبيه.

فبكى الناس بكاءً شديداً. وقال في خطبته:

اللهم إن هذا القرمطي الكافر الصنعاني المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية من دون الله، جاحداً لنعمك، كافراً بربوبيتك، طاعناً على أنبيائك ورسلك، مكذباً لمحمد صلى الله عليه وسلم نبيك وخيرتك من خلقك، سابّاً لأصحاب نبيك وازواج نبيك، أمهات المؤمنين، سافكاً لدماء أمته، منتهكاً لمحارم أهل ملته، افتراءً عليك، واغتراراً بحلمك.

اللهم فالعنه لعناً وبيلاً، واخزه خزياً طويلاً، واغضب عليه بكرةً وأصيلا، واصله جهنم وساءت مصيرا، بعد أن تجعله في دنياه عبرة للسائلين، وأحاديث في الغابرين. وأهلك اللهم شيعته، وشتت كلمته، وفرق جماعته، واكسر شوكته، واشف صدور قوم مؤمنين منه.

ونزل فصلى الجمعة ركعتين وسلم. وقال: ألا إن الخروج غداً يوم السبت إن شاء الله تعالى.

وركب ربيع القطان فرسه وعليه آلة الحرب وفي عنقه المصحف وحوله جمع من الناس من أهل القيروان متأهبون معدون لجهاد أعداء الله، عليهم آلة الحرب، فنظر إليهم ربيع القطان، فسُر بهم وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك، وإعزاز دينك، يا رب بأي عمل وبأي سبب وصلت إلى هذا؟ ثم أخذ في البكاء حتى جرت دموعه على لحيته، ثم قال لهم: والله لو رآكم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لسُر بكم. وقال في موطن آخر بعد أن أنصت الناس: 

(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين).

ثم تلا: (ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدؤوكم أول مرة اتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم. ثم أشار بيده وقال: اذكروا الله يذكركم، فكبَّر الناس، ومشى حتى بلغ الجامع، وأبو سعيد اين أخي هشام الفقيه تحت ركابه وفي يده سيف مسلط. فاستشهد ربيع القطان رحمه الله في قتال أعداء الله يوم الاثنين في صفر من سنة (334هـ/945م)، وكان بينه وبين أبي الفضل الممسي ستة أشهر. وقيل إنهما استشهدا في يوم واحد. وكان غرض المجوس بني عبيد لعنهم الله وشهوتهم أخذ ربيع حياً ليشتفوا منه. قال الشيخ الفقيه أبو الحسن بن القابسي رحمه الله: فلما تلاقوا في القتال أقبل ربيع وهو يطعن فيهم ويضرب وهم يتوقفون عن طعنه طمعاً أن يأخذوه حياً، فلما أثخنهم بالضرب والطعن حمل عليه جماعة منهم فقتلوه، وما ولى دبراً رحمه الله. واستشهد مع ربيع فضلاء وأئمة وعباد وصالحون. ذكر أبو القاسم اللبيدي رحمه الله قال: قال لنا الشيخ أبو الحسن علي بن محمد القابسي الفقيه رحمه الله أخبرنا شيوخنا الذين أدركناهم: أن الذين ماتوا في دار البحر بالمهدية من حين دخل عبيد الله إلى الآن أربعة آلاف رجل، في العذاب، ما بين عالم وعابد ورجل صالح. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين