رسائل واعظة من عام 2018م

رسائل كثيرة تحملها الساعات الأخيرة من عام 2018م لكل إنسان لا زال على قيد العقل، وما زال فيه نفس من إيمان يتردد، وعين من ضمير تطرف ... وتلك الرسائل التي تحفل بها الأيام عادة ما تكون ذا تأثير بعيد وتعبير عميق لأنها لا تخطئ... لا تتخلف ... لا تحيد. 

يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني إذا ذهبت لا أعود.

هكذا وبهذا يصرخ علينا كل يوم ندخل فيه ... لكن أين القارئ النَّهِم ... أين المُطَّلع الفهِم ... الذي يقرأ فيعي ... وينظر فيرعوي... وتقع عينه على مكان الموعظة من كتاب الكون فيعقِل ... وتطرق سمعه النصيحة فيرجع ويقفِل . 

يقول مولانا جل في علاه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . الآية (18) من سورة الحشر. 

لم يقل تعالى: ليوم القيامة ... بل عبر عن المستقبل ب ( غد ) كناية عن قربه واتصاله بيومك الذي أنت فيه. 

يحكون أن صالحاً كان يمشي في السوق ، فكلما حانت له فرصة صلى نافلة ، فسألوه عن سبب حرصه ، فكان يقول : أبادِرُ طيَّ الصحيفة ... كان يخشى أن يمر ذلك اليوم دون أن يسجل في صحيفته عملاً يفيد منه في أُخراه . 

إذا مر بي يوم ولم أستفد هدىً * ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري 

بعض المحبين يقولون لأحبابهم : كل يوم مر من قبل لم أعرفك فيه أو أرك فيه فما أحسبه من عمري. 

ولكن العاقل يقول : 

إذا مر بي يوم ولم أستفد هدىً * ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري 

أما الرسالة الثانية من عام 2018م ففحواها ضرورة الابتعاد عن التوافه والإقلاع عن صرف العمر فيما لا فائدة منه وهدر الوقت والطاقات فيما لا طائل فيه ، والتقليل من الخلافات والصراعات ... وترك العتابات التي لا نهاية لها، فكثيرون يعاتبون كثيرين ... وكثيرات يثرثرن باللوم على كثيرات ... يفنى الوقت في قيل وقال ... وفلان فعل كذا ... ويا فلان: علام قلت كذا ... وكثير من الخلافات العائلية تطول عقوداً من الزمن ولا تمحى ... وتذكيها العتابات على ما قال أبو نواس: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء. 

فاترك عنك العتاب ... وترفَّع عن اللوم ... وتفكَّر في هول ذلك اليوم ...

لا تشتغل بالعتب يوما للورى فيضيع وقتك والزمان قصير

وعلام تعتبهم وأنت مصدق * إن الأمور جرى بها المقدور

هم لم يوفوا للإله بحقه * أتريد توفية وأنت حقير؟

أما الرسالة الثالثة فتقول : 

خفف من غُلَوائك تجاه الدنيا، واكبح جماح نفسك صوب الحياة ، ولا تطمح إلى نيْل الملذات جميعها ، وتذوّق كل متعها ، ودع شيئاً منها للآخرة ، وما تصرفه على رغباتك فقَنِّنه واجعل منه شيئاً للآخرة ... ولا تشترِ كل ما اشتهيت .. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه : رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدَيَّ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا جَابِرُ ؟ فَقُلْتُ : اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ . فَقَالَ عُمَرُ : أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ يَا جَابِرُ اشْتَرَيْتَ ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ يَا جَابِرُ؟! { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } ( سورة الأحقاف آية 20 ).

لا نهاية للمتع والملذات ... ولو أتبعتها نفسك لتعبت وخسرت في دنياها قبل أخراها ... فأعمل عقلك وقلل من هوسك فيها واجعلها في مرضاة الله لا مرضاة نفسك ... كان يعيش في منطقة " الفاتح" في مدينة اصطنبول شخص اسمه "خير الدين كججي أفندي"، كان عندما يمشي في السوق القريب من بيته ، وكلما رأى فاكهة أو لحماً أو حلوى تتوق نفسه لأكلها قال في نفسه :"صانكي يدم"، أي بمعنى "كأنني أكلت " ثم يحفظ ثمن ذلك الطعام في صندوق له. 

وبعد مرور عدة سنوات تجمع لديه من المبلغ ما يكفي لبناء مسجد صغير في محلته، فبناه ، وأطلق عليه أهل المحلة اسم (جامع صانكي يدم) أى "كأنى أكلت".

يقول أحد المعلقين وهو عبد الصمد آيدن -نائب مفتي منطقة الفاتح في إسطنبول على هذه القصة: “إن الحكمة من مسجد “كأني أكلت” هو الحث على التوفير الممكن وعدم التبذير والاقتراض والاقتصاد قدر المستطاع بكل المواد، خاصة أننا نعيش في مجتمعات استهلاكية كبيرة، وهذا المسجد يمثل درسًا ممتازًا لكل إنسان، درس للرجل في إدارة أعماله والمرأة في منزلها وحتى الشباب والأطفال”. وإن هذا الرجل – خير الدين ككجي أفندي عانى الفقر وامتلك تلك القدرة الجبارة على لجم النفس البشرية، فحرمها كل مشتهياتها بمساندة عبارة “كأني أكلت”. واستطاع التوفير من أموال هذه الحياة المتقشفة مما رفع به على مر سنوات جدران هذا المسجد. 

وأنت فافعل كفعل هذا الرجل أيها الرجل ... ولتلجم نفسك عن زخارف هذه الحياة التي تفنى وقد تفنيك ... وكن بحسن تدبيرك عاقلاً ...فإنه لا عقل كالتدبير .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين