الأم العجوز الفانية

قالوا: أخبرنا عن أزكى حب تتهاداه بنو آدم فيما بينهم وأسماه متواصلين به متكافئين.

قلت: ذاكم حب الإنسان أمه إذا طعنت في السن وشاخت، ضعيفة عاجزة، ومحتاجة إلى من يرعاها ويتولى شؤونها، ولن يحبها في كبرها وهرمها إلا من أخلص لله مولاه أو بلغ في الشرف ذراه.

قالوا: فما ترى في حب الأمهات أولادهن؟

قلت: الحب أصناف، منها ما هو جوهر وذهب، ويواقيت ودرر، ومنها ما هو لجين ونحاس، وحجر وخزف، وما الحب إلا ضربا من السحر، يحول الماهيات ويقلب الحقائق، وإذا ما شيب بشيء زاده قيمة ووزنا، وهو كله سمو وشرف، وهو بصر بالفضائل والمناقب، وإغضاء عن العورات والمثالب، وثمة سمو دون سمو، وبعض الحب أعلى من بعض، فحب الأمهات طبيعي، غير عقلي، والحب العقلي الاختياري دليل على مجد صاحبه وعظم شأنه وعلو مكانه، يعقد بين المحب والحبيب عقدا لا يحله ريب المنون، يأنس به ويسكن إليه مهما أتت عليه النوائب والسنون.

قالوا: وأين يقع حب الأطفال لأمهاتهم؟

قلت: يكدره الذل والصغر، والافتقار والخور، فإن بقوا عليه حافظيه بعد أن قووا واشتدوا واستغنوا عنهن، فهو الحب الذي نوهت به تنويها.

قالوا: أخبرنا عن أروع قصة مرت بك في حب المرء للأم العجوز الفانية. 

قلت: زعموا أن قرية من قرى البنجاب تسكنها امرأة عجوز بلغت التسعين من عمرها، ولها أبناء مسنون، منهم من بلغ السبعين من عمره، ومنهم من بلغ الخامسة والستين، ومنهم من بلغ الستين، وهم يعيشون مع أمهم راعين لها محبين، وكالئين لها كافلين، إذ باغتها شلل في رأسها ساطيا عليه، فأفزعهم خطبها وحملوها إلى المستشفى، واستدعيت أكبر طبيبة خبيرة متخصصة في أمراض الرأس، ففحصتها، وأدركت أن العجوز تحتاج إلى إجراء عملية جراحية في رأسها، ولعل العملية تهدد حياتها بالخطر لكبر سنها، فقررت أن تتفاداها، وتقتصر على علاجها بالحمية والدواء، وخرجت من غرفة العيادة فإذا أولادها يحيطون بها ينهالون عليها بأسئلتهم عن وضع أمهم، فقالت لهم: لا يرجى برؤها، فارتفعت أصواتهم في بكاء وعويل، مسيلي العبرات الجواري، وذارفي الدموع السوافك، فلاذت بكلمات لينة رفيقة وهادئة لطيفة، تبعث فيهم تعزية وسلوى، وبعض أمل ورجاء، واستفسروها ملحين إذا كانت حيلة تنجع في تحسين حالها وإزالة شكواها، فقالت: تحتاج إلى عملية جراحية، وهي هرمة فانية، وقلَّ أن تنجح العملية في السن المدبرة، فصاحوا وبعث شجاهم شجا أقاربهم، فصاحوا صيحتهم، مفجعة قلوبهم، مروعة أفئدتهم، جائدة عيونهم، وعالية زفراتهم، فعجبت من بكاء هؤلاء الكبار المسنين، جازعين من رزء ما هو عنهم ببعيد، واقفين على مشارف الحياة، ومستقبلي الموت الذي هم له كارهون.

فقالت الطبيبة لهم: ما لكم تبكون كالصغار مولولين نادبين، فاقدين صبركم، غير مستبقين فيض عبراتكم، ورافعين أناتكم، وأمكم قد بلغت من الشيخوخة والهرم عتيا، وأنتم كبار لا تحتاجون إليها، فما لكم حريصين على حياتها في ضعفها وعجزها كل هذا الحرص؟ فردوا عليها بجواب وقع من نفسها كل موقع، ونبهها على رتبة الأم ومنزلتها تنبيها، قالوا: الأم أم لأولادها صغارا وكبارا، محتاجين إليها غير مستغنين عنها، وهي وإن كانت مقعدة عاجزة، فإنها منبع البركات والخيرات لنا ولبيوتنا، تذكر الله على كل أحيانها، وتدعو لنا بلسانها وجنانها، ودعواتها أرجى لنا من كل سعي نسعاه ومن جميع ما نتعناه.

قالوا: عجبنا من تعلق هؤلاء الكبار بأمهم!!

قلت: الحب لا تفنى عجائبه.

قالوا: فما ترى في حب الإنسان أباه الكبير؟

قلت: يساويه ويعدله.

قالوا: فما لك لم تذكره؟ 

قلت: لأنكم سألتموني عن أسمى حب وأزكاه، وحب الإنسان أباه قد يشوبه حب الإرث منه ومصالح دنيوية، وهي علل تفسد الحب إفسادا.

قالوا: أوصنا.

قلت: أوصيكم أن تذكروا قوله تعالى: "فإما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما"، واعلموا أن الحب متاع غال، ومدد طاهر بريء، يعمل ما لا تعمله ملذات الدنيا ومطامعها، وينفع حيث لا تنفع أموال طائلة وقوى هائلة، ولكن مع ذلك فحب الخلق كله حلاوته ممزوجة بمرارة، وراحته ممزوجة بعناء، وكم من أخ خان أخاه وده، فتذكروا حب ربكم إياكم، وهو رب غني غير فقير، رحيم عليم قدير، لا يدعو لكم، بل يجيب الداعين، ويسمع المضطرين، ويكشف كربات المكروبين، ويغيث الملهوفين المهمومين، وحبه أعلى من حب الخلق أجمعين، وهو صاف لا يشوبه كدر، وله علينا نعماء عظيمة، وإحسان وفضل عطاء، فحقه أجل وأعظم، "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"، أثني عليه وأحمده على آلائه ونعمائه، وقد رهنتُ يدي بالعجز عن شكر جوده وعطائه، وسلام الله على الحب عدد الرمال ورحمته ما شاء أن يترحم، وهو أرحم الراحمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين