حباً لهم.. وخوفاً عليهم

اشتكى أحمد آلاماً في معدته، فصَحِبه والده إلى الطبيب الذي فحصه بعد أن سأله عِدة أسئلة عمّا يشتكي وعن الآلام التي يشعُر بها.

ناول الطبيب والد أحمد وصفة طبية سجّل فيها بعض الأدوية وأوصى بأن يتناولها بانتظام ثم قال: لاتسقوه الماء، وامنعوه عنه، واكتفوا بحساء الدجاج.

بعد عودة أحمد مع والده إلى البيت بساعة، أحسّ أحمد بالعطش فصار يردّد: عطشان.. عطشان.. أريد أن أشرب، فقامت أمه إلى المطبخ وأحضرت له كوب ماء، فقال لها زوجها: لاتعطيه الماء، الطبيب أوصى أن لايشرب الماء حتى يشفى.

ردّت أمّه: ولكنه عطشان.

قال أبوه: الطبيب أعلم مِنّا بما ينفعه، وعلينا أن نمنعه الماء حتى يشفى.

ولله المثل الأعلى، فالرّبّ سبحانه إذا أحبّ عبداً حَمَاه الدنيا، وأبعدها عنه وأبعده عنها، فهو يعلم أنها تضرّه كما يضرّ الماء مريضاً فيمنع أهله الماء عنه لأنهم يحبونه.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء) رواه أحمد والترمذي.

وجاء في شرح المناوي لحديثه صلى الله عليه وسلم : (يحميه من فتنة الدنيا، من فتنة أموالها وبهرجها وزخرفها وزينتها ، إنه سبحانه يَزُود مَنْ أحبه عن الدنيا حتى لايتَدَنّس بها وبقذارتها، ولايَشْرَق بِغُصَصِها، كيف وهي للكبار مؤذية، وللعارفين شاغلة، وللمُريدين حائلة، ولعامة المؤمنين قاطعة، والله لأوليائه ناصر، ولهم منها حافظ؛ وإن أرادوها.).

قال سفيان الثوري: (إنّ مَنْعَ الله عبده من بعض محبوباته هو عطاء منه له؛ لأن الله تعالى لم يمنعه منها بخلاً، وإنما منعه لطفاً).

وهكذا ينبغي للأبناء والبنات ألّا يروا كل ما يمنعهم عنه آباؤهم وأمهاتهم بخلاً عليهم، فمن المنع ما هو حماية لهم، وتهذيب لرغباتهم، وحفظ لهم من الترف الذي ينهى عنه الإسلام.

مثال ذلك حين يمتنع الآباء والأمّهات من شراء حلوى كثيرة يعلمون أنها تؤذي أطفالهم وتنال من صحتهم، وتُقلل شهوتهم إلى الطعام الصحي المفيد.

وكذلك حين لا يُلبِّي الرجل رغبات زوجته في شراء كل شيء، والحصول على كل ما تشتهيه؛ فإن عليها أن لاتُرجِع كل مايمتنع عن شرائه وإحضاره إلى البخل، فقد يكون سبب امتناعه اتِّقاء الترف والبذخ والإسراف.

ومثله حين تعترض المرأة على زوجها إذا اشترى أشياء لاحاجة لهم بها، فليس له أن يتهمها بالبُخل، إذ أنها أدرى بحاجة أسرتها، وهي من ستعاني في البحث عن أماكن متوفِّرة في خزائن بيتها تضع فيها ما اشتراه زوجها دون أن تكون هناك حاجة كبيرة أو عاجلة إليه.

ولنعد إلى الحديث الشريف الذي ذكرته سابقاً ولكن في رواية أخرى صحيحة أيضاً، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا، وهو يُحبّه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه) صحيح الجامع 1814 .

ففي هذه الرواية تأكيد حب الله تعالى عبده المؤمن وهو يمنعه الدنيا حماية له منها، وفيها إضافة مَنع الطعام عن المريض إضافة إلى الشراب، وفيها بيان أن مَنْع الطعام والشراب عنه ليس بُغضاً له وإنما خوفاً عليه.

فلنحرص على نَشْر هذا الفهم الجميل الصحيح لِكثير مما يمنعه الآباء والأمّهات عن أبنائهم وبناتهم، ولِبعْض ما يمنعه الأزواج عن زوجاتهم أو الزوجات عن أزواجهن.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين