الهجرة وحاضر المسلمين (15- 15)

الخاتمة

الهجرة باب عظيم فتحه الله لعباده المؤمنين، بدأت مَراغِمه ومعتلجاته مع هجرة الجيل الأول مع نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة للبناء والجهاد، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله بعد ما أُخرجوا من ديارهم وأموالهم .

وكانت لهم مع إخوانهم من الأنصار مآثر في التعاون والتباذل:[وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.

ثم إن هذه الهجرة بالمعنى الخاص قد انقطعت بعد فتح مكة وذهب أهلها بالأجر الجزيل. فما ورد من الأحاديث التي تنفي صحة وقوع الهجرة بعد الفتح ينصرف إلى هذا.

أما الهجرة بالمعنى العام فإنها باقية كما جاء في الحديث الصحيح: «إن الهجرة لا تنقطع ما دام الجهاد» . وينبغي للمهاجر ألا يعود إلى وطنه الذي هاجر منه، وذلك على سُنَّة المهاجرين من الصحابة؛ وعليه ورد الحديث الذي رواه البخاري:«اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم».

هذا والهجرة تزخر بألوان وطعوم، وتنفجر فيها المعاني؛فلا يزال شيء خبء كل إقليم، لا يفتح مغاليقه إلا من حُبِي بمراح الإقامة فيه ، كما يحظى المهاجر بإدراك السُّنن الكونية التي تساوره من دفعات الحوادث وأنماط الاجتماع، والتحقق بمعاني التعارف. والتذوق في الممارسة العملية أمر جَلَل يَستنهِض عن أسرار ومُتَع جسام.

ويتزلَّف إلى رحاب المهاجر السَّعة والحسنة التي وعده تعالى بها في الدنيا ، مع ما يُدخَّر له من الأجر في الآخرة ، كما قال تعالى:[وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً] {النساء:100}[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {النحل:41}. 

ويتحقَّق عند المهاجر المُثابِر على أمر الله معنى العبادة الوارد في قوله تعالى:[يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] {العنكبوت:56}.

وقد يحدث بعض اللأواء في الهجرة كما يحدث للناس عامة، غير أن هذا لا ينافي المبَوَّأ الحسن، لأنَّ الخلو من المنغصات من صفات نعيم الآخرة ، وهو ممتنع في الدنيا دار الابتلاء.

وخير مهاجَر في زماننا هجرة المجاهد في سبيل الله ، وهو بهذا النَّمط الفذّ واجب على كل مسلم ، بعد أن اقتطع العدو أطرافاً من مواطن المسلمين .

وإنَّ الأمل يحدو بنا أن نجتزئ قسمات، فرحاً بفضل الله تعالى ، مهما تواترت قوافل الهجرة، فإن ذلك آية عناية الله تعالى بهم خاصَّة، وبالمسلمين من حولهم عامة.

وإن إرهاصات النصر بادية ، تضارع في ملاذات كثيرة شتى ، وما على المسلمين إلا أن يراغموا إلى الهدف، يناجزون عدوهم، ويحملون معالم حضارتهم، حتى ينقذوا العالم من براثن الفساد، ويوجهوه إلى ما فيه الخير والرشاد.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين.

الحلقة الرابعة عشرة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين