الإسلام والبيئة: مدخل إلى المنطلقات والقواعد والتطبيقات

إعداد: د. محمود مصري
دكتوراه في الطب البشري، دكتوراه في تاريخ العلوم
دراسات عليا في علوم الحديث

بحث مقدم إلى ندوة: الدين والبيئة
مديرية أوقاف حلب بالتعاون مع الجمعية الوطنية للتنمية البيئية
السبت 21 ربيع الأول 1431 الموافق لـ 6/3/2010م
في قاعة المؤتمرات في المكتبة الوقفية بحلب
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، والصلاة والسلام على معلم الناس الخير، وعلى آله وأصحابه والتابعين وعلينا معهم، وبعد:
ورقتي ستكون بعنوان: الإسلام والبيئة: مَدخَلٌ إلى المنطلقات والقواعد والتطبيقات.
إن احتضان البيئة للفعاليات الحياتية المختلفة للإنسان، في تاريخه وحاضره ومستقبله، هو بعد أولٌ للعلاقة بين الدين والبيئة، طالما أن الإنسان من خلال تلك الفعاليات الحياتية المحاطة بعناصر البيئة، الممتزجة معها، يحقق رسالة إعماره للكون، كخليفة يلتزم بمنهج المستخلِف.
قال تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها).
ثم إن تقديم الإسلام دليلا إرشاديا عاما في قضايا بيئية مخصوصة على مستوى القيم من جهة وعلى مستوى الأحكام من جهة أخرى هو بعد ثان للعلاقة بين الدين والبيئة، (هذا بيان للناس وهدًى وموعظة للمتقين)، يقول أبو ذر رضي الله عنه: "لقد تركنا محمد  وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا أذكرنا منه علما"، ويتضح هذا البعد من خلال تسخير الموارد والانتفاع والارتفاق بها بطريقة تصون البيئة وتحفظ التوازن البيئي.
وثمة بعد ثالث هو أن الكشف عن السنن الكونية هو الأساس الذي يفتح المجال أمام سبل الاهتداء إلى توظيف نعمة التسخير المطلوب من الإنسان توظيفها، ليحقق بذلك وظيفة الاستخلاف من خلال مرتكزات ثلاثة:
المرتكز الأول: الانسجام والتناغم مع  عناصر الكون، والشعور بأن الإنسان جزء من هذا الكون، لا يكمل الكون إلا به (وما من دابة في الأرض ولا طير يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)، وعدم الشعور بالعداوة لمظاهره، وأنه في صراع معه، بل ليس إلا المحبة والامتنان "أحد جبل يحبنا ونحبه". وهذا بعد أخلاقي مهم في التعامل مع البيئة.
المرتكز الثاني: تفعيل التسخير من خلال فهم القوانين والسنن الكونية المستقرة، وإمكانيةِ التداخل عليها لتغيير النتائج بتغيير المقدمات، وذلك لمصلحة الإنسان وسعادته. (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) (العنكبوت: 20)، (كما بدأنا أول خلق نعيده). وهذا ما يحوّل ساحة التأثير عند الإنسان لتمتد إلى المستقبل بتوجيه من الوحي، بدلا من أن تقتصر علاقته بالمستقبل على مجرد التطلع إلى خباياه، من خلال ما ورد من نصوص الوحي. وهذا المرتكز يتعلق مباشرة بما يسمى بالتخطيط البيئي.
المرتكز الثالث: إمكانية استشراف المستقبل من خلال فهم السياق التاريخي لسير تلك السنن على مستوى الكون والإنسان والحياة. (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) (الأحزاب: 62). وكذلك السنن التي تتكشف لنا اليوم شيئا فشيئا بحكم قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) (فصلت: 53).
من هذه السنن ما أخبرنا به الوحي مباشرة، ومنها ما طلب منا النظرَ في الظواهر الكونية لاستنباطه والوصول إليه، ومنها ما هو مشترك عرفناه بالنظر ودل عليه الخبر. فمن ذلك مثلا سنة عاقبة الإخلال في النظام العام من خلال عدم التزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال  فيما رواه عنه ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه أوشك أن يعُمَّهُم الله بعقابه"، قال المناوي رحمه الله: "أفاد الخبر أن من الذنوب ما يعجلُ اللهُ عقوبتَه في الدنيا، ومنها ما يمهله إلى الآخرة. والسكوت عن المنكر يتعجَّلُ عقوبتَه في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات".
ومن ذلك مثلا قوله : "يا معشر المهاجرين خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنينَ وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم".
وبذلك يمكننا من خلال السنن -عند البحث في قضية مستقبلية تتعلق بالبيئة مثلا- استبعادُ مشاهدَ معينة غيرِ متوقعة، وحصر المشاهد المتوقعة، وترجيح أحدها بحسب المعطيات الحالية، ومحاولة تغيير ذلك الترجيح بتهيئة أسباب ترجيح مشهد آخر من المتوقَّعات المفضلة لدينا، وفق ما علمناه من العوامل المتصلة بهذه القضية والمؤثرة فيها سلبا وإيجابا، وذلك في حال اعتقادنا بالمصلحة التي يمكن أن يحققها ذلك التغيير، مع التحفظ على التدخلات البشرية التي من شأنها إحداث تغييرات بيئية عامة تخل بالتوازن البيئي الذي ابتدعته يد القدرة الإلهية. وتسلسل هذه المنظومة التي أوردناها هو الأساس الذي يقوم عليه اليوم كل ما يسمى بالدراسات البيئية المستقبلية.
وهكذا نفهم الاستخلاف عبورًا من السنن الكونية إلى التسخير. وهو عبور بقَدَر (الاستشراف)، من قَدَر (السنن) إلى قَدَر (التسخير)، فلا مجال فيه لتوهم الخروج عن قدر الله (سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا) (الأحزاب: 38).
وإذا اعتبرنا هذه الأبعادَ المتقدمُ ذكرها ثلاثية المنطلقات، يمكننا أن نلخص ثلاثية القواعد الضابطة لعلاقة الإسلام بالبيئة بقواعد فقهية شرعية نذكر طائفة مختارة منها قسمتها إلى ثلاث مجموعات متجانسة، وأبدؤها بالكلام على قاعدة أصلٍ في الموضوع ثم أُتبع ذلك بسرد القواعد الأخرى، دون تعليق عليها لضيق الوقت، وأترك لكم تصور تطبيقاتها الواسعة في قضايا البيئة:
القاعدة الأصل هي: مقصد الأحكام جلب المصالح ودرء المفاسد: وهذا يحتاج إلى نظر دقيق للغاية لأن المقصود منه اعتبار المآل، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في موافقاته: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره لما يؤول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصد فيه. وقد يكون غيرَ مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك". إذًا اعتبار المآل في الواقع يجعلنا نصيب في تطبيقات كثير من الأحكام المتعلقة في قضايا البيئة حيث يُنظر للعواقب والمآلات الخطيرة، ويُهمل أمامها تحصيل مصالح محدودة مؤقتة.
وهذا الأصل العظيم الذي هو النظر في المآلات فرع عليه العلماء عددا من القواعد شرعية مثل: الذرائع، والحيل، ومراعاة الخلاف، والاستحسان.
وقد وردت أحاديث جليلة في هذا الباب لا مجال لذكرها هنا، ويمكن الرجوع إليها لمن أحب في صحيح البخاري مثلا حيث ترجم لها البخاري رحمه الله بقوله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصُرَ فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه".  
المجموعة الاولى:
1. الأمور بمقاصدها.
2. مراعاة المقاصد مقدّمةٌ على رعاية الوسائل أبدًا.
3. المشقّة تجلب التيسير.
4. إذا ضاق الأمر اتسع.
5. كلّ ما لا يُتوصّل إلى المطلوب إلا به فهو مطلوبٌ.
6. كلّ ما لا يمكن الاحتراز عن ملابسته فهو معفوٌّ عنه.
المجموعة الثانية:
1. لا ضرر ولا ضرار.
2. إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما.
3. حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولى مِن جلب النفع.
4. درء المفاسد مشروطٌ بأن لا يؤدّي إلى مثلها أو أعظم.
5. الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضارّ التحريم.
6. كلّ تصرّفٍ جرّ فسادًا أو دفع صلاحًا فهو منهيٌّ عنه.
7. كلّ سببٍ يفضي إلى الفساد نُهي عنه، إذا لم يكن فيه مصلحةٌ راجحةٌ.
8. كلّ ما دعت الحاجة إليه في الشريعة ممّا فيه منفعةٌ، ولم يعارضه محظورٌ فإنّه جائزٌ، وواجبٌ بحسب حاله.
9. يُتحمّل الضرر الخاصّ لمنع الضرر العامّ.
المجموعة الثالثة:
1. بناء القويّ على الضعيف فاسدٌ.
2. إنّما تعتبر العادة إذا اطّردت أو غلبت.
3. الظنّ الغالب ينـزل منـزلة التحقيق.
4. العبرة بالغالب، والنادرُ لا حكم له.
5. لا عبرة بالظنّ البيّن خطؤه.
6. كلّ جهلٍ يمكن دفعه لا يكون حجّةً للجاهل.
7. الحاجة تنـزّل منـزلة الضرورة ما دامت متعيّنةً.
8. الحرج منفيٌّ، ومواضع الضرورات مستثناةٌ من قضيّات الأصول.
9. الضرورات تبيح المحظورات.
10. الضرورات تقدّر بقدرها.
11. الرخص لا تنال بالشكّ.
12. الرخص لا تنال بالمعاصي.
13. المباح يتقيّد بالسلامة.
14. كلّ ما لا يُنتفع به بيقينٍ فأكل المال عليه باطلٌ.
15. من ترك واجبًا في الصون ضمن.
أقول من أجل أن أنتقل من المنطلقات والقواعد إلى التطبيقات: إن سوء تعامل الإنسان مع البيئة خلف آثارا سلبية على مستوى الصحة والمجتمع وعلى مستوى تهديد التوازن البيئي في الكون الذي نعيش فيه، وجعل مشكلات البيئة اليوم تشكل أزمة إنسانية محورية نشأت عن البعد عن المنطلقات والقواعد المتقدم ذكرهما.
وإنّ وعيَنا لذلك كله يجعلنا نقف أمام ضرورة العودة إلى توجيهات خالق عناصر البيئة وخالق التوازن بينها لتبقى البيئة حاضنة صالحة لفعاليات حياة الإنسان المتنوعة، متناغمة مع فطرة الإنسان التي فطره الله عليها، كما كانت من قبل أن تنالها يد تخريب الإنسان منذ ما سمي بفجر الثورة الصناعية، حيث بدايات الأزمة.
وترجع مشكلة التعامل مع عناصر البيئة في أصولها إلى أزمة أخلاقية عميقة أنشأتها الفلسفة المادية للثورة الصناعية التي بثت ثقافة الأنانية من خلال ما يأتي:
1- الإسراف في الاستهلاك مما أدى إلى استنزاف الموارد.
2- جنون التملك الذي أدى إلى النزاع على الموارد واحتكارها.
3- سوء فهم علاقة الإنسان بالكون الذي أدى إلى أن يضع الإنسان نفسه موضع الصراع مع الطبيعة، ويجعل من قهرها هدفا له. بينما تقوم علاقة الإنسان بالكون من المنظور الإسلامي على أساس معرفة خضوع الكون لخالقه، وأنه مسخَّر للإنسان صديق له، متناغم مع فطرته، كما وجدنا في المنطلقات.
وهذه السلبيات الأخلاقية التي ذكرناها في التعامل مع البيئة نتج عنها كوارثُ التلوث البيئي في مرافق الحياة الضرورية، واضطرابُ التوازن البيئي في الكون الذي نعيش فيه.
إن هذه السلبيات ونتائجها يمكن تجنبها تماما بتطبيق تعاليم نصوص القرآن والسنة في مجال صيانة البيئة والحفاظ على التوازن البيئي، وتعود هذه التطبيقات المبثوثة في نصوص الوحي إلى عناوين رئيسة نذكر منها:
1- الحث على النظافة الشخصية والعامة على جميع المستويات.
2- الحث على عدم الإسراف وعلى عدم الاحتكار.
3- الحث على حماية الموارد الطبيعية الأساسية.
4- الحث على حماية البيئة الحيوانية.
5- الحث على حماية البيئة النباتية.
6- الحث على تجنب التلوث.
7- الحث على عدم تخريب النظام البيئي العام وعدم كسر التوازن البيئي.
وغير ذلك مما يندرج تحت ما ذكرناه من المنطلقات والقواعد. وقد تحدث فضيلة المفتي الدكتور محمود عكام عما وردنا من نصوص حول تلك التطبيقات. وسوف يحدثنا الدكتور جلال الدين خانجي عن جزئية مهمة جدا تتصل بعلاقة الدين بالبيئة، وهي: البيئة والتنمية من خلال منظور إسلامي، لذلك أردت أن تكون ورقتي مدخلا للحديث عن علاقة الإسلام بالبيئة من خلال المنطلقات والقواعد والتطبيقات على وجه العموم.
أختم بقولي: إن الخالق الذي أراد للإنسان أن يحقق رسالة نبيلة في حياته على هذه الأرض تنسجم مع فطرته التي فطره عليها، يسّر له العيش في ظلال حاضنة حنونة هي البيئة المحيطة فيه، التي تمكنه من أداء هذه الرسالة على الوجه الأمثل، لتماشيها مع تلك الفطرة حسًّا ومعنى. ولم يبق على الإنسان –بعد ذلك- إلا أن يحافظ على هذه النعمة، من خلال ما ذكرنا من منطلقات وقواعد وتطبيقات، فلا يكون سببا في ظهور الفساد على الأرض، فيتحمل إثم من أشار إليهم قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس). 
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين