الهجرة وحاضر المسلمين (13- 15)

مع خير مهاجَر

أمَا وإن خير مهاجَر في زماننا هذا وأعلاه ـ كما رأينا ـ هجرة المجاهد في سبيل الله تعالى ؛ وهو بهذا النمط الفذ واجب على كل مسلم، بعد أن هتكت بعض بلاد المسلمين ، واقتطع العدو أطرافاً من مواطنهم، من مثل الفلبين وجنوب شرق آسيا كله، والاتحاد الروسي على امتداد أطرافه، فإنه كان كله خاضعاً للمسلمين ، وروسيا البيضاء ، وما يقارب نصف أقاليم الصين، ومنغوليا ومنشوريا، والهند كلها ونيبال وجزيرة سيلان، وجورجيا وأرمينيا، وأوكرانيا وبلغاريا، ويوغسلافيا، وكرواتيا، والمجر وسلوفينيا وما جاورها، واليونان، وأثيوبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ، والكونغو وأنغولا وزامبيا وجنوب أفريقيا وغانا وتوجو، ثم سائر الدول الأفريقية ، التي تحكمها حكومات نصرانية باقية ، من أثر الاحتلال الغربي ، لأن أفريقيا كلها بحيرة إسلامية ، أكثريتها الساحقة ـ في أرجائها جميعاً ـ مسلمة، ثم فلسطين وهي قلب العالم الإسلامي ، فكان الواجب على المسلمين جميعاً أن يهبوا للذود عنها، فإن أُرهقوا عن مواطنهم فليبارحوا إلى حيث الأمنة والرخاء، والتربص للمنابذة، كلما أنسوا لذلك مَطْلباً ، فهنيئاً للذين كرسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله تعالى ، وحقيقاً بهم بشريات رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دلَّني على عمل يعدل الجهاد. قال: لا أجده، قال : هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك ، فتقوم ولا تفتُر ، وتصوم ولا تُفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو هريرة : إن فرس المجاهد لَيسْتَنُّ في طِوَله ، فيكتب له حسنات (1).

مع المجاهدين

ويجدر بنا ههنا أن نستروح في وصف المجاهدين في سبيل الله وكرامتهم ، بما أفصح ابن القيم عنهم بقوله: «هم جند الله الذين يقيم بهم دينه، ويدفع بهم بأس أعدائه، ويحفظ بهم منصة الإسلام، ويحمي بهم حوزة الدين، وهم الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا ، قد بذلوا أنفسهم في محبة الله ، ونصر دينه، وإعلاء كلمته، ودفع أعدائه، وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم، في أعمالهم التي يعملونها، وإن باتوا في ديارهم، ولهم مثل أجور من عبَد الله بسبب جهادهم وفتوحهم، فإنهم كانوا هم السبب فيه، والشارع قد نزَّل المتسبِّب منزلة الفاعل التام في الأجر والوزر، ولهذا كان الداعي إلى الهدى ، والداعي إلى الضلال، لكلٍّ منهما بتسببه مثل أجر من تبعه.

وقد تظاهرت آيات الكتاب ، وتواترت نصوص السنة على الترغيب في الجهاد والحض عليه، ومدح أهله والإخبار عما لهم عند ربهم ، من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات، ويكفي في ذلك قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] {الصَّف:10}.فتشوفت النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التي دل عليها رب العالمين العليم الحكيم، فقال:[تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ] {الصَّف:11}. فكأنَّ النفوس ضنَّت بحياتها وبقائها فقال:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يعني : أن الجهاد خير لكم من قعودكم للحياة والسلامة ، فكأنها قالت: فمالنا في الجهاد من الحظ، فقال :[يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] {الصَّف:12} .ومع المغفرة: [وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {الصَّف:12} ﴾﴾.فكأنها قالت: هذا في الآخرة ، فما لنا في الدنيا؟ فقال:[وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {الصَّف:13}. فلله ما أحلى هذه الألفاظ ، وما ألصقها بالقلوب ، وما أعظمها جذباً لها ، وتسييراً إلى ربها، وما ألطف موقعها من قلب كل محب ، وما أعظم غنى القلب، وأطيب عيشه ، حين يباشره معانيها ، فنسأل الله من فضله إنه جواد كريم... وقال تعالى:[لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا(96) ]. {النساء}. فنفى سبحانه وتعالى التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين..» (2).

ثم يقول في بيان الدرجات الواردة في الآية السابقة:«والصحيح أن الدرجات هي المذكورة في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقاً على الله أن يدخله الجنة،هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشِّر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة ، قالوا: وجعل سبحانه وتعالى التفضيل الأول بدرجة فقط وجعله ههنا بدرجات ومغفرة ورحمة...» (1).

أقول: المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم وكرامتهم، وبالدرجات منازل الجنة (2).

الحلقة الثانية عشرة هنا

===-

(1) صحيح البخاري ، كتاب الجهاد: باب فضل الجهاد. 

(2) ابن القيم: طريق الهجرتين ، وباب السعادتين، ص462 فما بعدها ، مع حذف. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين