إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجا

الشيخ : أحمد النعسان


الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
قلنا: اجعل شعارك في هذه الحياة الدنيا شعارَ الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام, شعارَ الأولياء والصالحين: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ}.
الصبر يجب أن يكون بالله تعالى:
أيها الإخوة الكرام: الصبر الجميل هو الذي لا شكاية فيه لمخلوق, وقد يتصور الإنسان الصبر بأنه سهل ويسير, ولكنه في الحقيقة صعب وشاق, ولذلك قال سيدنا يعقوب عليه الصلاة والسلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ}.
لأنه إذا لم تكن المعونة من الله تعالى للعبد فإن العبد لا يستطيع على شيء, فإذا استعان العبد بالله عز وجل وصدق في طلب العون من الله تعالى فإن الشدائد والمِحن والابتلاءات مهما عظمت واشتدت فإنها تهون بالله تعالى, لأن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
لهذا نرى الحق سبحانه وتعالى عندما أمر سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه أمره أن يكون صبره بالله تعالى, فقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ}, لأنه من اعتمد على الله كفاه.
أما العبد الذي يعتمد على نفسه فإنه لا يطيق شيئاً من شدائد هذه الحياة الدنيا, ولأقل الابتلاءات والمحن قد يفكر في الانتحار, أو تتعقد حياته فلا يراها إلا سواداً وظلاماً والعياذ بالله تعالى.
ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر:
أيها الإخوة الكرام: نحن بأمسِّ الحاجة إلى ترسيخ عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر حتى نعيش سعداء في هذه الحياة الدنيا ولو وجدت المنغِّصات والابتلاءات في حياتنا, لأنَّنا على يقين بأنها لمصلحتنا, كما قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}, وكما قال تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا}.
نعيش سعداء ببركة عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر, لأننا على يقين بأنَّ الحياة الدنيا مزرعة للآخرة, حيث القرار هناك, وحيث النعيم الذي يشوبه أيُّ كدر.
نعيش سعداء ببركة الإيمان بأن الله تعالى فعَّال لما يريد, وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم, وهو قد وعد أهل الصبر على الابتلاءات بجنة عرضها السماوات والأرض, حيث في الآخرة: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِير}, لا مكان ثالثاً, ورحم الله القائل:
هما محلان ما للمرء غيرهما *** فاختر لنفسك أيَّ الدار تختار
نعيش سعداء ببركة الإيمان بأن المجيد فعال لما يريد, لأننا على يقين بأن الشدة لا تدوم, وأن الكرب لا يدوم, وأن الضيق لا يدوم, وبأن الفرج آت لا محالة بإذن الله تعالى, كما روى الإمام أحمد في مسنده, أن النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا, وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ, وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ, وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا), ويقول صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين) رواه البيهقي في الشعب.
هذا كلام الله تعالى, وكلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
الإيمان بالآخرة بلسم شافٍ لأهل الابتلاءات:
أيها الإخوة الكرام:إضافة إذا هذا فإن الإيمان بيوم القيامة بلسم شافٍ لأهل الابتلاءات, فهم يتطلَّعون إلى الآخرة ويشتاقون إليها لصفائها, فهم يعيشون معها حقيقة ولو لم يشاهدوها, لأن الله تعالى حدَّث عنها, ولأن الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم حدث عنها, حتى رأينا أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عايشوا الآخرة كأنها رأي العين, وحتى قال بعض أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض المعركة: (فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ) رواه البخاري وأحمد.
وتقول أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها: (لِلَّهِ دَرُّ التَّقْوَى مَا تَرَكَتْ لِذِي غَيْظٍ شِفَاءً) أورده الماوردي في أدب الدنيا والدين. لماذا؟ لأن الذي يكظم غيظه موعود بجنة عرضها السماوات والأرض, كما قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}.
فببركة الإيمان بيوم القيامة يكظم المؤمن غيظه, بل يعفو عمن أساء إليه, والأكمل من هذا وهذا أنه يحسن إلى من أساء إليه طمعاً في هذه الجنة.
وكان سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: (من خاف الله لم يشف غيظه ، ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون) رواه أبو نعيم في الحلية وأبو داود في الزهد وابن عساكر في تاريخ دمشق, فالإيمان بالآخرة وما أعد الله فيها لأهل البلاء عزاء لأهل البلاء في دنياهم.
أما غير المؤمن ـ والعياذ بالله تعالى ـ فليس عنده إيمان برب حتى يفزع إليه, وليس عنده إيمان بالقيامة حتى يتنسم ريحها وهو في الحياة الدنيا, وليس عنده إيمان برسول يجعله قدوة وأسوة له حتى تهون عليه المصائب والشدائد.
إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً:
أيها الإخوة الكرام: إن اليأس من رحمة الله تعالى ومن تفريج الكرب كبيرة من الكبائر, وذلك لقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُون}. اليأس ـ والعياذ بالله تعالى ـ استصغار لسعة رحمة الله عز وجل, واستعجاز لقدرته تبارك وتعالى, والله تعالى يقول:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. ويقول تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}.
لذلك رأينا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الشدائد والمحن ضرب لنا أروع مثل في الصبر على الشدائد, وما استطاع اليأس أن يتسلَّل إلى قلبه الشريف مع الشدائد التي لا تطيقها الجبال الراسيات, لقد آذاه أهل مكة المكرمة حتى اضطروه أن يخرج منها إلى الطائف, وتعرفون كيف استقبلته الطائف, ورجع منها بعد الإيذاء الشديد إلى مكة المكرمة, ووقف على أبواب مكة, وما تمكَّن من دخولها إلا بجوار رجل مشرك, هو المطعم بن عدي, وكان في صحبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه, فقال له سيدنا زيد رضي الله عنه: كَيْفَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَخْرَجُوك ؟ ـ يَعْنِي قُرَيْشًا ـ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (يَا زَيْدُ إنّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا, وَإِنّ اللّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيّهُ) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى.
يقين ما بعده يقين, فهو مع الشدائد يتطلع إلى الفَرَج وإلى المخرج, وكيف سيكون الفَرَج والمخرج لا لا يعلم, بل يعلم بأن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}:
أيها الإخوة الكرام: هذا الكلام الشريف الذي قاله صلى الله عليه وسلم لسيدنا زيد رضي الله عنه هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم الهجرة, عندما أدركه الطلب وهو في الغار مع صاحبه, عندما قال صلى الله عليه وسلم: (مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) رواه البخاري ومسلم. وقال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}.
وهنا إشارة لطيفة: لماذا أدرج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديق معه في هذه المعية, {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}, وسيدنا موسى عليه السلام لم يدرج أتباعه في هذه المعية عندما أدركهم فرعون وقومه, فقال سيدنا موسى عليه السلام: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين}, لم يقل: كلا إن معنا الله سيهدينا؟
الجواب عن ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ: هو أن سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان خوفه على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس على نفسه, فكانت المكافأة من الله تعالى له بأن أدخله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعية فقال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}.
أما قوم سيدنا موسى عليه السلام فكان خوفهم على أنفسهم لا على سيدنا موسى عليه السلام, ولأنهم: {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا}, لذلك ما أشركهم سيدنا موسى في هذه المعية, بل قال: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين}.
{وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين}
أيها الإخوة الكرام: يجب علينا أن نرسخ هذه العقيدة في نفوسنا: (إنّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرْجًا وَمَخْرَجًا) حتى لا يدخل اليأس إلى قلوبنا.
لأنه مهما ضاقت علينا الدنيا وضاقت علينا الأسباب فإنه لن يكون حالنا كحال سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام الذي ابتلعه الحوت, ومع ذلك لم ييئس ولم يقنط من رحمة الله تعالى: { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين} [الأنبياء: 87ـ88].
فالإخراج من الضيق مهما اشتد ليس خاصاً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام, بل هو عامٌّ لكلِّ المؤمنين, {وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين} هذا إذا كنا على قدمهم في التحقق بالعبودية والاعتراف بالتقصير, وعدم اليأس من رحمة الله وروح الله.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة: ختاماً أقول: ربنا عز وجل ما أعطانا إلا ليعطينا, وما ابتلانا إلا ليعطينا, فالعطاء منه مبذول على سائر الأحوال.
أعطانا وطلب منا الشكر ليعطينا, قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}, ومنعنا وابتلانا وطلب منا الصبر ليعطينا, فقال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون}, وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب}.
ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) رواه البخاري.
ولعلنا نتابع هذا الحديث في الدرس القادم إن أحيانا الله عز وجل, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين