الهجرة وحاضر المسلمين (10 - 15)

فضيلة المحسن على غيره ودرجة المهاجر على المحسن

فضيلة المحسن على غيره

قد وعد الله تعالى المحسن غير المهاجر بالحياة الطيبة ، تتهادى على أطرافه ، وتتروّى على أكنافه، فيسعد بها في دنياه، دون ما ينتظره من نعيم الآخرة، فقال تعالى :[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {النحل:97}.وقال أيضاً:[وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ] {النحل:30} وقال أيضاً:[قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10}.فهذا الذي ذكر من الحياة الطيبة في الآية الأولى، والحسنة في الآيتين الأُخْرَيين إنما هو جارٍ على المؤمنين في الدنيا، على رأي بعض المفسِّرين.

درجة المهاجر على المحسن:

لكن المهاجر إذا ثوى على كَنَف ما عليه المحسن من إتقان العمل ، زاد عليه بدرجة الهجرة، فضلاً من الله ورحمة.

الإيمان شرط لقبول العمل:

ثم إن العمل الصالح، الذي تترتب عليه الحياة الطيبة، والرفيدة الحسنة، لا يعتد به ، ولا يَرد موارد القبول ، حتى يكون مبنياً على قاعدة عتيدة من الإيمان.

وعلى هذا فإن أعمال الكفار مردودة عليهم، ولا يلجون هذا المولج الذي وعد الله تعالى به المؤمنين.

وأماط عن ذكر النوعين : الذكرِ والأنثى ، دفعاً لتوهُّم التخصيص، وإثباتاً للتأكيد ، حيث تقتضي المبالغة في تقرير الوعد لهما؛ وهو من أعظم دلائل الكرم والرحمة(1).

وجوه الحياة الطيبة:

أما الحياة الطيبة فقد تعددت أقوالهم في بيان وجوهها؛ فقد قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء : هي الرزق الحلال، وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة، وقال أبو بكر الوراق: هي حياة تصحبها حلاوة الطاعة، وقال الحسن: هي القناعة، فقد أخرج البيهقي في الشُّعب ، والحاكم وصححه، وابن أبي حاتم، وغيرهم عن العباس رضي الله عنه أنه فسرها بذلك، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : اللهم قنعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف على كل غائبة لي بخير(2).

بل هو مَثَل جامع لكل ما يحقق الهناءة والسعادة:

والحقُّ أن ذلك مَثَل جامع، لكل ما يحقق الهناءة والسعادة لصاحبه، من هذه الوجوه وغيرها، وهو ـ إذ يُشكِّل قاسماً مشتركاً بين من اتَّصفوا بهذه الصفة ـ قد تختلف بعض مفرداته عن بعض، بين فردٍ وآخر ، فقد تكون السعادة متعلقة ببعض ملتمسات الحياة عند بعض ، ولا تكون عند آخرين ذات بال.

هذا لا يعني عدم وقوع المنغصات:

يبد أن هذا العيش الطيب الرغد في الدنيا، لا يعني عدم وقوع المنغِّصات، فالدنيا شأنها أنها دار عبور وابتلاء ، ليتميَّز ما هنالك من عمل طيب وخبيث ، كما قال تعالى:[ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا] {الملك:2} .أما الخلو من المنغِّصات فهذا من صفات نعيم الآخرة ، وهو ممتنع في دار الابتلاء.

الابتلاء مُطَّرد على الناس كافة:

والابتلاء بالخير والشر مُطَّرِد على الناس كافة ، مؤمنهم وكافرهم، مطيعهم وعاصيهم؛ قال تعالى: [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] {الأنبياء:35}.

الحلقة التاسعة هنا

* * *

======-

(1) انظر الخازن والنسفي والبيضاوي : مجمع التفاسير ج3ص638. 

(2) روح المعاني ج14ص227، والخازن من مجمع التفاسيرج3ص639.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين