المنهج الصحيح لتدريس الحديث النبوي الشريف

قالوا: ما لك تعيب منهج تدريس الحديث النبوي الشريف في عامة المدارس ذامًّا له في غير لين ولا هوادة؟ 

قلت: أعيبه طاعنًا فيه لاحيًا، لإخطائه الهدف المرجو منه مزورًّا عنه ازورارا.

قالوا: ما الهدف المرجو منه؟

قلت: تلقَّى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم منه والسنة مباشرة بدون واسطة، يعونهما ويتفقهون فيهما ويعملون بهما، فلما جاءالتابعون أخذوا القرآن كما أخذه الصحابة رضي الله عنهم، حافظيه ومقيميه، واختلفوا عنهم في تعاملهم مع السنة اختلافا بينا، لأنها أصبحت خبرًا ينقل وتأريخًا يتداول قبل أن تكون سنة تطبق تطبيقا، فعنوا أولا بالبحث عن صدق رواة الحديث واستقامتهم وضبطهم له وإتقانهم، وسعوا ثانيًا في تفقهه والعمل به، وتبعتهم على ذلك الأجيال التالية إلى القرن الرابع، وكلما بعد العهد وزادت الوسائط وكثر الرجال اشتد أمر التفتيش والتنقيب.

فالهدف المرجو من تدريس الحديث أمران: عملية التوثق من صحته، ثم تفقهه والعمل به.

قلت: أهمل الناس في القرون المتأخرة الأمر الأول ساهين عنه متغافلين، وأحدثوا تجريد المتون من أسانيدها، وعزل المضامين عن مصادرها التي تحال عليها، والتي تعتمد عليها صحتها اعتمادا، واستوى تعاملهم مع القرآن والسنة استواء تعاملهم معهما في عصر الصحابة، بفارق أن الصحابة قرنوا بين أمرين متماثلين، وهؤلاء سووا بين أمرين متضاربين، فأصاب أولئك وأخطأ هؤلاء.

قالوا: اشفنا بيانا.

قلت: ظهرت في القرن الخامس بدعة معاملة الأحاديث معاملة النصوص المقدسة دون وضعها موضعها من الخبر والتاريخ، ولاسيما منذ أن ألف الإمام محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد الفراء البغوي (433-516هـ) كتابه المصابيح مجردًا عن الأسانيد، وأقبل كسالى الناس عليه، فتلاه علماء حذوا حذوه، وتكاثرت الكتب المجرَّدة، وتفاقمت الرزيَّة، وأمْست الأحاديث تدرس نصوصا كنص القرآن، وركز الطلبة وشيوخهم على متونها ومعانيها مستثقلين أسانيدها ومتناسين خطورة شأنها، غير مهتمين بالتوثق من صحتها، ولا مهتدين إلى الفرق بينها وبين القرآن الكريم المحكمة آياته والغنية نصوصه عن مثل هذا التوثيق.

قالوا: هذا كان تيسيرا منهم للمبتدئين، فإذا تقدموا درسوا سنن أبي عيسى وأبي داود مع أسانيدهما، ودرسوا غيرهما من السنن، ثم ارتقوا إلى دراسة الصحيحين والموطأ. 

قلت: هذا التدرج لم يصحِّح مسارهم، لأنهم قد درسوا تلك الأحاديث من دون أن يحققوها صحةً وضعفًا، وثبت في نفوسهم تعظيمها، فلما درسوا أصول كتب السنة غاب عنهم أمر التوثيق، ومروا بها مرور الكرام، وعمَّ في الناس إجلال كل ما انتشر باسم الحديث وتمجيده، وتسارعوا إلى قبول الضعاف والشواذ والمناكير والواهيات والموضوعات، شاحنين بها صحفهم وكتبهم، وحاشين بها خطبهم وكلماتهم، ووقع فيها الكبار، وزل بها الأعلام، ولم يسلم منها إلا قليل بل أقل قليل، وكان من تقديسهم للكنوز المروية والذخائر المتناقلة أن لم يستسيغوا معنى ضعف الحديث وشذوذه ونكارته، واحتالوا لتوثيق كل ضعيف وشاذ ومنكر وواه، بل موضوع متشبثين بكثرة الطرق وتشعُّب الوجوه، فاختلط الحابل بالنابل، وصار الضعيف صحيحا وحسنا، والشاذ محفوظا، والمنكر معروفا، والواهي والموضوع مستأنسا بهما غير مستغربين ولا مستوحشين.

قالوا: فما المنهج الصحيح؟

قلت: هو الذي كان عليه التابعون ومن بعدهم حتى القرن الرابع، وهو تناول الحديث بجزأيه الذين لا يتجزءان:

الأول دراسة الأسانيد: أي أن لا يعامل الحديث معاملة الفلسفة، ولكن يعامل معاملة التاريخ والخبر، والتاريخ يحال فيه على مصادره ويولى فيه بالبحث عن صدقه وتحقيقه تحقيقا، والخبر لا يقبل حتى يفصل السليم منه عن رديئه ويمحص تمحيصا.

والثاني: دراسة المتون، أي أن يعنى بوعي مضمون الحديث وتفقهه والعمل به رابطا إياه بكتاب الله تعالى، مبينا له بيانا، وموفقا بينهما توفيقا.

فإذا جمع الطالب بين الأمرين نشأ على التمييز بين القرآن والحديث، وأن الحديث يجب فيه التوقّي والحذر، وهذا التوقّي لازم لصحَّة العلم، وهو الذي كان عليه سلف هذه الأمة، واعلموا أن تجريد الحديث من أسانيده خطأ جسيم لا تزال الأمة تعاني من خطره، وقد سبق لي مقالان يساعدان في هذا الجانب: أحدهما "بين الحديث والفلسفة"، والثاني "تقاصر العلماء عن منهج أهل الحديث".

قالوا: فأخبرنا بأي كتاب يبدأون، وكيف يتدرجون؟ 

قلت: يجب أن يبدأوا بالموطأ للإمام مالك رحمه الله تعالى رواية يحيى بن يحيى الليثي، ويعالجوا دراسة أسانيده دراسة متعمقة، ويحققوا منهج مالك في الحذر من قبول الحديث، ويشتغلوا بمتونه دراسة وعي وفهم وعمل به، فإذا أتموا الموطأ آتِينَ على جوانبه كلها باشروا جامع أبي عيسى تقصيا لمباحثه الإسنادية والفقهية، ثم درسوا صحيح مسلم وصحيح البخاري دراسة واعية للأسانيد والمتون كلها، ويطبق هذا المنهج نفسه على سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه.

ويجب عليهم أيضًا أن يدرسوا مقدمة صحيح مسلم وعلل الترمذي وأشياء من الرسالة للإمام الشافعي، وكتاب معرفة علوم الحديث للحاكم، وكتب الخطيب البغدادي، وعلل ابن أبي حاتم، وعلل الدارقطني، وتاريخ البخاري، وأشياء أخرى.

قالوا: يستغرق ذلك وقتا طويلا.

قلت: هذا هو شأن العلم، كله جدٌّ وعمل، وإنما يوفق إليه من لا شأن له إلا هو، ولا همَّ له إلا هو.

قالوا: فما رأيك في دراسة رياض الصالحين، وبلوغ المرام، ومشكوة المصابيح؟ 

قلت: هو المنهج الخاطئ الذي حذرتكم منه، وهو الذي حرف في العقول والأفكار معنى الحديث وشوَّهه تشويها، ولا أنكر أن في دراسة الكتب المجرَّدة بعض النفع للعوام الذين ليسوا بطلاب لعلم الحديث ولا هم بمنزلة الخواص.

قالوا: أو ليست كتب الفقه مجردة عن الأسانيد؟

قلت: كلامي في تدريسها مثل كلامي السابق في الحديث، بل أعنف وأقسى.

قالوا: فألقِه علينا.

قلت: سأفرد بيانه في مقال، فانظروا فيما قدمت لكم واصبروا إن كنتم على طريق الحق سائرين، وعلى اتِّباع منهج البحث والتحقيق حريصين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين