من أكل بصلاً وثوماً فصَلاتُه في بيته

دعاني صديقٌ مرّةً مع عدد من الأصدقاء إلى وليمة غداء. وكما هو متوقَّع في مائدة شاميّة تقليدية فقد كان الثوم حاضراً في الطعام بقوّة، والطبقُ الذي نجا من الثوم لم يَنجُ من البصل، ومَن لم يكفِه ما اختلط بأطباق الطعام من هاتين البقلتين فأمامَه أعوادٌ من البصل الأخضر يأخذ منها ما يشاء.

فلما فرغنا وشربنا الشاي أذّن العصر، وكان المسجد قريباً من بيته، فقال: هيا بنا. قلت: إلى أين؟ قال: نصلي العصر في المسجد. قلت: والبصل والثوم الذي أكلناه؟! فضحك وقال: لقد مضغتُ عرقين من النعنع، فاصنعْ مثلي تذهَبْ رائحةُ البصل والثوم.

قلت: يا رجل! لو أني أكلت رطلاً من النعنع لن يغلب ريحَ بصلة! ولعلك تعلم أن الرائحة الكريهة للبصل والثوم لا تقتصر على الفم وحده، بل يفرزها الجلد أيضاً مع العرق فضلاً عن خروجها مع النفَس، أفنذهب إذن لنؤذي المصلين؟ ثم إنك فيما أعلم حنفي، والأحناف (كالمالكية وبعض الشافعية) يرَون أن جماعة المسجد سنّة مؤكدة، أما إيذاء المصلين بالثوم والبصل فإنه محرَّم مَنهيّ عنه بنص الحديث الصحيح. أفنَقترفُ حراماً من أجل سنّة؟

* * *

قال صاحبي: إنك تكبّر أمراً هيناً، ولا أظنه يبلغ هذه الدرجة من الأهمية والخطورة.

قلت: أما التكبير والتصغير فليس مني، بل هو أمر صريح ممّن هو خير مني ومنك. في حديث جابر عند البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته". كذا بصيغة الأمر الجازم. ثم إنك لا تدري كم يزعج آكلُ البصل والثوم غيرَه من المصلين وينفّرهم من الجماعة! أقسم بالله لقد هممت مرات أن أقطع صلاتي وأترك الصف بسبب بَصَليّ أو ثوميّ صلّى إلى جواري.

وإني ما أكلتهما في وليمة لم يشاركني فيها أهل بيتي إلا حرصت على تجنب إيذاء أهل البيت برائحة فمي، فأحافظ على "مسافة أمان" لا تقل عن متر بيني وبين أولادي وبيني وبين زوجتى ستاً وثلاثين ساعة على الأقل، بقيّةَ اليوم الذي أكلت فيه الطعام المبصَّل المثوَّم ويوماً بعده. وكذا أجتنبُ المساجدَ هذا الوقت، فإني جرّبت وتبادلت الخبرات مع غيري مرات ومرات حتى أيقنت أن هذا الأكل لا يزول أثرُه في أقل من هذه المدة، وأحَبُّ الناس إلى رب الناس مَن لم يؤذِ غيرَه من الناس، القريبين والبعيدين منهم على السواء.

* * *

ويلحق بهذا الباب مَن غلبت على جسمه أو ملابسه رائحةُ العرق، من العمال والحِرَفيّين الذين يُمضون أكثر يومهم في العمل الشاق، أعانهم الله. وما أزدري أعمالهم ولا أقلل من شأنهم، بل إنهم لَيستحقون الاحترام والتقدير لأنهم يكسبون رزقهم بشرَف ولا يتكفّفون الناس، ولكن الذوق والدين يقتضيان أن يفارقوا المصلى العام إذا غلب على ظنهم أنهم يؤذون المصلين بقذارة الملابس وروائح الأبدان.

والمدخنون! أولئك الأسوأ بين الجميع، ولا سيما المُدْمنون المُكْثرون. ولا أذكر أنني قطعت صلاة في مسجد إلا مرة واحدة في هذا العمر الطويل، وقف إلى جانبي رجل لم أعرف أهو مدخّن أم مِدْخَنة، أصابني من رائحته –أقسم بالله- غَثَيان ما عدت أقدر معه على البقاء في الصف، فقطعت صلاتي وبحثت عن موضع بعيد عنه فأحرمت بالصلاة من جديد (ولو ابتعدت عنه عشرَ خطوات ولم أخرج من الصلاة فصلاتي صحيحة على بعض المذاهب، وفي أدلّة أصحاب هذا الرأي قوة ووجاهة).

* * *

فيا أيها المؤمنون: كُلوا ما شئتم واصنعوا ما تريدون، ولكن فكروا بالآخرين وقدّروا ما يزعج الناس فاجتنبوه، والتزموا بالتوجيه النبوي ولا تنسَوه بحال: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته". تقبل الله صلاتكم في بيوتكم، وصحّةً وهناءةً فيما تأكلون وتشربون.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين