في الرابع من ربيع الآخر سنة 903: ولاية الشريف بركات على مكة المكرمة

في الرابع من ربيع الآخر من سنة 903 تولى الشريف بركات بن محمد بن بركات بن حسن بن عجلان بن رميثة الحسني، إمارة مكة المكرمة، بعد وفاة والده الشريف محمد، المولود سنة 840، الذي دام أميراً على مكة مدة 45 عاماً.

وأسرة الشريف بركات توارثت إمارة مكة المكرمة أباً عن جد، وكان جده بركات، المولود سنة 802، أميراً على مكة منذ نعومة أظفاره مشاركة مع والده، ثم انفرد بالإمارة بعد وفاة أبيه سنة 829 فاستمر إلى سنة 845 وعزل بأخويه علي وأبي القاسم إلى أن أعيد سنة 851، فاستدعاه السلطان جقمق إلى مصر، فقدمها ولقي منه عناية وإكراما، وعاد إلى مكة فاستمر أميرا إلى أن توفي سنة 859.

وكان الجد بركات فاضلا، له نظم، قال ابن تغري بردي: كان رجلا طِوالا، حسن الشكل، عادلا في أحكامه، مدبرا سيوسا شجاعا، فيه سكينة، وعليه حشمة ووقار، مات وهو أرأس بني عجلان.

أما أبوه محمد فكان على شيء من العلم وفيه فضائل، وكان له ميلٌ إلى العمار، بنى بمكة عمارات لم يُسبق إلى مثلها، وجعله السلطان المملوكي في مصر أميراً على الحجاز سنة 887، واستمر في الإمارة 44 سنة إلى أن توفي، وخلف 16 ولداً من الذكور، أما أمه فكانت من الأشراف كذلك، واسمها: عمرة بنت محمد بن علي بن أحمد بن ثقبة بن رميثة الحسني.

ولد الشريف بركات سنة 861 في مكة المكرمة، وكان أول عمل رسمي زاوله أن سافر إلى القاهرة في سنة 878 ممثلاً لوالده لدى السلطان المملوكي الملك قايتباي الذي طلب أن يسافر إليه الوالد الشريف محمد بن بركات، فأرسل ابنه بركات بدلاً عنه، وهو في السابعة عشر، وعضده بقاضي القضاة إبراهيم ابن ظهيرة وولده القاضي أبي السعود وجماعة من أقاربه، فأكرمهما السلطان والأمراء، وأصدر أمره أن يشترك الشريف الشاب مع أبيه في إمارة الحجاز، وكأنَّ ذلك أسوة بجده وسميه بركات.

وفي هذه الزيارة سمع الشريف بركات الحديث بالقاهرة وحضر مجلس بدء وختام ثلاثيات البخاري على المحدث المسند شهاب الدين أحمد الشناوي، وأجازه عدد من المشايخ من عدد من بلدان مصر، والتقى بالقلقشندي صاحب صبح الأعشى، وبالسخاوي الذي قال عنه في الضوء اللامع: وقد رأيته غير مرة، وقصدني بمجلس جلوسي فسلم علي بأدب وسكون، وكان معه حينئذ عجلان وأبو القاسم وعلي من بنيه، جملهم الله بحياته وحياة أبيه.

وفي سنة 884 حج السلطان قايتباي، وهو الوحيد الذي حج من سلاطين المماليك الشركس، في جمهرة من الأمراء و العلماء والصلحاء، وأولاد الرؤساء وأهل الحل والعقد، وصحب من الدواب والخلع والأموال ما لا يحصره عد ولا يحويه حد، وخرج لاستقباله الشريف محمد وولده الشريف هزاع، والقاضي إبراهيم ابن ظهيرة وولده القاضي أبو السعود، وقابلوه في بدر في افتتاح ذي الحجة الحرام من السنة المذكورة على أجمل حال من كثرة العساكر وجمالتهم بالسلاح المذهب والثياب الحرير الفاخرة، والخيل المسومة والذخائر والركاب الملبسة بأنواع الذهب، والحلية النظيفة والسيوف المسقطة.

ولما توفي الشريف محمد خلفه ابنه بحكم المرسوم المملوكي السابق، وجاء من القاهرة مرسوم يؤكد تعيينه وتعيين أخيه هزَّاع نائباً له، وقرأه بالحطيم كاتب السر بدر الدين محمد بن مزهر، وتضمن المرسوم كذلك الإذن له بتعيين صهره زوج أخته فارس بن سامان الحسيني والياً على المدينة المنورة.

ولكن هزَّاع الابن الثاني للشريف محمد، طمع في الملك، فلم تمض بضعة أشهر حتى خرج على أخيه بركات، وانضم إليه أخ اسمه أحمد يلقب بجازان، وخرجوا مع أنصارهم إلى ينبع وكاتبوا الملك الناصر محمد بن قلاوون في القاهرة أن يعين هزاع أميراً، وسيؤدي له مئة ألف دينار، وكان الملك الناصر شاباً عمره 16 سنة، جاهلاً لاهياً، فجاء الجواب عن لسانه من رجال الحكم في القاهرة بتعيين كاتب السر بدر الدين محمد بن مزهر ليتوسط بين الإخوة ويحل هذه الخصومة، ونتج عن هذا هدنة على دَخَن لم تطل، وكان الرأي العام يميل إلى بركات لحسن أخلاقه ولين جانبه، وعدم طمعه في الأموال، وكفه الأذى عن الحجاج بكل طريق، وكان يدفع من ماله لأهل الشوكة من العربان لأجل حماية الحجاج.

ومن الضروري هنا أن نتوقف لنستعرض تغيراً متتابعاً لملوك المماليك في القاهرة لارتباطه بموضوعنا، فقد توفي السلطان قايتباي في سنة 903، وصار محله ابنه الملك الناصر محمد، وعمره 16 سنة، وكان جاهلاً عسوفاً سفاكاً للدماء، فقتله بعض مماليك أبيه بعد 6 أشهر من ولايته، وتلاه خاله الملك الظاهر قانصوه، وعمره 28 عاماً، وما لبث المماليك أن خلعوه بعد سنة وثمانية أشهر، وتمرد عليه الملك الأشرف جانبولاط وانتزع السلطنة منه، وما لبث جانبولاط 6 أشهر حتى تمرد عليه الأمير طومان باي، وانتزع العرش منه، ولم تدم سلطنة الملك العادل طومان باي 3 أشهر، حتى خلع في سنة 906 وتولى السلطنة الملك الأشرف قانصوه الغوري، واستتبت الأمور بيده إلى سنة 922، حين قتل في معركة مرج دابق قرب حلب على يد جيش السلطان سليم العثماني.

و في آخر سنة 906 اندلع القتال بين الشريف بركات وبين أخيه هزاع وأمير الحاج المملوكي، وكانت الهزيمة على بركات، واستولى المصريون على خزائنه ونسائه وأمواله.

وسبب انحياز أمير الحاج المصري إلى الشريف هزاع، هو أن الملك العادل طومان باى لما تولى بعد الأشرف جانبولاط طرد رجلا من أمراء جانبولاط يقال له قانصوه المحمدي، فخرج إلى مكة، فلما دخلها لم يلتفت إليه أحد من كبرائها لا الشريف بركات ولا القاضي ولا غيرهما خوفا من السلطان طومان باي، فلما تولى الملك الأشرف قانصوه الغوري في شوال سنة 906 أرسل إلى قانصوه المحمدي إلى مكة وجعله نائب الشام، فلما وصلت إليه الكتب بذلك وهو بمكة، جاءه الشريف بركات والقاضي أبو السعود للسلام عليه فلم يأذن لهما، وكان في نفسه عليهما شيء لعدم اهتمامهما به سابقا.

واتفق قانصوه مع الشريف هزاع على أن يجعل إليه ولاية مكة ويخلع أخاه بركات منها، وأمره بالخروج من مكة إلى ينبع، وأرسل إلى أمير الحاج المصري أن يواجه الشريف هزاع ويطلق المراسيم السلطانية عليه، ويلبسه الخلع السلطانية ففعل ذلك، ولبس الشريف هزاع خلعة أخيه بركات، وألبس أخاه أحمد خلعته التي كان يلبسها مع أخيه بركات، وأقبل مع الركب المصري إلى مكة، فلما علم بذلك الشريف بركات خرج إليهم من مكة إلى وادي مر، والتقى الجمعان هناك وتقاتلا، فانكسر الشريف هزاع مرات، فلما رأى ذلك الركب المصري حملوا مع الشريف هزاع على أخيه بركات حملة واحدة، فانكسر حينئذ بركات، وقُتٍلَ ولده أبو القاسم وجماعة من عسكره، واستولى هزاع والركب المصري على محفة الشريف بركات وما فيها من الأموال والنساء والأطفال.

وهرب الشريف بركات إلى جدة فنهبها ثم إلى حدَّاء، قرب الحديبية، فنهب أكثرها، ودخل الشريف هزاع إلى مكة صحبة الحاج المصري، فاضطربت أحوال الناس وكثر النهب والخوف في الطرقات، ورجع حجاج البحر من الطريق، وكانوا قريبا من جدة، وكان عذر الشريف بركات إذا شكا الناس إليه ما يلقون يقول: اشكوا إلى سلطان البلد واطلبوا منه أمانها، فقد أمنتها إذ كنت سلطانا، وأما الآن فأنا واحد منكم.

ولما استقر هزاع بمكة جاءه التجار وعامة من الناس يشكون من النهب وانعدام الأمن، واستطالوا عليه بالكلام، فضاق صدره، وخشي أن تخرج الأمور من يده، وبخاصة أن موسم الحج على الأبواب، فشكا إلى عمه إبراهيم حاله، فأمره بالخروج معه إلى جدة، ثم ذهب عمه إبراهيم إلى بركات وهو يومئذ مقيم بين جدة والحديبية، فقال له: إن أخاك هزاع بجدة في ألفي فارس من الترك ولا طاقة لنا بمقاومتهم، فإن أحببت توسطت بينكما بهدنة يأمن الناس فيها ويحجون إلى عاشر المحرم، على أن يعطيك أخوك هزاع ثلاثة آلاف دينار أشرفي قبل يوم النحر، فإن فعل ذلك وإلا فلا ذمة له. فرضي بذلك بركات ظنا أن قول عمه إن هزاعا في ألفي فارس حق، فسكن بعض خوف الناس ورجع هزاع إلى مكة.

وكان الحج ضعيفا، وسلم هزاع إلى أخيه بركات ما التزمه عمه إبراهيم من المال، ولما عزم الركب المصري على العود علم هزاع أنه لا طاقة له بمقاومة أخيه بركات، فتوجه صحبة الركب الشامي، فتبعه الشريف بركات فحماه الركب الشامي منه، أما بركات فرجع إلى مكة وأمنت الناس.

وخرج هزاع إلى ينبع، وجمع جموعا منها وعاد ليواجه بركات في منتصف سنة 907، فالتقوا وانكسر بركات وقُتِلَ أخوه، وكان مع هزاع من الخيل مئتا فارس ومن الرجل ثلاثة آلاف وخمسمئة ومع بركات خمسمئة فارس ورجل كثير.

وتوجه بركات نحو الجنوب وأقام بالليث، واستقرت الأمور لهزاع في مكة وجدة، ووصلت إليه المراسيم والخلع السلطانية من البحر من مصر، فلبس الخلعة وقرئت المراسيم، ولم يمض على ذلك شهران إلا وتوفي هزاع في رجب سنة 907، وتولى إمرة مكة أخوه الشريف أحمد جازان بمساعدة القاضي أبي السعود ابن ظهيرة، وإعانته له بنفقة وسلاح.

ولما علم بركات بوفاة أخيه هزاع عاد على الفور إلى مكة، وفر منه أخوه أحمد، وما لبثت أن 

جاءته من مصر الخلع من السلطان الجديد قانصوه الغوري، ورسائل تتنصل إليه من انحياز أمير الحاج لأخويه هزاع وجازان، فلبس الخلعة وطاف بها.

وكان قاضي مكة أبو السعود ابن ظهيرة قد أظهر السرور والفرح بولاية بركات ولكنه في الباطن كان متواطئا مع جازان، فكتب إليه يستحثه ويعده بالمساعدة وأن يقبض له على بركات إذا وصل جازان قرب مكة، فظفر الشريف بركات بكتاب أبى السعود فاستدعاه فلما دخل عليه، أوقفه على الكتاب فأنكر ذلك، فقبض عليه وأخذ أمواله وعقاره وعذبه، ثم بعث به وأهله إلى جزيرة القنفذة، وأمر نائبه عليها أن يركبه زورقاً ويغرقه، ففعل ذلك به وغرَّقه وأولاده وعياله ينظرون إليه.

ثم توجه الشريف بركات إلى ينبع ليقمع أخاه جازان، ووقف أهلها مع جازان، وانكسر بركات للمرة الثالثة في آخر سنة 907، وقُتل ولده إبراهيم مع جماعة من عسكره، وعاد بركات إلى مكة مريضا.

وفي صفر من سنة 908 حشد جازان عسكراً عظيماً للهجوم على مكة، وكان المرض لم يزاول بركات، وليس بمقدوره القتال، فتوجه إلى جهة اليمن وأقام بها بضعة أشهر حتى شفي، وجمع جموعا كثيرة وعاد لمكة فلقى بها أخاه جازان، فقاتله وانكسر بركات كسرة رابعة، وانشق عنه جماعة من الأشراف كانوا متواطئين مع أخيه، فثبت هو وبعض خواصه للحرب ساعة، ثم هرب باتجاه الجنوب.

وقرر جازان أن يتبع أخاه ويقضي عليه، وعلم بذلك الشريف بركات فقام بحركة تدل على جسارة وثقة بالنفس، فقد انفصل عن قواته في خيل قليلة، وعاد إلى مكة من طريق آخر، وجازان لا يزال يظن أنه يتعقبه، ففرح به أهل مكة لظلم أخيه جازان فيها، وانضموا إلى قواته، وأمر بركات بحفر الخنادق لإعاقة هجوم جازان واستنزاف قواته، وفعلاً استطاع هزيمة جازان وقواته، وأمر بألا يتبعهم أحد، وتوجه جازان منهزما إلى بئر شميس وهم خائفون وجلون.

وأرسل جازان يطلب النجدة من أهل ينبع فجاءه عسكر كبير، فهاجموا مكة للمرة السادسة، ولكن عسكر الشريف بركات خذله لما رأى التفوق العددي لقوات جازان، فانهزم عسكره من غير قتال، وثبت هو والأتراك حتى زحزحهم عن مصافهم، وتراجعوا بغرض تجميع قواتهم.

وأدرك الشريف بركات أنه لن يستطيع الانتصار على جازان، فترك مكة واتجه إلى الجنوب، فدخل جازان مكة، وأهان أهلها وآذاهم لمساعدتهم الشريف بركات وحبهم له، وفي هذه الأثناء وصل ركب الحج المصري ومعه قوة عسكرية يطلق عليها اسم التجريدة، فهرب جازان من مكة، وعاد الشريف بركات في منتصف ذي القعدة من عام 908.

وتوجه بركات إلى الزاهر للترحيب بالتجريدة القادمة، وقدم لهم الهدايا، وأعلن ولاءه للسلطان، وترحيبه بالحجاج، وأكد حرصه على رعاية الحاج وسلامته، ودخل معهم إلى مكة بإخوانه وعسكره، ولكنهم انتهزوا فرصة سنحت فقبضوا عليه مع بعض إخوته، ووضعوهم في الحديد، ثم ذهبوا بهم إلى مصر بعد موسم الحج، وأعلنوا جازان أميراً على مكة.

ودخلت التجريدة مصر وبركات على صفة الأسير، وفي يده الأصفاد، فاستنكر أهل مصر ذلك محبة في الرسول وآل بيته، وما هان هذا كذلك على أهل مكة، وأنشأ في ذلك شاعرهم شهاب الدين أحمد بن الحسين بن العليف، المولود سنة 851 والمتوفى سنة 926، والمسمى شاعر البطحاء، قصيدة طويلة يسلي بها الشريف بركات ويحثه على الصبر، قال فيها:

عزيزٌ على بيت النبوة والملك ... مُقام على ذل المهانة والفتك

وأعظم ما يلقى الكريم من الأذى ... على النفس ما يلقى من الضيم والضنك

برغم العلا والمجد والسيف والندى ... حصلت أبا عجلان في قبضة الترك

أذِلٌ وغِلٌ بعد عز ومنعة ... وأشر النوى بعد الأسرة والملك

فلا اكتحلت بالنوم عيني بعدكم ... ولا ابتسمت غر الثغورعن الضحك

فصبرا أبا عجلان للحادث الذي ... يئول إلى عقبى السلامة والفك

أما في رسول الله يوسف أسوة ... لمثلك محبوسا على الظلم والإفك

فعما قريب يورق العود بالمنى ... وتعبق أرجاء العلا منك بالمسك

وتعامل قانصوه الغوري مع الشريف بركات تعاملاً لائقاً، فقد أعطاه حرية التنقل، ورتب له مع جماعته النفقات، وصار الشريف بركات يتردد إلى السلطان والأمراءه، ثم انتهز فرصة فهرب إلى مكة في أواخر سنة 909، وترك بركات رسالة وراءه يقول فيها إنه فر من الطاعون الذي كان في مصر، ولكن هربه كان بسبب سماعه أن أخاه جازان قد اغتيل في مكة المكرمة، في منتصف هذه السنة، بمواطأة من أخيه حميضة الذي أعلن نفسه والياً على مكة وأنه سيحج بالناس في ذلك العام.

وتواجه الشريف بركات مع ركب الحاج المصري في طريقه من مصر إلى مكة، ولكن قائد الركب غض النظر عنه، فجمع بركات جيشاً عظيماً من قبيلة لام وغيرها من القبائل المعروفة بقطع الطريق، وتصدى للحجيج عشية عرفة ومنعهم من الصعود إليها، حتى صالحه أمراء الحاج على 4.000 ليخلى بينهم وبين الوقوف ففعل، ووقف الناس بعرفات ومزدلفة ومنى.

وهرب حميضة ودخل بركات مكة، ثم توجه إلى المدينة، وتزوج فيه هذه السفرة بشريفة ستكون والدة ابنه محمد الملقب بأبي نُمي، والمولود في آخر سنة 911، ثم إن السلطان قانصوه الغوري أرسل تفويضاً بإمرة الحجاز إلى الشريف بركات، فآثر أن يُشرك معه أخاه الشريف قايتباي وولده علي بن بركات، وتوفي قايتباي عام 918.

وفي سنة 918 أرسل الشريف بركات ولده أبا نمي إلى القاهرة، إذ صار هذا يشبه تقليداً متبعاً لدى ولاة مكة من الأشراف، وصحبته بعض الوجهاء والقضاة، وسن أبي نمي إذ ذاك 8 سنوات، فأكرمهم السلطان الغوري وقابلهم بكل جميل، وحكي أن قانصوه الغوري قال له: ما اسمك؟ فقال: محمد أبو نُمي الغوري. فسر الغوري بذلك سروراً عظيماً وقال له: أنت أشطر من أبيك. ووضعه في حِجره وقال: ما سورتك؟ فأجابه: ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا﴾، فأَعجب الغوريَ ذلك وتفاءل به، وأشركه مع والده الشريف بركات في نصف ولاية مكة وهو بذلك السن، فصار يُخطب له مع أبيه على منابر الحرمين الشريفين.

وفي سنة 913 شن الشريف بركات حملة على آل زبيد في الروحاء قرب المدينة المنورة، وقتل رئيسهم مالك بن رومي وعدداً من أتباعه، وأرسل برؤوسهم إلى القاهرة، فنصبت على أبوابها، وسبب هذه الحملة أنهم كانوا هاجموا مكة المكرمة ونهبوها من قبل، وهددوا أمن موسم الحج القادم.

وحافظ الشريف بركات على علاقة ودية بالسلطان قانصوه الغوري، وأرسل له في سنة 915 هدية تشتمل على أقمشة نفيسة ورقيق جميل وخدام حسان وعشرين ألف دينار ذهبا وعشرين فرسا، وثلاثة آلاف دينار للدوادار،، فتقبل السلطان الهدية قبولاً حسناً، وأرسل للشريف هدية أفضل وخلعا سنية، وأبدى رضاه التام عن الشريف بركات لانتقامه للسلطان وإعادته هيبة الدولة عندما قمع زبيد الذين قطعوا الطريق على الحجاج، وقتلوهم ونهبوهم المرة بعد المرة.

وفي سنة 920 حجت زوجة السلطان الغوري وولده الناصر محمد، فأحسن الشريف بركات لقائهم ووفادتهم، وقابلها من خارج مكة، وشارك في حمل محفتها، وجعل في خدمتها ولده أبا نمي الذي كان في القاهرة قبل سنتين، فقام بحقهم أحسن قيام، ولما انتهى الحج طلبوا من الشريف بركات السفر معهم لمجازاته وإكرامه، فوافقهم على ذلك وسار معهم إلى القاهرة، ودخلها مرة ثالثة فأكرمه الغوري غاية الإكرام وأغدق عليه الهدايا ومن جملتها إبل ضخمة الجثة، تصلح لدر اللبن والنسل، ويقال إن نسلها بقي معروفاً في الحجاز باسم الإبل المصرية.

وفي أيام الشريف بركات أمر قانصوه الغوري بعمل بعض المنشآت في طريق الحج وفي مكة المكرمة، فقد بنى بركة ماء في بدر، وعدة خانات وآبار في طريق الحج المصري، وكسا حِجْر إسماعيل بالرخام، وجاء إلى باب إبراهيم عليه السلام في الحرم فجعله بقنطرة كبيرة وجعل فوقه قصراً وفي جانبيه وحوله مساكن، وجعله وقفاً، قال قطب الدين النهروالي مفتي مكة ومؤرخها المتوفى سنة 988: ولا يصح وقف ذلك؛ لأنه في المسجد، وكذلك المساكن؛ لأن أكثرهما في المسجد الحرام، وما أمكن العلماء أن ينكروا عليه ذلك في أيام سلطنته؛ لعدم إصغائه إلى كلام أهل الشرع.

وفي سنة 922 آلت شمس دولة المماليك للزوال معركة مرج دابق قرب حلب، حين هزم جيش السلطان العثماني سليم جيش المماليك وقُتِلَ السلطان قانصوه الغوري، وسار السلطان سليم إلى القاهرة واستولى عليها، فصارت مصر تحت حكم آل عثمان، وصار الحرمين في حكمهم تبعاً لذلك، وشرع السلطان في تجهيز جيش إلى الحرمين.

ومن محاسن الصدف أن يكون مسجوناً في مصر القاضي صلاح الدين محمد ابن ظهيرة المكي الشافعي، ابن القاضي الذي غرَّقه الشريف بركات سنة سنة 907، وكان مسجوناً من غير جرم ولا ذنب، بل لأن السلطان الغوري صادره على عشرة آلاف دينار فعجز عنها فحمله إلى مصر محبوساً، فلما جاء السلطان سليم إلى مصر جاء إليه القاضي صلاح الدين، فأكرمه وعظمه، ولما علم بعزم السلطان على إرسال جيش للحرمين، أثناه عن رأيه وأكد له أن الشريف بركات لن يخرج عن طاعته، فأرسله رسولاً إلى الشريف بركات مع توقيع سلطاني، قابله الشريف بركات بالقبول ونهاية الامتثال.

وأرسل الشريف بركات ابنه محمد الملقب أبا نمي، وهو صبي عمره 11 سنة، إلى القاهرة سنة 923 لمقابلة السلطان سليم، الذي أقر الأمور على ما كانت عليه من قبل، وأبقى أبا نمي مشاركاً لوالده في ولاية مكة المكرمة.

ولما استوثق الشريف بركات من تأييد الدولة العثمانية له، سعى في التخلص من أمير جدة المملوكي الأمير حسين الكردي، وكان قانصوه الغوري قد أرسله في سبعين مركباً لردع الفرنج في بحر الهند، وما تردد عن أطماعهم في الاستيلاء على الحرمين، فلما وصل إلى جدة قرر بناء سور لها لحمايتها من الغزو الخارجي ومن العربان التي كانت في أيام الفتن تنهبها، ومن أجل ذلك هدم كثيراً من بيوتها وأخذ حجارتها، وبنى بها السور في ظلم شديد وجور عتيد، واستخدم عامة الناس في حمل الحجر واللبِن حتى التجار المعتبرين وسائر المنتسبين، وضيَّق على الناس بحيث يحكى أن أحدهم تأخر قليلاً عن المجيء، فلما جاء أمر أن يُبنى عليه فبني عليه وقبره، ثم توجه إلى بحر الهند سنة 921 ورجع إلى مكة وقد انقضت دولة المماليك، فسعى الشريف بركات في استصدار حكم سلطاني بقتله، لعداوة سابقة بينه وبين حسين، فربط في رجله حجر كبير وغُرِّقَ في موضع يقال له: أم السمك.

توفي الشريف بركات سنة 931، وصلي عليه بالمسجد الحرام، وطيف به حول الكعبة أسبوعا كعادة أسلافه، ودفن بالمعلاة، وتلاه ابنه محمد أبو نمي، واستمر فيها مدة طويلة حتى وفاته سنة 992.

ومن الطريف أن الدولة العثمانية عيَّنت لأول مرة قاضياً من خارج الحجاز، هو شيخ شيوخ حلب القاضي كمال الدين محمد بن يوسف الحلبي التادفي، المولود سنة 874 والمتوفى سنة 965، فقد ولاه خاير بك كافل الديار المصرية قضاءَ الشافعية بمكة وجدة ونظر الحرمين، وعزل ابنَ مكة صلاح الدين ابن ظهيرة، وبقي القاضي التادفي في المنصب إلى أن توفي خاير بك، فسعى الشريف بركات في عزله حتى تمَّ له ذلك في سنة 931، فخرج منها وهو ناقم عليه، وكتب قصيدة في هجائه أسماها السهم المهلكة الباري في الشريف بركات وأتباعه والذراري، منها:

يا واليا قطن الحجاز تعسفاً ... عزلي بموتك منذر قد عز لي

فاشرب بكأس حمام موتك جرعة ... لمرارها أبداً بعمرك تصطلي

أو ما علمت بأنني شهم له ... سهم مصيب من نأى في المقتل

فابشر بحتفك مع ديارك والتي ... سحب المنايا عنهم لا تنجلي

كان الشريف بركات ذا إلمام بالعلم الشرعي، وقد تقدم أنه في زيارته الأولى للقاهرة سمع الحديث على عدد من محدثيها، وحضر مجالس علمائها، وفي سنة 915 طلب منه الإجازة المحدث المؤرخ المكي جار الله ابن فهد، محمد بن عبد العزيز بن عمر بن محمد ابن فهد، المولود بمكة سنة 891 والمتوفى بها سنة 954، فأجازه الشريف بركات بالنص التالي: الحمد لله الذي نظم جواهر السنة في سلك السند، ووصل من إلى جنابه استند، وقطع من أعرض واستبد، وخذل من كفر وجحد.

أما بعد، فقد أجاز كاتبه الفقير إلى الله تعالى بركات بن محمد صاحب مكة المشرفة عفا الله عنه لمن ذكر في هذا الاستدعاء المبارك ما يجوز لي وعنى روايته بشرطه المعتبر، عند أهل الأثر، وأسأله ألا ينساني من دعواته، في خلواته وجلواته. والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.

ثم قام ابن فهد في سنة 916 بتصنيف مجموع حديثي في فضل أهل البيت النبوي، أسماه غاية الأماني والمسرات، بعلو سلطان الحجاز أبي زهير بركات. ثم قرأ بعضه على الشريف بركات في سنة 917، وأجاز له روايتها عنه، وكتب له بخطه تحت طبقة سماعها على تقاليد المحدثين، فسُرَّ الشريف بذلك سروراً عظيماً، وأكرم الشيخ جار الله إكراما بالغاً.

وكان الشريف بركات ينظم الشعر ومدح السلطان قانصوه الغوري لما أُخذ إلى القاهرة سنة 909، ومن ذلك أبيات يستعطفه بها:

أيا قانصوه اسمع بحقك قصتي ... فإني لشرح الحال نحوك رافع

بليت بجور من زماني أمضني ... ومالي ولا في الناس غيرك نافع

وحقك ما أفنيتُ مالي ومهجتي ... سوى لرضا السلطان والله سامع

فإن يك قد أرضاك ما قد لقيته ... فإني به راض بلى ثم قانع

وكان قانصوه الغوري ملما بالموسيقى والأدب، ينظم الشعر والموشحات لتغنى، وقد نظم موشحاً وسأل الشريف بركات أن يعارضه، ففعل.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين