حقيقة التوفيق

يقول مولانا جل في علاه على لسان سيدنا شعيب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في سورة هود : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88).

أيها القراء الكرام : يظن البعض اليوم أن التوفيق في الدنيا هو بلوغ أقصى الغايات وإدراك منتهى الإرادات وتحصيل غالب المبتغيات في هذه الحياة... وأن الموفق هو المقدم اجتماعياً المكفي مالياً والمرتجى في أوساط الناس ... حتى ليقال : فلان موفق ... وفلان ذو توفيق عجيب ... قاصرين معنى التوفيق على الجانب المادي ... والنظرة الدنيوية الدونية ...ولا شك أن في هذا تجنياً على هذه الكلمة العظيمة والمعنى الجليل الذي يكتنفها . 

حقيقة التوفيق أيها السادة هي إدراك رضا الله عز وجل وتحصيله من خلال أداء العبادات واجتناب المنهيات وسلامة الصدر ونفع العباد وكف الأذى عنهم ... قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) . الآيتان من سورة الحج ، فمن هدي إلى الصراط المستقيم ووفق إلى بذل الكلام الحسن هو السعيد حقيقة، أما ما وراء ذلك فأمور لا قيمة لها، ولا اعتبار بها، ولا تعد من التوفيق في شيء ، وإن رآها الناس كذلك، واعتبرها السطحيون على ذلك النحو ، كأولئك الذين تمنوا مكان قارون لما خرج عليهم في زينته واعتبروه موفقاً ، وأنه محظوظ جداً ، وقالوا : يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، إلا أن أصحاب النظر البعيد والفكر النوراني العميق والرأي السديد والدقيق قالوا : ليس ذاك هو التوفيق ، إنما هو ما تمثل في رضا الله تعالى (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ...)...الصادقون ... الجادون ... المتبصرون بحقائق الأشياء الموفقون لإدراكها وتحصيلها ، لذا كان من دعاء الصادقين طلب التوفيق، فقال أحدهم : 

رب وفقني فلا أعدل عن *** سنن الساعين في خير سننْ 

روى الإمام الترمذي ، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الحُبْرَانِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنَا مِمَّا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَلْقَى إِلَيَّ صَحِيفَةً، فَقَالَ: هَذَا مَا كَتَبَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَنَظَرْتُ فِيهَا فَإِذَا فِيهَا: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي مَا أَقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ قُلْ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ.

فإذا وقيت شر نفسك وشر الشيطان وإغواءاته ، ولم تجن على روحك باقترافك سوءاً أو بجرك إياه إلى مسلم .. فأنت موفق حقاً . 

روى ابن أبي عاصم في كتاب السنة له عَنْ سَالِمِ بْنِ حَذْلَمٍ، قَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ أُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفْتُ قَالَ لِي: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ: إِنَّكُمْ أَهْلَ الشَّامِ تُطِيلُونَ الصَّلَاةَ، وَتُكْثِرُونَ الدُّعَاءَ، وَإِنَّنِي لَمْ أُصَلِّ خَلْفَ أَحَدٍ أَخَفّ صَلَاة فِي تَمَامٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ دَعْوَةٌ يَدْعُو بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ وَفِّقْنِي لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ وَالْهُدَى. إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . وفقني لما تحب أنت... وترضى أنت... لا ما أحب أنا وأرضى به أنا!!! 

وروى الإمام مسلم عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلِ اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ، بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ، سَدَادَ السَّهْمِ».

أيها القارئ الكريم : 

إن العبد الموفق هو الذي يعمل ما يرضي سيده ، ويقوم بما يقربه من مولاه أو المسؤول عنه ، وهذا ما نعاينه على صعيد حياتنا اليومية ، فأنت حين تصنع زوجتك طعاماً لضيفانك فيبيض وجهك وتتهلل أساريرك ، فتقبل رأسها شكراً إياها، لأنها سرتك فيما فعلت ...

وخادمك حينما يكفيك بعض شانك فتكرمه وتثني عليه وتطيب خاطره ... ذلك لأنه أقر عينك وأطرب نفسك... تروي الكتب أن كُثَيِّرًا الشاعر كان له غلام تاجر فباع من عزة حبيبته بعض سلعه، ومطلته مدة وهو لا يعرفها، فقال لها يوماً: أنت والله كما قال مولاي:

( قضى كلُّ ذي دَينٍ فوفَّى غريمَه ... وعزّة ممطولٌ معنًّى غريمُها ) 

فانصرفت عنه خجلة، فقالت له امرأة : أتعرف عزة؟ قال: لا والله، قالت :فهذه والله عزة، فقال: لا جرم، والله لا آخذ منها شيئاً أبداً، ولا أقتضيها، ورجع إلى كثير فأخبره بذلك، فأعتقه ووهب له المال الذي كان في يده. ويحكون أن حاتماً الطائي كان يقول لعبده : 

أوقد فإن الليل ليل قَرُّ *** والريح يا موقد ريح صِرُّ

عسى يرى نارك من يمر *** إن جلبت ضيفاً فأنت حر 

فهذا التوفيق في إدراك النجاح وإنجاح المقاصد هو الذي يرضي بعضنا عن بعض ، وكذلك الله تعالى – وله المثل الأعلى في السموات والأرض – جعل التوفيق أن يقوم العبد بما أمره مولاه به وينتهي عما نهاه عنه . 

وبذلك فقس الأمور ... أيها العبد المأمور ، ولا تظن أن التوفيق في تحصيل الأموال والمناصب والقصور ، بل بما تبلغ من رضا ربك الغفور .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين