الهجرة وحاضر المسلمين (5- 15)

ما تزخر به الهجرة

الهجرة تزخر بألوان وطعوم، وترتع بتذوقات وفهوم، تتفجر فيها المعاني حُلوها ومرُّها، وتتدفق بالمرامي والأهداف التي لم تكن تعنُّ لصاحبها من قبل، وتراوض على معين جَدَدٍ، يفيض حِدَّة ونضارة. بل من تمعَّن في معانيها وجدَها ترتشف جميعاً حلاوة واغتباطاً.

ومن لا يُزايل على أنسام التنقل لم يزل في غفلة عن كثير من نبض الحياة.

شيء لا يزال خبء كل إقليم:

وعلى الرغم من تعَدُّد وسائل الإعلام مرئية ومسموعة ومكتوبة، تطالعك على كثير من الأسرار، وتلقي إليك صور الناس والجبال والأنهار؛ إلا أن شيئاً لا يزال خَبْء كل إقليم لا يفتح مغاليقَه إلا من حُبِيَ بمراح الإقامة فيه، وكابد تردداته وحمزاته، وغاص في لجِّ تقاليده، وأنجب على تَلَوّي ألسنته، واستنشق هبيب أرواح شعابه وبيوتاته، واستشرف على قنواته المنزوية، التي لا تَلْفَحها حُمم الرياح المتغيرة عبر الآفاق، فيرى أن كثيراً من أروقة الاستنباط لا تزال بالتزاوج مع ما يتناثر من أردانه، على نهج التروِّي، كنزاً يهتبله من شاء الله تعالى له أن يُساقِطها بثاقب نظراته.

قد راودَ مالم يُراودوا:

ثم إن استعذب بنافذ رأيه، وطَلْق فِكره، طائفة مما اطلع عليه، لم يكد يندُّ به مناطُ اختباره إلا أن يسكبها في أُطر أرقام، أو تُخوم معالم، يصورها بألوان، تغاير ما درج عليه أهلُها، لمكان اغترابه عنهم، فالطعم غير الطعم، واللون غير اللون، من حيث قد راودَ مالم يُراودوا وقد ناهض ما لم يُناهضوا. ولله تعالى في هذا شأن وأي شأن؟!..

لا تبقى الصُّور تخالج على وتيرة واحدة:

ذلك أن الله تعالى شاءت حكمته، ألا تبقى صور المحسوسات والمعاني الحياتية تخالج على وتيرة واحدة؛ بل يزحمها التغير، على الرغم مما يراودها من مظِنة سكون، إذ أن نسبة التغيُّر فيها تخضع لقاسم مشترك بينها وبين التراشف العام، الذي يعتري غيرها، وقواعد النسبة مضطردة فيهما. غير أنها لم يَحْظَ خَطُّ تغيرها البياني، إلا بمؤشرٍ منخفِضٍ، يَبْطُؤ عن تسارع ما حوله.

ما يُدرِك المهاجر من فقه السُّنن الكونية:

وهكذا يدرك المهاجر في سبيل الله تعالى، فقه السُّنن الكونية، في دفعات الحوادث وتمانعها، ودفق مراسي الليالي وتخاطرها، وارتقاء الأجيال وتثابُرِها، وتناظر مفرزات الشعوب وتساورها، وتساقط الأنواء وتعاورها، وارتثاث العادات وتماسكها.

وأنماط المسلمين تأوي إلى هدفٍ جامعٍ سواءٍ:

إلا أن أنماط المسلمين جميعاً ـ مهما ترامت ديارهم ـ تأوي إلى هدفٍ جامعٍ سواء. مُستَنْجَزاً من كونهم شهدوا شهادة الواحدانية، ودانوا ـ خاصَّتهم وعامَّتهم في الجملة ـ لشعائر الإسلام العظيم.

والولوج إلى أسداف التعارف:

يَدّارَكُ إلى أعطاف مَساربه الولوج إلى أسداف التعارف، مما أشار إليه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.

وأن ما نمى إلى قريحته جزء من مدلولات هذا التعارف!

مدخل ثرٌّ من مداخل علم الاجتماع:

وإنَّ تَذَوُّق ما تناثرت فيه الشعوب، على الأكمات والوهاد، وما ادَّخرته من مناهج ارتياد، وسُبُل تخيُّر واعتماد، لَهُوَ مدخل ثَرٌّ، من مداخل علم الاجتماع، وهو مقصد نديٌّ رَخِيٌّ مَرُومٌ في الآية، لتبيُّن دلائل ما أودع الله تعالى في خلقه.

الحلقة الرابعة هنا

* * *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين