غُرْبَة داخل الوطن .!

كم هو مؤلم وقاس هذا الشعور المختبئ خلف نبرة اليأس في قول الإمام " أبو حامد الغزالي " :

غَزَلتُ لكم غَزْلاً دقيقاً فلم أَجِدْ لغزلي نساجاً فكسرتُ مِغْزلي .

وشعور غربة "أبو فراس الحمداني" وسط أهله ورجاله :

غريبٌ وأهلي حيث ما كان ناظري وحيد وحولي من رجالي عصائبُ .

وغربة "المتنبي" في قومه :

أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود .

إنها الغربة الشعورية التي يشعر فيها الإنسان أنه وحيد غريب وإن كَثُر حوله الأهل ، وإن أقلَتْهُ أرض وطنه وأظلته سماؤه .

شعور ينفطر له القلب حين تتخيله في " جاليليو" الذي أمضى عمره في خدمة العلم بين المعامل والكتب ، ثم يرى كُتبه تُحرق بأمر الكنيسة ، والجماهير ملتفة حول النار يصفقون بحماس وحرارة فرحاً بالعلم الذي يُحرق والخير الذي يَحْرِمون أنفسهم منه .!

شعور غربة الإنسان المحب للخير والفضيلة ، حين يرى هرم القيم مقلوباً في وطنه ، فالحظوة والشهرة والأمن في بلاده للمنافقين والمتسلقين ، بل للقتلة والمجرمين ، ووسام الوطنية منزوع من الشرفاء موضوع على صدور الغواني والراقصات .

قيم مقلوبة تذوب لها النفس حين تعيش شعور " أبو العلاء المعري " وهو يعبر عنها أبلغ تعبير :

إذا وَصَفَ الطائيَّ بالبُخْلِ مادِرٌ =وعَيّرَ قُسّاً بالفَهاهةِ باقِلُ

وقال السُّهى للشمس أنْتِ خَفِيّةٌ =وقال الدّجى يا صُبْحُ لونُكَ حائل

وطاوَلَتِ الأرضُ السّماءَ سَفاهَةً =وفاخَرَتِ الشُّهْبُ الحَصَى والجَنادل

فيا موْتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذَميمَةٌ =ويا نَفْسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازِل

نعم هي مأساة ؛ أن يكون أكرم مَنْ في الوطن ( حاتم الطائي ) مُعَيَر بالبخل من أبخل الناس( مادر ) !

وحين يكون أفصح مَنْ في الوطن ( قُسْ بن ساعدة ) معير بأنه لا يحسن الكلام من أهبل من في الوطن ( باقل ) .!

صاحب الحس المرهف واليد الطاهرة والقلب النقي حين يرى هذا الهرم القيمي المقلوب يقع بين أمرين ( كما عبر أبو العلاء) :

إما أن يضعف إيمانه ويفقد اتزانه النفسي وييأس ويقول : " يا موت زُرْ " .

وإما أن يستجمع قوته ويستحضر رسالته ويتحدي هرم القيم المقلوب ويقول : " يا نفسي جدِّي " .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين