أصحاب الهمم العالية والمطالب الغالية 

عن ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِّ خادِمِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : كُنْتُ أبِيتُ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ ، فَقَالَ : سَلْنِي. 

فقُلْتُ : أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ . 

فَقَالَ :أَوَ غَيرَ ذلِكَ؟

قُلْتُ : هُوَ ذَاكَ . 

قَالَ : فأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ .

رواه مسلمٌ في صحيحهِ ، وقد جاء الحديث أيضا مطولَّاً عند الإمام أحمد في المُسندِ ، عن ربيعة بن كعب - رضي الله عنه - قال:

كنتُ أَخدُم رسولَ - صلى الله عليه وسلم - وأقومُ له في حوائِجهِ نهاري أَجمع ، حتى يُصلي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - العِشاء الآخرة ، فأجلسُ ببابهِ ! إذا دخل بيته، أقول : لعلها أن تَحدثَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة ، فما أزال أسمعه يقول : سبحان الله ! سبحان الله ! سبحان الله ! وبحمده حتى أمل ، فأرجع أوتَغلِبني عَيْنَي فأرقد ، قال : فقال لي يوماً لما يرى من خفّتي له وخدمتي إياه : " سلني يا ربيعة أعطك " قال : فقلت : أنظرُ في أمري يا رسول الله ، ثم أُعلِمك ذلك؟ قال : ففكَّرتُ في نفسي فعرفتُ أنَّ الدنيا منقطِعةٌ زائلةٌ ، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، قال : فقلت : اسألُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لآخرتي فإنّه من الله - عز وجل – بالمنزِل الذي هو به ، قال : فجئتُ فقال : " ما فعلت يا ربيعة ؟ " قال : فقلت: نعم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسألُك أن تشفعَ لي إلى ربك ؛ فيعتقني من النار ، قال : فقال : " مَنْ أمرك بهذا يا ربيعة ؟ " قال : فقلت : لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحدٌ ولكنّك لمَّا قلتَ : سلني أُعطِك وكنتَ من اللهِ بالمنزلِ الذي أنت به ، نظرتُ في أمري وعرفتُ أن الدنيا منقطعةٌ وزائلة ، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي ، قال : فصَمَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طويلاً ، ثم قال لي : " إني فاعل ، فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ ".

راوي الحديث : الصحابيُ الجليلُ ربيعةُ بن كعبٍ الأسْلَمِي وكُنيتُه أبو فِراس ، وهو أحد خُدَّام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان من أهلِ الصُفَّة ، وهم : مجموعة من فقراءِ المسلمين المهاجرين وغيرهِم ، الذين يأَتُون من القبائلِ المُختلفةِ كغِفَارٍ وجُهَيْنَة وقُريش وغيرها ، فيُهاجرون بدِينهم ، ولم يكن لهم محلٌ ولاسَكنٌ يأْوُون إليه ، ولربما ليس للواحد منهم إلا لباسٌ يستره ، ولايملك شيئا من حطامِ الدنيا ، فجلسوا في المسجد للعبادةِ والتَعلمِ وانتظارِ أمرِ الندبِ للجهادِ والغزوِ ، وكان كلُ من يأْوِّي إلى هذهِ الصُفةِ ، أو تلك المجموعة يُعَدُ من أهلها ، 

وكان ربيعة - رضي الله عنه - أحد هؤلاء ، وكان يحرصُ أيضاً على خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفرِ والحَضرِ ، ومعلومٌ أنّ بعض الصحابة الكرام كان : يَختَصُ بنوع من الخدمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، مثلا كان لسواكه ونعله وطهوره ، يعني : كان يهتمُ بإعدادِ وتهيئةِ هذه الأشياء للنبي - صلى الله عليه وسلم - السواك والنعلُ والماء الذي يتوضأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم جميعا - من كان يحرصُ على خدمةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في كلِ مايحتاجُ إليه كأنسٍ وغيرهِ .

ولم يكن ربيعة الأسلمي من المُكْثِرين لروايةِ الحديثِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يُعْلَم له على المشهور إلا أربعة أحاديث فقط ، ومن العلماء من عَدَّه فيمن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اثْنَي عشر حديثا ، المهم والمقصود : أنّه كان مُقِلاً من الروايةِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

تُوفِي - رضي الله عنه - بعد الحِرّة سنة ثلاث وستين من الهجرة . 

يقول - رضي الله عنه - : كنتُ أبِيتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فآتيه بوَضُوئِه يعني : يُجَهِزُ الماءَ الذي يَتوضأ به فلفظ الوَضُوء بفتح الواو يعني : الماء الذي يُتَوضأ به ، وبضمها يعني : فعل الوضوء نفسه . 

وقوله : أنه كان يَبِيتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعني أنّهُ يَبِيتُ معهُ في حُجرته ، إِنّما كان يبِيتُ على بابهِ بحيث يكون قريبا من بيته وحجرته حتى يَسْهُل عليه الأمر ، ويُسرِع في خدمته - صلى الله عليه وسلم- 

يقول : فآتيه بوَضُوئه وحاجتِه فقال : (سَلْنِي) يعني : اطلب مني شيئا أُكافِئك به ، فمعلومٌ أن رسول الله العظيم ونبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - أكرم الخلق جميعا ، وأجودَهم وأكثرَهم عطاءً ومُكافأةً على المعروفِ وهذا الرجل ربيعة - رضي الله عنه - يقومُ على خدمتهِ ومُعاونتهِ ، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يَجْزِيه بالإحسانِ إحساناً وأن يُكرِمَه ويُكافِأه ويُحسنَ إليهِ ، أليس هو القائل - بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم - : ( من أسدى اليكم معروفا فكافِؤه فإن لم تجدوا ماتكافؤوه فادعو له ) ؟!!!

يقول ربيعة : فقلت : "أسألك مُرافقتَك في الجنةِ " سبحان الله العظيم ! هذا الرجل قويُّ الإيمانِ ، ثاقبُ النظرِ ، عميقُ الفكرِ ، عالي الهمة ، حريصٌ على الخيرِ ، مشتاقٌ إلى الجنةِ ، وراغبٌ في الدرجات العلا ورُفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أعظمها من مَطالب وأماني ورغبات ، وشتانَ بين صاحبِ هذه الهمة العالية العظيمة ، وبين غيرهِ ممن يَتطلعون إلى حُطامِ الدنيا ، ويطلبون متاعها الفاني ، فقد حَدَث : أن سأل النبيُ - صلى الله عليه وسلم - غيرَ ربيعة نفس السؤال ، فكانت الإِجابةُ وكان الطلبُ شيئاً تافِهاً من متاع الدنيا - بعيراً أو مالاً أو بيتاً أو نحوِ ذلك -.

إنّهُ التفاوتُ في درجاتِ الإيمانِ وعُلُوِّ الهمّةِ ، وفهمِ الحقيقةِ بين البشر .

وقد حَدَث فيمن قبلنا - كما جاء في الحديثِ الذي خَرّجه الحاكمُ في المستدركِ وابنُ حِبانٍ في صحيحهِ - : أخبر النبيُ - صلى الله عليه وسلم - عن عجوزِ بني إسرائيل ، وذلك أنّ يوسف - صلى الله عليه وسلم - مات بأرضِ مصر ، وكان قد أَوْصَى أن يُنقلَ إلى الأرض المُقدسة - في فلسطين - فلما كان زمن موسى - صلى الله عليه وسلم - وهي مدة طويلة من الزمن بين يوسف وموسى عليهما السلام - ومعلومٌ أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض ، فسأَل عن موضع قبرِ يوسف - صلى الله عليه وسلم - فما وجدوا خَبَرَه إلا عند امرأةٍ عجوزٍ من بني إسرائيل ، فأَبَتْ أن تُخبر موسى - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يدعوَ الله لها أن تكونَ رفيقتَه في الجنة ، ثم دلَّتهم بعد ذلك على القبر ، وكان في مكانٍ اجتمع فيه الماءُ فنزحُوه فوجدوا قبرَ يوسف - صلى الله عليه وسلم - 

فهذه أيضا امرأةٌ صاحبةُ همَّةٍ عاليةٍ ، وهذا الصحابيُ الجليلُ ربيعة لم يقلْ : أريدُ جَمَلاً ولامالاً ولابيتاً أو متاعاً أو نحو ذلك ، وإنّما قال : أريدُ مُرافقتَك في الجَنّة ، وهذا هو الفهم العميقُ والوَعي الكاملُ الصحيحُ للدنيا والآخرة ، وهذه هي قمةُ الإيمانِ وقوةُ الصلةِ باللهِ - عزوجل - لأنَّ الجنةَ هي غايةُ مايرجوه المسلمُ ويُؤَمِل فيه ، فهي دار كرامةِ اللهِ - عزوجل - لعبادهِ المؤمنين ، وهي دارُ السلام ودارُ النعيمِ ، وهي الحُسنى التي أَعدَّها الله - عزوجل - وهَيأَها للمحسنين ، كما قال سبحانه وتعالى :{ لِلَّذين أحسنُوا الحُسْنى وزيادةٌ } فالحُسنى هي الجنة ، والزيادةُ هي النظرُ إلى وجْه الله الكريم .

والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقول : (إذا سألتمُ اللهَ الجنة فاسأَلُوه الفردوسَ الأعلى ، فإنّه أعلى الجنة وسقفُها عرشُ الرحمن ، ومنه تُفجَّرُ أنهارُ الجنةِ) . ولذلك ينبغي أن تَعلُوَ همَّةُ المسلمِ دائماً ولاتَدْنُوا وتَهبِط أبداً ، حتى في الدُّعاءِ ، فعطاءُ اللهِ - عزوجل - واسعٌ ، وخيرُه كثيرٌ ، وفضلهُ عميمٌ ، فهو يُعطي عطاءً بلا حدودٍ ، فلا تُثقِلهُ المطالبُ ، ولايُتعِبهُ أمرٌ ولايَعجزُ عن شئٍ - حاشاه - ، ولذلك نعجبُ لبعض البسطاءِ والعجائزِ - الذين يحتاجون إلى تعليمٍ وتفهيمٍ - حينما يَدْعُون اللهَ - عزوجل - بدَعَواتٍ عجيبةٍ وبسيطةٍ فيقولُ أحدهم مثلا : اللهم أَدخِلني الجنَّة واجعلني ولو خلفَ البابِ ، وآخرٌ يقول : أَعطني في الجنّة ولو ثقب إبرةٍ ، وطبعا موضِع ثقبَ الإبرةِ في الجنة شئٌ عظيمٌ ، لكن لاينبغي أبداً أن يكونَ طلبُ الجنة من الله - عزوجل - هكذا فالله عظيم وعظمته لاتدانيها عظمة ، ولايَتعاظم شئ أمام قدرته وعطائه ، - سبحانه وتعالى - ولذلك وجب على المسلمِ أن يسألَ ربَهُ من فضلهِ الواسع ، ويُعْلي الطلب لأن المُعطي غنيٌ قادر وجوادٌ كريمٌ ، 

ولما طلب ربيعة الأسلمي هذا الطلب - وهو مرافقةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة - قال له - صلى الله عليه وسلم - : (أو غير ذلك ؟) يعني : ما تطلب شيئا آخر غير هذا المطلب؟ يقول : قلتُ : هو ذاك . يعني : ليس لي مطلوب آخر . فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (فأَعِنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ) فأرشده الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - إلى أحدِ الأسباب المهمة والقوية لتحقيق هذا المطلب ، وهو كثرةُ السجود ، وهذا يعني : كثرةُ الصلاةِ بالليل والنهار لأن السجودَ إمّا أن يكونَ في الصلاةِ ، أو خارجها مثل سجود التلاوة وسجود الشكر ، ولكن هذا يحدث قليلا ، لأنه إنما يوجد مع وجود سببه ، وأما قصده - صلى الله عليه وسلم - بكثرة السجود : فهو أن يكثر الإنسان من الصلاة وخصَ السجودَ بالذكرِ لأنه من أعظم أركان الصلاة ، ويكونُ الإنسان فيه قريباً من ربهِ - عزوجل-. 

ولذا اختلف العلماء أيهما أفضل في أركان الصلاة طول القيام أم كثرة السجود؟ فمن أخذ بهذا الحديث قال : كثرة السجود أفضل ، ومعناه : أننا نصلي ركعاتٍ كثيرة في اليوم والليلةِ فنقرأُ قراءةً يسيرةً في القيامِ ونُصَلي مثلا ثلاثين ركعة أو خمسين أو حتى مائة في اليوم والليلة ، وتكون القراءة قصيرةً لكن السجود كثيرٌ ؛ لأنه في كل ركعة بها سجدتان ، فهذا له مزية وعليه دل الحديث. 

وكذلك أيضا القيام والركوع هو أنشط للمصلي ويطرد عنه النوم ، 

ولكن كثرةَ طولِ القيام فيه معنىً آخر ، وهو أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " طُولُ الْقُنُوتِ" رواه أحمد من حديث جابر. ي قوله: "طول القنوت"، قال السندي: أي: ذات طول القنوت، قالوا: المراد بالقنوت في هذا الحديث هو القيام، ولذا استدل به مَنْ فضل طولَ القيام على كثرة السجود، فهذا أدعى للتدبرِ في القراءةِ، وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يطيل القراءة خاصَّة إذا صلى وحده ، أو صلى خلفه من يتحملون ويعلمون أنه سيطيلُ بهم القراءة فقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في ركعة واحدة البقرة وآل عمران والنساء ، وعلى كلٍّ فطول القيام له مِزية ، وكثرة السجود له مِزية كذلك ، ولذلك توسط العلماء في المسألة فقال بعضهم : لكلٍّ فضيلة . فإذا أمكن أن يفعل المسلم ما كان يعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الأكملُ فقد كان يصلي إحدى عشرة ركعة لكنها طويلة إلى حدٍّ ما ، وليس التطويل قراءة صفحةٍ أو نصف ، وإنما أكثر من ذلك ؛ لأن البعض يعتبرُ التطويل هكذا قراءة ربعٍ أو نصفَ ربعٍ في الركعة الواحدة ، نقول لهؤلاء : هذا تطويل زماننا أما في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام فكان تطويلهم أكثر من ذلك ، خاصة في صلاة الليل والقيام نسأل الله - عزوجل - أن يغفر لنا عجزنا وضَعفنا وتقصيرنا. 

هذا وقد ورد أيضا : حديث آخر في صحيح مسلم في نفس المعنى وهو حديث ثوبان - رضي الله عنه - وهو مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي كان أصلُه من اليمن أو من أرض يقال لها السُراة بين مكة واليمن ، وكان قد سُبِيَ وجِئ به في السبي ، فاشتراه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعتقه وكان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوفي - رضي الله عنه - بالشام زمن معاوية .

يقول : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة ، وحَطَّ عنك بها خطيئة) .

ودرجاتُ الجنةِ لا يُقادرُ قَدْرُها ، ولا يمكن أن ندرك حدها ، فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تفاوتِ أهل الجنة في عُلوِ الدرجات بأمر لايخطر على بال ، فهم يتراءون في الدرجات العلا كما نتراءى نحن الكوكب الغابر في الأُفق . 

فحديث ربيعة وثوبان كلاهما يدل على : أن السجودَ فيه مزيدٌ من القُرب من اللهِ - عزوجل - فكلما ازداد الإنسان سجودا ازداد لله قربا ، ومن أراد حَطَّ الخطايا وغفران الذنوب ، فعليه كذلك بكثرةِ الصلاة والسجود .

وذكر الإمامُ النّوَوِي - رحمه الله - في شرحه: أنّ فيه الحث على كثرة السجود والترغيب فيه .

وينبغي أن يُفهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: كثرة السجود في إطارِ القاعدةِ التي تُبين كثيراً من الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في ترتيب الأجور على الأعمال ، بمعنى : أنّ من زاد في أعماله زاد الله في حسناته ، ومن نقصَ نال من الأجرِ على قَدْرِ الأعمال التي قام بها ، فمن يستكثر فالله - عزوجل - يُكثِر له الخير والثواب ، كما قال أحد الصحابة الكرام للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إذاً نكثر . فقال صلى الله عليه وسلم : الله أكثر .

يفيدُ الحديثُ كذلك : أنه كلما كثر السجود تكون فرصةَ مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - أكبر وأعظم وآكد ومدتها أطول ، 

فكثرة السجود تجلب كرامةَ مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومُلازمته في الجنة والتي هي درجات بحسب كثرة العمل وإتقانه وإخلاصه. 

يُبين الحديثُ كذلك أنه لا حدَّ للركعات التي يتطوع بها الإنسان من النوافل المطلقة في ليلٍ أو نهارٍ ، فكلما كان السجودُ أكثر كانت المرافقة والإجابة أقرب ،

وينبغي على الإنسان أن تكون همته عالية ، وأن يكون همُّهُ هم الآخرة ، بأن تكون رِجْلُه في الثَرى وهِمَّته في الثُريا ، وأن يكونَ ذا عزمٍ أكيدٍ وبأسٍ شديدٍ ، والتزامٍ حميدٍ بدين الله - عزوجل - فلا يَخمُل ويتكاسل ولايلين ولايَحيد .

فهذا الصحابي الجليل ربيعة - رضي الله عنه - علم أن الدنيا منقطعةٌ زائلةٌ ، وأنها لاتساوي شيئا ، وأن نفساً لن تموت حتى تَستوفِيَ رزقها وأجلها ، فما كان من ربيعة إلا أن سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحققَ له ذلك الهدف النبيل والغاية المحمودة والتي كان يسعى دائما لتحقيقها ، وهي : مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنِعم بها من رُفقة وأنعم بهم من رِفاق. 

{ومَنْ يُطِع اللهَ والرسولَ فأُولئِك مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصّدِّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا}

إنه حقا طلبٌ غالٍ وهدفٌ عظيمٌ ، لايسعى إلى تحقيقه إلا أصحاب الهمم العالية ، والنفوس الزكية ، والقلوب الطيبة المطمئنة الذين باعوا أنفسهم لله - عزوجل -

يفيد الحديث أيضا أن السجود سمَةٌ من سمات الصالحين ، فالله - سبحانه وتعالى - وصفهم بقوله : {ركَّعا سجَّدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود} . 

نفهم كذلك أن الجنة تحتاج إلى كثرة العبادة ومجاهدة النفس على شهواتها وملذاتها ، وتَذَكُر الآخرةِ دَوماً ، وأن الإنسان راحلٌ عن الدنيا ومقبلٌ على ربه - عزوجل -.

والسجود يُذَكِر العبدَ بالبدايةِ والنهايةِ ، ففيه التصاق بالأرض وتمريغٌ للوجه في التراب ، فيتذكُر الإنسانُ أصلَ خِلقَتِه ، فهو من التراب وإلى الترابِ يعود . 

نسألُ الله - عزوجل - أن يُعِيننا على ذكره وشكره ، وحسن عبادته ، وأن يوفقنا لمَرْضاته ، ويرزقنا صحبةَ ومرافقةَ النبيِ الأعظمِ والرسولِ الأكرم ، في جناته جنات النعيم .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين