ليسَ دفاعًا عن صلاح الدّين

يطلّ الممثّل عبّاس النّوري بطل مسلسل باب الحارة عبر وسيلةٍ إعلاميّة من قلب دمشق ليعلن ما سمّاه موقفًا جريئًا وصفَ فيه صلاح الدّين الأيّوبي بأنّه كذبةٌ كبرى، وطالب بإزالة هذه الكذبة
بينَ "حقارة" زيدان و"كذبة" النّوري، ومَن وراءهما
في فتراتٍ غير متباعدةٍ أطلّ علينا يوسف زيدان في مصر، والممثل عبّاس النّوري في سورية عبر وسائل الإعلام في البلدين اللّذين يرزحان تحت أقسى أنواع الاستبداد والطّغيان في العصر الحاضر ليطالعانا بما يرادُ له أن يندرجَ تحت حريّة الفكر والتّعبير؛ وذلك في هجومٍ شرس على شخصيّة القائد المسلم صلاح الدّين الأيّوبي؛ فيصفه زيدان بأنّه واحدٌ من أحقر الشّخصيّات في التّاريخ الإنساني، ثمّ يصبّ من فمه الكثير من العبارات التي لا يليق أن تخرج من فم أبناء الملاهي الليليّة فضلًا عمّن يحاول جاهدًا تنصيبَ نفسه مفكّرًا ومؤرّخًا.
ولا يختلفُ الأمر كثيرًا على الضّفة الأخرى في دمشقَ التي تعاني الويل والثّبور تحت حكم الأسد؛ فيطلّ الممثّل عبّاس النّوري بطل مسلسل باب الحارة عبر وسيلةٍ إعلاميّة من قلب دمشق ليعلن ما سمّاه موقفًا جريئًا وصفَ فيه صلاح الدّين الأيّوبي بأنّه كذبةٌ كبرى، وطالب بإزالة هذه الكذبة من باب سوق الحميديّة الأشهر في دمشق، وهو يقصد بذلك تمثال صلاح الدّين واللّوحات الطرقيّة التي تحمل اسمه في المنطقة، وقد يصل الأمر إلى إزالة قبره المستقرّ عند سور الجامع الأمويّ.
وبعد أن يطلقَ المتنعّمان بحريّة التعبير والرّأي في ظلال السيسي وبشّار الأسد هذه الأوصاف "الفكريّة" "الرّاقية" بحقّ شخصيّة القائد صلاح الدّين الأيوبي يشرعان في استحضار أحداث تاريخيّة تبيّن إجرام صلاح الدّين بحقّ الإنسانيّة وخيانته بدخوله القدس صلحًا لا حربًا!!
وهذه السّفاهة من هذين الكائنين الطّحالبيّين ليست بحاجةٍ إلى ردودٍ علميّة بقدر حاجتها إلى قول أسد بن فرات عندما سمع رجلًا يتطاول بجهلٍ وافتراءٍ على اثنينِ من كبار رموز المسلمين وهما مالك والشّافعيّ فقال له: "ما مثلك ومثلُهما إلَّا كمثل رجلٍ وقفَ أمام بحرين زاخرين فبالَ على الأرض فرَغَا بولُه فقال: هذا بحرٌ ثالث"
ولكن ما ينبغي التّوقّف عنده طويلًا هو أن يأتي هذان الرّجلان بهذا الهجوم تحت شعارٍ من ستار حريّة الرّأي والتّعبير في بلادٍ لا يجرؤ مقدّم النّشرة الجويّة على إبداء حالة الطّقس فيها دون إذن من المخابرات وأجهزة الأمن.
في بلادٍ لا يجرؤ فيها الفنّان أو المتصدّر للإعلام أن يعطسَ دون إذنٍ أو توجيه من "الجهات المختصّة" لا يمكن أن يكون هذا السّعارُ تجاه صلاح الدّين الأيّوبي حريّةَ رأي فرديّة، بل هو انعكاس لتوجّهات النّظام التي تُحاك في غرف المخابرات المغلقة.
إنَّ الهجمة الشّرسة على صلاح الدّين الأيوبيّ تديرُها دوائر القرار المخابراتيّ التي تهيمن عليها إيران في سورية، وتسيطر عليها أفكار "طبيب الفلاسفة" في مصر السّيسي، وما الفنّانون وطحالب الفكر إلّا شاشةَ عرضٍ لما يقرّره المخرج القابع خلف الكاميرات في استديو معتم اسمه الوطن.
لماذا صلاح الدّين الأيوبيّ؟!
إنَّ التّشويه الذي يفضي إلى التقويض هو حالةُ استهدافٍ متكرّرة بحقّ الرّموز ‏والمرتكزات التّاريخيّة، وهدم التّاريخ لا محالةَ هو الطّريق الذي يمرّ منه هدم الحاضر والمستقبل، ولذا لا بدّ أن تتوجّه السّهام إلى أهمّ المؤثّرين الفاعلين في صناعة هذا التّاريخ، فإن أفلحوا في تقويضهم سيسهل عليهم تقويض من هم دونهم مكانةً وتأثيرًا.
ولا أظنّ أنَّ شخصيّةً في الماضي والحاضر عبر تاريخنا الإسلاميّ اشتهرت ونالت مكانةً في نفوس الأجيال بالدّلالة على العزّة والظَّفَر ما نالته شخصيّة صلاح ‏الدّين، وحظيت بإعجاب الأتباع والأصدقاء والحلفاء والأعداء على حدٍّ سواء بما حظي به صلاح الدّين الأيوبي.
ومحاولة تقويضه هو تقويضٌ للمَثل والنّموذج، وتقويض من هو دونَه تأثيرًا وشهرةً أسهل بكثير إن أفلحت المحاولات التشويهيّة والتقويضيّة بحقّه.
ثمّ إنَّ صلاح الدّين يختلف عن بقيّة الرّموز التي تعيش في أعماق المسلمين بأنّه عاش في حقبةٍ تاريخيّةٍ هي أسوأ بكثيرٍ من الحقبة التي تعيشها الأمّة اليوم سياسيًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا وفكريًّا.
وإنَّ اهمّ رسالةٍ يمكن أن توصلها رمزيّة صلاح الدّين الأيّوبي في نفوس الجيل المسلم هي إنَّ الأمّة التي استطاعت أن تنجب صلاح الدّين وهي في حالٍ أسوأ بكثير مما هي عليه اليوم؛ هي قادرةٌ ولا شكّ على إنجاب أمثال صلاح الدّين الأيّوبي من قلب المحن ورغم كلّ هذا البؤس
هي قادرة على إنجاب القادة والمصلحين في الفكر والوعي والسياسة والعسكر ليمارسوا عمليّة التّغيير الشّاملة التي تفضي إلى تحرير الإنسان من الطّغيان والاستبداد وتحرير الأرض من المحتلّ الغاصب.
ومن هنا فإنَّ الحملة على شخصيّة صلاح الدّين الأيّوبي تصبّ في خدمة المستبدّين من الحكّام، وفي خدمة المحتلّين الصّهاينة، فكلاهما يرهبه أن يخرج من مرجل الشّدائد هذا أمثال صلاح الدّين الأيّوبيّ.
أحقادٌ طائفيّة
لا يمكن فصل الحملة الشّرسة التي يشنّها النّظام السّوري عبر وكلائه وممثليه على صلاح الدّين الأيّوبي عن المشروع الطّائفي الذي يستهدف سورية بعد بدء استتباب الأمور نسبيًّا لصالح النّظام.
إنّ مشاهد اللّطميّات والمسيرات الكربلائيّة في سوق الحميديّة لا يمكن فصلها عن المطالبة الصّريحة من عبّاس النّوري بإزالة كلّ ما يتعلّق بصلاح الدّين الأيّوبي من على مداخل سوق الحميديّة
إنَّ استدعاء التّاريخ مع تشويهه لإثارة الأحقاد هو دأب هذه الأنظمة الاستبيداديّة وزبانيتها، فعبّاس النّوري يروّج للحقد الطّائفي الذي تتبنّاه الجهات المسيطرة على الأجهزة في بقايا الدّولة السّوريّة، وهي جهات إيرانيّة تفيض بالحقد على صلاح الدّين الأيّوبي من أيّام قضائه على الفاطميّين والحشّاشين الذين حاولوا اغتياله عدّة مرّات، وكانوا عونًا للاحتلال الصّليبي عليه.
وقد اعتاد هؤلاء على استدعاء الخصومات التّاريخيّة، وتحويلها إلى معارك ثأريّة، ولا يمكن فصل الهجمة على شخصيّة صلاح الدّين الأيّوبي عن هذا النّوع من معارك المطالبة بالثّأر.
صراعٌ على الهويّة
عندما دخل الجنرال الفرنسي هنري غورو قائد القوّات الفرنسيّة في الحرب العالميّة الأولى دمشق محتلًّا عقب معركة ميسلون؛ كان أوّل ما توجّه إليه هو قبر صلاح الدّين الأيّوبي، فركله بقدمه وقال مخاطبًا إيّاه: "لقد قلتَ لنا إنّكم خرجتم من الشّرق ولن تعودوا إليه؛ قم يا صلاح الدّين ها قد عدنا"
إنَّ أحقاد غورو هذه هي ذاتها التي تحملها الأنظمة الاستبداديّة في سورية ومصر وينفثها مرتزقتهم في دمشق والقاهرة.
وإن اختلفت الأسماء والانتماءات والتّوجّهات؛ فإنَّ الأحقاد واحدة، وإن اختلفت ألسنتهم فقد تشابهت قلوبُهم.
عمّن ندافعُ إذن؟!
إنَّ الدّفاع عن شخصيّة صلاح الدّين ليست علامةَ تقديسٍ للرّجل كما يحلو لعبّاس ‏النّوري ويوسف زيدان وأشباههما مهاجمة كلّ من يتّصدّى لهرطقاتهما، وهو ليس دفاعًا عن مرحلةٍ تاريخيّة طواها الزّمن.
بل هو دفاعٌ ‏عن الفكرة الإسلاميّة، التي يراد تشويهها، وقطع علاقة المسلمين بها ليصبحوا مبتوتين عن أصلهم الفكري.
هو دفاعٌ عن الهويّة الإسلاميّة التي ‏تمثّل الحصن المنيع للشباب المسلم في خضمّ المعارك الشّرسة على الهُويّات في هذه الأوقات ‏العصيبة.‏
هو دفاعٌ عن النّموذج الرّاقي للمصلح الفذّ والقائد الإنسان الذي يطمح المسلمون إليه وهم يرزحون تحت وطأة المستبدين المجرمين الجاثمين على صدور الشّعوب، البائعين لكرامة الإنسان والأوطان.
هو دفاعُ عن العمق الحضاريّ الأصيل للأمّة الذي جسّده صلاح الدّين الأيوبي في حياته سلوكًا لا شعارًا.
هو دفاعٌ عن الإنسان الذي لا يقبلُ الخضوع والاستعباد، ولا يرتضي بيعَ عقله ولا تأجيرَ ضميره، هو دفاعٌ عن كلّ واحدٍ منّا، هو دفاعٌ عن الإنسان الذي يكافحُ كي يبقى إنسانًا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين