الإسلام في أفريقيا (48) الشهيد الزاهد محمد بن عبد الله السدري

كان أبو عبد الله محمد بن عبد الله السدري من العباد والزهاد البدلاء المريدين العاملين ينتحل التوكل، كثير الحج والأسفار والتغرب عن الأوطان.

ذكره أبو القاسم إبراهيم السيطوسي، فأثنى عليه خيراً، وكان قد صحبه طويلاً بالمشرق وقال: انتهت صحبتي معه إلى أن صعدنا الطور فلما انتهينا إلى الموضع الذي قيل إن الله تعالى كلم فيه موسى عليه السلام خرَّ صعقاً فاستعنت بمن بالموضع على حمله وإنزاله وأقام مغشياً عليه باقي يومه وليلته.

قال: ثم دخلنا إلى الموضع الذي يقال إن الشجرة التي سمع موسى عليه السلام الكلام من ناحيتها كانت فيه وقد بني عليه بيت، وعليه حفظة وقوام. قال إبراهيم: فأما أنا فصليت ركعتين وأما أبو عبد الله فبقي مبهوتاً كالولهان لا يطيق كلاماً ولا يحير جواباً.

وكان أبو عبد الله في سياحة مع أصحابه فاشتد بهم الجوع فنزلوا على رجل فأتاهم بطعام كثير، فلما أكل منه لقمة أو لقمتين قام وهو يقول: حضر الطعام وغاب ذكر الله سبحانه. ولم يأكل بعد ذلك لقمة.

قال أبو بكر بن شراحيل الصيرفي: صحبت السدري في طريق الجزيرة فسرنا حتى انتهينا إلى شجرة لها ظل فوقف السدري يصلي تحت الشجرة واضطجعت إلى جنبه حتى أقبل سبع فقلت له: - أصلحك الله - السبع جاءنا فأقبل على صلاته ولم يشتغل بكلامي والسبع يقرب منا، فلما رأيته لم يشتغل بكلامي تعلقت بأغصان الشجرة وصرت فوقها وبقيت أنظر ما الذي يعمل له فنظرت إلى السبع وقد دار من خلفه فشمه ثم دار عن يمينه وعن يساره فبسط ذراعيه وجعل يحرك ذنبه، فركع السدري وسلم ثم قال: 

خيراً شغلت قلوبنا، إن كنت أمرت فينا بشيء فامتثله وإلا فاذهب، فقام السبع فتمطى وذهب. فمد السدري يده إلي من فوق الشجرة، فجذبني ولكزني في الحلق بيده وقال لي: يا ورنيدة أو يُخاف غير الله عز وجل!

وذكر عبد الله بن هاشم قال: حدثني أبو بكر شراحيل قال: خرجنا مرة مع السدري للدور فمررنا على موضع من الجزيرة فنزل إلينا أهله وسألونا أ نتغدى عندهم فأجبناهم إلى ذلك فما كان بأوشك شيء أن جاؤونا بكنافة فمددنا أيدينا لنأكل ومد السدري يده معنا ثم قبضها قبل أن يمسها وقال: كلوا رحمكم الله تعالى، فقلنا له: - أصلحك الله - وكل أنت معنا، فقال كلوا كما أقول لكم فلست آكل شيئاً منها. قلنا: ولم؟ قال: غلبت علي شهوة نفسي فمددت يدي ولم أذكر ربي. قال: فأكلنا ولم يأكل معنا منها شيئا.

حدث أبو محمد مَنَّ الله الفقيه قال: كان عندنا بباجة ابو الحسن علي بن أبي سعيد، الفقيه المتعبد - وكان شيخاً جليلاً، سمحاً، كل ما يملك للفقراء - وكانت له أخبار معهم منها: أنه كان لا يشتهي الزبد ولا يميل إليه، فخطر في قلبه مرة فجعل من عمله له على حسب ما أراده، فلما قرب إليه عاوده طبعه في كراهيته فقال لنفسه:

كنت لا تشتهيه ثم اشتهيته فمكنت منه ثم عدت إلى النزوع عنه، فهو كذلك حتى قرع عليه بابه فإذا بأبي عبد الله السدري الشهيد الذي رفعه عبيد الله إلى المهدية فقتله، فأدخله وقدم إليه الطعام فلما رآه السدري بكى، فقال له: مالك؟ فقال له: لما وصلت إلى وادي باجة اشتهيت هذا الطعام فدعوت الله عز وجل فيه، فهلا كان دعائي وسؤالي في الجنة والله لا أكلت زبداً حتى ألقى الله عز وجل.

جهاد أبو عبد الله ومقتله

لقد بايع أبو عبد الله على جهاد عبيد الله و (زداجة) - قبيلة بربرية ناصرت عبيد الله المهدي - فبلغ عبيد الله خبره فأمر بطلبه، فقيل له هو في ناحية باجة، فوجه في طلبه خيلاً فوجدوه واحتاطوا به، فلما جن الليل قرن قدميه فهو قائم بين يدي الله عز وجل حتى انصدع الفجر، فرجع أصحاب الخيل بعضهم على بعض وقالوا: هذا رجل من أولياء الله عز وجل نعين على قتله ولا يدخل أيدينا من ذلك شيء إلا الآثام والأوزار، الرأي أن نخليه ونقول ما وجدناه فخلوا سبيله ورجعوا فقالوا: ما أصبناه ولا وقعنا على خبره.

ومضى أبو عبد الله - بعد أن نجّاه الله من عساكر بني عبيد - إلى مكة المكرمة فأقام بها.

وبينما هو يطوف حول الكعبة التقى رجل أخذ بيده بعد انقضاء طوافه، وقال: والله لا قتلني إلا عيد، فذكر في رواية: أنه كان لعبيد الله بمكة عين تكاتبه بكل ما يجري بمكة في الموسم، فكاتبه بخبر السدري واستنفاره الناس عليه. وكان السدري يسأل ربه عز وجل في الشهادة فرأى في منامه كأن قائلا يقول له: إن أردت أن تنال الشهادة فارجع إلى المغرب تنلها.

ورأى الشيخ المجاهد الذي تطيب نفسه إلى الشهادة مثل ذلك مراراً كثيرة، فلما كثر عليه ذلك أفل عائدا إلى المغرب ممني النفس بأن يفوز بالشهادة.

وكانت عيون ابن المهدي ودعاته تكاتبه بأخبار السدري حتى وصل إلى الساحل، فبلغ عبيد الله وصوله، فأرسل في طلبه البريد - وكان نازلاً عند رجل من إخوانه الصالحين - فخرج من عنده وخرج الرجل الذي كان السدري نازلاً عنده يشيعه - وكان أشبه الناس به - فلما سار عن المنزل قليلا عرض له حقن، فمال إلى ناحية وبقي صاحبه على الطريق فلقيه البرُد فلما رأوه قالوا له: أنت السدري؟ فقال لهم: نعم، فجعلوا في رجله قيداً وكبلوه وأركبوه دابة من دوابهم وساروا به إلى عبيد الله - لعنة الله عليه - وهم يحسبون أنه السدري، فأدركهم السدري. فلما قرب منهم أشار إليه صاحبه أن يذهب، فقال له: إني لهذا قدمت، ثم قال للبُرد: من تطلبون؟ فقالوا له: السدري، فقال لهم: أنا السدري وليس هو هذا. فأزالوا القيد من رجل الرجل وجعلوه في رجله وحملوه على الدابة ووصلوا به إليه.

فلما وقف بين يديه قال له عبيد الله اللعين: أنت الشاتم لنا الذاكر عنا أنا أحدثنا في الإسلام الحوادث؟ فقال له: نعم، أنا القائل ذلك. فقال له: وما الذي رأيته منا؟ فأخبره بكل ما يعتقده في الدين والإسلام وكل ما أحدث فيهما. فقال لهم اضربوا عنقه فأخرجوه ليضربوا عنقه، فلما قرب للقتل قال: اللهم لا تبقه بعدي. ثم قتل رحمه الله ليلقى وجه ربه بعد أن أدى الرسالة التي التزم بها طيلة حياته في الذَبِّ عن الإسلام والمنافحة عن السنة المطهرة ومجاهدة أهل الكفر والبدع والضلال. وكان مقتله رحمه الله سنة(309هـ/921م). 

واستجاب الله سبحانه وتعالى لدعوة السدري، فابتلي عبيد الله اللعين بعلة عظم فيها جسده وانتفخ حتى صار كالعِدْل وتفجّر بالدماء، فكان إذا ألقي عليه بالرقيق من الأردية الشرب صاح ثم رفع عينيه إلى السماء وشخص يقول: 

أنمروذ أنا؟ أفرعون أنا؟ أقارون أنا؟ إلى أن مات. خلد الله تعالى عليه ما هو فيه وبارك له في العذاب الذي صار إليه.

وذكر عن أبي عبد الله بن خراسان، أن أبا عبد الله السدري لما وصلوا به إلى المهدية أدخلوه على البغدادي فقال له: يا شيخ إن أمير المؤمنين كثير العفو فإذا دخلت عليه فأعط الإمارة حقها. 

ثم قام ودخل على عبيد الله بعد أن شاور عليه، فأمر بدخوله، فدخل إلى مجلس فيه بساط من حرير وفروش، ثم عطف عليه البغدادي فقال له: إن أمير المؤمنين كثير العفو، فقال له السدري: أتكذب عليه في وجهه؟ فقال له عبيد الله: كيف كذب يا شيخ؟ قال: سماك بأمير المؤمنين ولو كنت أمير المؤمنين ما أمرت بسب السلف وأظهرت الخمر والقبالات والمراصد. قال عبيد الله: احبسوه فما زال الصالحون يدخلون على الملوك ويعظونهم؟ فقالوا له: هذا يكون جرأة عليك واستخفافاً بالسلطنة، فقال: اضربوا عنقه، فهم خارجون به وهو يضحك، فقال له عبيد الله: ما الذي أضحك؟ فقال: تعجبت من حلم الله عز وجل فيك. فأتوا به عند النخل ليقتلوه فهرب العسكر كله فلم يجدوا أحداً يقتله فأخذوا رومياً سقوه خمراً حتى سكر فقتله ثم صلبه، فلما كان الليل انفتح باب في السماء ونزل عمود من نور من السماء. فوقع الصياح، فطلع عبيد الله على قصره فرأى نوراً على خشبته أضاءت منه الأرض فأمر في الوقت من فتح باب المدينة وأنزله من خشبته ودفنه.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين