الهجرة وحاضر المسلمين (4- 15)

 

هجرة دائبة

وأما الهجرة بالمعنى العام فإنها باقية ما دام نَفَس بالإيمان يصعد، ذلك أن خاصيَّة الصراع بين الحق والباطل، أو دفع الله الناس بعضهم ببعض، لا يزال أواره متوهجاً ولن يزول حتى لا تبقى راية للكفر عالية ويكون الدين كله لله، وتُذْعن معسكرات الكفار كلها للمسلمين، كما قال تعالى فيما مر آنفاً: ( [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] {الحج:40} .

وقد ورد في الحديث:(... الهجرة لا تنقطع ما دام العدو يقاتل) رواه أحمد في مسنده.

من هنا أوجب الفقهاء هجرة المسلم من دار الحرب إلى دار الإسلام مظاهرة للمسلمين على الكافرين، ومحافظة على أنفس المؤمنين أن تزل في مزالق أهل الشرك بالمعاشرة والمشاكلة.

كما أوجبوا الهجرة من أرض البدعة إلى أرض السنة، إلا أن يكون جهاداً في سبيل الله، أو أداء لواجب شرعي مع التمكن من نفسه ومن معه، أو بعثاً من قبل إمام المسلمين ضمن خطة في ديار العدو.

وحريٌّ بنا أن نلفت الانتباه إلى هجرة بعض المسلمين من أرض يضيق عليهم فيها من حكومات ظالمة تتحكم في ديار المسلمين، إلى منفرج في ديار أخرى كيما يعيدوا الكرة، حينما يأنسون من مقتضيات الشؤون ما يحملهم على ذلك.

قبل الفتح وبعده:

قال الحافظ ابن حجر عند قوله: ( لا هجرة بعد الفتح): ( أي: فتح مكة، أو المراد ما هو أعم من ذلك. إشارة إلى أن حكم غير مكة في حكمها فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون، أما قبل فتح البلد فمن به من المسلمين أحد ثلاثة:

الأول: قادر على الهجرة منها، لا يمكنه إظهار دينه بها ولا أداء واجباته، فالهجرة منه واجبة.

الثاني: قادر لكنه يمكنه إظهار دينه، وأداء واجباته، فمستحبة لتكثير المسلمين ومعونتهم، وجهاد الكفار والأمن من غدرهم، والراحة من رؤية المنكر بينهم.

الثالث: عاجز بعذر من أسر أو مرض أو غيره، فتجوز له الإقامة، فإن حمل على نفسه وتكلف الخروج منها أُجر)(1).

لكن قال الألوسي في تفسيره:( روح المعاني) عند قوله تعالى:[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:97}.قال: ( واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وهو مذهب الإمام مالك، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضاً. وفي كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضاً في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلاً: من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم )اهـ (2).

فقد ظهر من كلامه إيجاب بعضهم للهجرة عند مقتضياتها، وإن كان بعد فتح المسلمين.

وهل يعود إلى وطنه؟

ثم هل للمهاجر أن يعود إلى وطنه بعد الفتح؟ اختلف الفقهاء في ذلك مع التفصيل. روى البخاري عن عبد الرحمن بن حميد الزهري قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يسأل السائب ابن أخت النمر: ما سمعت في سُكنى مكة؟ قال: سمعت العلاء بن الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ثلاث للمهاجر بعد الصدَر.

قال ابن حجر عند قوله:(ثلاث للمهاجر بعد الصَّدَر) أي: بعد الرجوع من منى، وفقه هذا الحديث أن الإقامة بمكة كانت حراماً على من هاجر منها قبل الفتح، لكن أبيح لمن قصدها منهم بحج أو عمرة، أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثة أيام لا يزيد عليها، ولهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة، وفي كلام الداودي اختصاص ذلك بالمهاجرين الأولين، ولا معنى لتقييده بالأولين.

قال النووي: معنى هذا الحديث أن الذين هاجروا يحرم عليهم استيطان مكة، وحكى عياض أنه قول الجمهور، قال: وأجازه لهم جماعة، يعني بعد الفتح، فحملوا هذا القول على الزمن الذي كانت الهجرة المذكورة واجبة فيه. قال: واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجباً لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس. وأما غير المهاجرين فيجوز له سكنى أي بلد أراد سواء مكة وغيرها بالاتفاق. انتهى كلام القاضي ويستثنى من ذلك من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالإقامة في غير المدينة.

وقال القرطبي: المراد بهذا الحديث من هاجر من مكة إلى المدينة لنصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعني به من هاجر من غيرها، لأنه خرج جواباً عن سؤالهم لما تحرَّجوا من الإقامة بمكة إذ كانوا قد تركوها لله تعالى، فأجابهم بذلك وأعلمهم أن إقامة الثلاث ليس بإقامة قال: والخلاف الذي أشار إليه عياض كان فيمن مضى، وهل ينبني عليه خلاف فيمن فرّ بدينه من موضع يخاف أن يفتن فيه عن دينه، فهل له أن يرجع إليه بعد انقضاء تلك الفتنة.

يمكن أن يقال: إن كان تركها لله كما فعله المهاجرون، فليس له أن يرجع لشيء من ذلك، وإن كان تركها فراراً بدينه ليسلم له، ولم يقصد إلى تركها لذاتها فله الرجوع إلى ذلك اهـ. وهو حسن متجه، إلا أنه خص ذلك بمن ترك رباعاً أو دوراً ولا حاجة إلى تخصيص المسألة بذلك، والله أعلم ) اهـ (3).

اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم:

روى البخاري عن عامر بن سعد بن مالك عن أبيه قال: (عادني النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع من مرض أشفيت منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بشطره؟ قال: الثلث يا سعد والثلث كثير.

إنك إن تذر ذريتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، ولست بنافق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا آجرك الله بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك، قلت: يا رسول الله، أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تُخَلَّف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك تُخَلَّف حتى ينتفع بك أقوام، ويُضر بك آخرون، اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُوفي بمكة)(4).

الحلقة الثالثة هنا

======-

(1) فتح الباري ج12ص163. 

(2) روح المعاني ج5ص126. 

(3) فتح الباري ج15ص126ـ127 مع حذف. 

(4) صحيح البخاري كتاب المبعث النبوي، باب قول النبي : اللهم أَمْضِ لأصحابي هجرتهم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين