الهجرة وحاضر المسلمين (3-15)

لا هجرة بعد الفتح

أما الهجرة بالمعنى الخاص فقد انقطعت، وذهب أهلها بالأجر الجزيل، والمزيَّة التي لا تضارع، إذ على أكتافهم وبفضل مهاجرهم نشأت دولة الإسلام، واسترفدت بمجامع شكيمتها حتى بقيت ثمراته إلى عصرنا هذا، وستبقى إلى قيام الساعة.

وكانت عناية الله تعالى بهؤلاء الصحب أيما عناية، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ(62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ(64) ]. {الأنفال}..وقال فيهم: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:100}.

وقال فيهم وفيمن حولهم [مَا كَانَ لِأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] {التوبة:120،121} وقال فيهم وفي من فتحوا صدورهم لهم :[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(9) ]. {الحشر}..

وهم الذين قال فيهم من الإذن بالقتال الذي أصبح ماضياً إلى قيام الساعة : [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)]. {الحج}..

وعلى ذلك وردت الأحاديث التي تنفي صحة وقوع الهجرة بعد الفتح.

عن مجاشع رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة، قال: ذهب أهل الهجرة بما فيها، فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد، فلقيت أبا معبد بعد، وكان أكبرهما، فسألته، فقال: صدق مجاشع.

وعن مجاهد: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إني أريد أن أهاجر إلى الشام، قال: لا هجرة ولكن جهاد. فانطلق فاعْرِض نفسك، فإن وجدت شيئاً وإلا رجعت.

وعن عطاء ابن أبي رباح قال: زرت عائشة رضي الله عنها مع عبيد بن عمير، فسألها عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن يَفِرُّ أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية(1).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: ( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا)(2).

جاء في فتح الباري عند قوله: ( وإذا استنفرتم فانفروا) قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه)(3).

الحلقة الثانية هنا

* **

(1)صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح.

(2)صحيح البخاري، كتاب الجهاد: باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية.

(3)فتح الباري ج6ص30.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين