أزمتنا الحضارية بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية

مازال الحديث مستمراً منذ قرن أو يزيد حول أسباب تخلف أمتنا العربية الإسلامية، بالرغم من أنها أمة تدين بأعظم دين، وتمتلك أغنى تراث عرفه التاريخ، هذا مقابل أمم أخرى أحرزت خلال الزمن نفسه خطوات واسعة من التقدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بالرغم من أنها أمم لا تمتلك ما نمتلكه من دين وتراث ! (انظر مثلاً – شكيب أرسلان : لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر – ط 1 ، 1939م)

وقد لاحظنا أن معظم الباحثين الذين انخرطوا في الحديث عن هذه المسألة يركزون في بحوثهم على "العوامل الداخلية" متهمين إياها بتخلف الأمة، ولا يعطون "العوامل الخارجية" نفس الاهتمام؛ بالرغم من أن هذه العوامل لا تقل تأثيراً في تخلف الأمة عن تلك الداخلية !

ومن خلال متابعة هؤلاء الباحثين وبخاصة منهم دعاة التنوير والتجديد المعاصرين وجدنا أن من أكثر العوامل الداخلية التي يتهمونها بتخلف الأمة :

- العقل العربي المسلم : الذي يرون أنه عقل مأسور للنصوص الدينية، عاطل عن التفكير خارجها ً

- التراث العربي المسلم : الذي يتهمونه بالتخلف، والبداوة، ومعارضته للحداثة، وتغييب العقل العربي .. إلى غير ذلك من الاتهامات التي زرع بذورها المستشرقون المغرضون !

والعجيب أن يحصل هذا الاهتمام والاتهام للعوامل الداخلية في تخلف الأمة، مقابل تجاهل عجيب للعوامل الخارجية التي يزداد تأثيرها وضغطها وتآمرها على الأمة يوماً بعد يوم، وفي هذا ما فيه من بعد عن الموضوعية، وما فيه من خدمة مجانية للمخططات والمؤامرات الكبرى التي تحاك ضد الأمة !

وأننا مع التسليم بأهمية العوامل الداخلية وتأثيرها في حال الأمة؛ ينبغي أن لا يغيب عنا أن إشغال الأمة بالعوامل الداخلية يراد منه إشغال الأمة بنفسها عما يحاك ضدها من مؤامرات ومخططات !

ولم يتوقف هذا الكيد لإشغال الأمة بنفسها ، بل زاد عليها اليوم مشاغبون أدعياء ظهروا في أيامنا الحاضرة، وباتوا من نجوم الشاشات، صار شغلهم الشاغل افتعال قضايا وهمية يزيد الأمة انشغالاً عن مخططات أعدائها، فقد صار ديدن هؤلاء المشاغبون التشكيك بمصادر الإسلام لكي يشغلوا الدعاة الجادين عن القضايا المصيرية بهذه القضايا المفتعلة، كما يفعل بعضهم اليوم بالنيل من حجية السنة النبويةويشككون بمصادرها، ويجتهد آخرون من هؤلاء المشاغبين في اتهام أئمة الإسلام الكبار وتشويه أعمالهم، من أمثال (الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، والبخاري، ومسلم .. وغيرهم) بل وصلت الجرأة ببعضهم إلى التشكيك بكتاب الله الكريم والتشغيب عليه بأقوال وتفاسير لا تقوم على أساس ولا برهان ! ووصلت الجرأة ببعضهم الآخر إلى إنكار مكة، وإنكار المسجد الأقصى وإنكار الإسراء والمعراج (المصري يوسف زيدان) وهكذا صدق في وصف الأمة وصف المتنبي :

رماني الدهرُ بالأرزاء حتى=فـؤادي فـي غشــاء مـن نبـال

فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ=تكسرت النصال على النصال 

فكأن ما ينخر جسد الأمة من علل داخلية وخارجية لا يكفي فجاء هؤلاء الأدعياء يرمون جراح الأمة بالمزيد من سكاكين جهل بعضهم، وأحقاد بعضهم، وعمالة آخرين!

ومن هنا نقول إن هذه العلل المركبة ضد الأمة تحتاج من الباحثين الجادين إعطاء كل عامل من هذه العوامل ما تستحقه من اهتمام، وعدم التركيز على بعضها، وإهمال بعضها الآخر .

هذا، مع التأكيد مراراً وتكراراً بأن العوامل الداخلية مهما كانت خطاياها كبيرة فليست هي المصدر الوحيد لما آلت إليه أحوالنا من تخلف، بل نجد عند التدقيق أن هذه العوامل الداخلية ترجع في أسبابها إلى العوامل الخارجية . 

واهتمامنا بالعوامل الخارجية لا يعني إغفال العوامل الداخلية الكثيرة التي لا ننكر خطورتها لكننا نرى أن الأولوية ينبغي أن تعطى لمواجهة العوامل الخارجية . وحجنتنا في هذه الدعوة الحقائق الآتية : فلو كثر عدد الملتزمين بدينهم وخرجوا من "الجاهلية" إلى الإسلام، كما ينادي الإسلاميون، ولو كثر المؤمنون بالديمقراطية، أو تخلص العقل العربي من علله، كما يأمل التنويريون والحداثيون ... لو تحقق هذا كله، وتحررت الأمة من كل أمراضها الداخلية فإن العوامل الخارجية لن توقف ضغطها على الأمة اقتصاديّاً وسياسيّاً وإعلاميّاً وثقافيّاً، ولن يتوقف المشروع الصهيوني عن حربه للأمة، وسوف يتواصل التحكم العالمي ببرامج تنمية بلداننا العربية والإسلامية .. ومن ثم تظل المحصلة استمرار انزلاق الأمة في تخلفها .. فتأمل؟

*****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين