الهجرة وحاضر المسلمين (2-15)

إخلاص الهجرة لله تعالى 

عن الأعمش قال: سمعت أبا وائل يقول: عُدْنا خبّاباً، فقال: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قُتل يوم أحد وترك نَمِرة، فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من إذخر. ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدبُها(1).

وعن عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)(1).

قال الشيخ عبد المجيد الشرنوبي عند قوله:( إنما الأعمال ) أي: صحتها أو كمالُها، قدّر الأول الأئمة الثلاثة في الوسائل والمقاصد، والثاني أبو حنيفة في الوسائل كالوضوء والغسل، واتفق معهم في المقاصد، أي: أن أعمال الدين لا بدَّ فيها من النية، أي: قصد الفعل اهـ(1).

هذا وقد فصَّل ابن رجب الحنبلي في هذا المقام بياناً نفيساً لا يسعُ ههنا بيانه، ثم قال عند قوله( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله إلخ): لما ذكر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثلاً من الأمثال والأعمال التي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال، وأصل الهجرة: هجران بلد الشرك، والانتقال منه إلى دار الإسلام، كما كان المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الهجرة تختلف باختلاف المقاصد والنيات بها. فمن هاجر إلى دار الإسلام حباً لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه، حيث يعجز عنه في دار الشرك فهذا هو المهاجر إلى الله ورسوله حقاً، وكفاه شرفاً وفخراً، أنه حصل له ما نواه من هجرته إلى الله ورسوله. ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه، لأن حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة.

وفي قوله:( إلى ما هاجر إليه) تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة به، حيث لم يذكره بلفظه، وأيضاً إن الهجرة إلى الله ورسوله واحدة فلا تعدد فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط، والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ومحرمة أخرى، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر فلذلك قال:( فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني: كائناً ما كان) اهـ (1).

الحلقة الأولى هنا

======

(1) جامع العلوم والحكم ص11 مع بعض حذف.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين