الهجرة وحاضر المسلمين (1-15)



في هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تحدونا نظائر وتسعفنا خواطر، وتقسَّمنا شؤون، فما يدريك في هذا المعتلج، الذي يلف بلفعته حول العالم، أن يسترد كثير من نجباء المهاجر الإسلامي المعاصر مراتعهم، في خصب ورُواء، مهما عفرت جباههم زوابع الإحن وتراتيل الفتن.
روى البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ( جاء أعرابيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الهجرة، فقال: ويْحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل. قال: نعم. قال: فتعطي صدقتها، قال نعم: قال: فهل تمنح منها. قال: نعم. قال: فتحلُبُها يوم وُرودها.قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً).
قال العلامة ابن حجر في فتح الباري: ( قوله: اعمل من وراء البحار. مبالغة في إعلامه بأن عمله لا يضيع في أي موضع كان. وقوله: لن يَتِرك. أي: ينقُصك) (1).
مع هجرة الجيل الأول:
فقد علم كل مهاجر أخلص النية لله جل وعلا، ودأب على قديم عهده، إلى أين تصير الأمور، وحتى متى تنقضي غاشيات، عصفت بألباب كثير، وقد خفرها شعارات كذوب، وتبقى سنة الله تعالى، في عباده المؤمنين ثاقبة ساهمة، على طريق سواء، مهما بعد الزمان بهجرة الجيل الأول مع نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى المدينة للبناء والجهاد، وكانت لهم مع إخوانهم من الأنصار مآثر في التعاون والتباذل.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:( جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء، ثم أرسل به إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، وقلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَنْ يضيفه يرحمه الله؟، فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة، فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء، قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلِّليهم بشيء ونوِّميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل، فإذا أهوى بيده ليأكل، فقومي إلى السراج كي تصلحيه، فأطفئيه، ففعلت، فقعدوا وأكل الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد عجب الله، أو ضحك الله، من فلان وفلانة)، زاد في رواية: فأنزل الله:[ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] {الحشر:9}.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: تكفونا المؤنة، ونشرككم في الثمر، قالوا: سمعنا وأطعنا).
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، فقال: أمّا لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، فإنه سيصيبكم أثرة بعدي، وفي رواية: ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). الأثَرة: معناها: الاستئثار، وهو أن يُستأثر عليكم بأمور الدنيا ويُفضل غيركم عليكم، ولا يجعل لكم في الأمر نصيب، وقيل: الأثرة الشدّة، والأول أظهر) (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النَّضير للأنصار: إن شئتم قسمتهم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم أموالكم ودياركم، ولم نقسم لكم شيئاً من الغنيمة، فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها، فأنزل الله عزَّ وجل:[ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] {الحشر:9}.والشح في كلام العرب: البخل مع الحرص، وقد فرق بعض العلماء بين البخل والشح، فقال: البخل نفس المنع، والشح هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع) (3).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة، قدموا وليس بأيديهم شيء. وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤونة، وكانت أم أنس بن مالك، وهي تُدعى أم سُليم، وكانت أم عبد الله ابن أبي طلحة، كان أخاً لأنس لأمه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها، فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد، قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر، وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عِذاقها. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أيمن مكانهن من حائطه.
قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أيمن أم أسامة بن زيد رضي الله عنهم، أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما توفي أبوه، فكانت أم أيمن تحضنه، حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت بعدما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.
وعن أنس أن الرجل كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه (4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أُمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب،وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد).
وعنه أيضاً أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) (5).
---
(1) فتح الباري: ج7ص207.
(2) انظر هذه الأحاديث في الخازن من مجمع التفاسير ، ج6 ، ص224 مع بعض حذف.
(3) المرجع السابق ج6ص224.
(4) الحديثان في صحيح مسلم، وتمام الحديث الثاني فيه.
(5) الحديثان في صحيح البخاري، فضائل المدينة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين