أخلاق إسلامية تركها المسلمون واتصف بها الكافرون

الأستاذ : عدنان الزهار


الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله
معلوم بضرورة الدين والعقول والتاريخ والواقع أن السنن الكونية لا تحابي أحدا، ولا تفرق بين مسلم وكافر ولا بين تقي وشقي، ومن ثمةَ قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة".اهـ


وقد تمثلت الدول والشعوب الكافرة في زماننا بمبادئ العدل في كثير من الجوانب، فيما يظهر في نفسه أنه من آداب الإسلام وأخلاقه، في حين هجرها أكثر المسلمين، بل تنكب عنها دعاة إلى أخلاق الإسلام ووُرَّاث لتركة الأنبياء والمرسلين، ممن يتشددون في أتفه الأمور وأحقرها، ويرعود ويبرقون في فرعيات شؤون الناس وجزئياتها، في حين انسلخوا من أخلاق الإسلام التي هي أولى بالاعتبار والتي بها حقا الارتقاء.


فجلب العدلُ على الكفار ربحا وقوة وثباتا وازدهارا، وأغرق الظلمُ المسلمين في التخلف والخسران والندامة والاضطراب، ولست أتأسفُ من وقوع العامة من المسلمين في مهاوي ظلم الأنفس بقدر ما أتأسف وأحزن من انطباع الخاصة بغير أخلاق الإسلام مع كثرة الدعاوى العريضة والتنطُّعات الفارغة، يستوي في ذلك الأشخاص والمؤسسات والجماعات، وما أيقظهم لهذه الحقيقة واقع الأمة ولا نبههم على خطورة المنزلق الذي وقعوا فيه تدهور الحالة الخلقية، فتراهم ينتصرون لباطلهم ويصرون على عصيانهم، فلا غرابة أن ترى العامة على غير هدى من الله وتسمع بمصائب الأخلاق وآفاتها.


ومن مظاهر قلة الأخلاق وذهابها ممن يُرجى الاقتداء بهم ويقصد الناس الانتفاع بآدابهم وعلومهم، ترك الرد على الرسائل وإجابة أصحابها، وقد ابتلي بهذا الداء الأخلاقي كثيرٌ من أصحاب الوجوه وخاصة المدعين أنهم من أهل الدين والعلم والدعوة!


ففي حين يراسلُ الباحث منظمةً مسيحية أو يهودية أو علمانية أو مجوسية أو لادينية سائلا عن معلومة أو مستقصيا فائدة أو طالبا معونة علمية أو مسترشدا عن قضية معرفية، يجد الجواب عنده سريعا قريبا حتى يخال إليه أنهم كانوا ينتظرون سؤاله، فيستقبلونه استقبال مودة وفرح ومسارعة في الخدمة، وهم يفعلون ذلك احتراما للعلم وتقديرا للباحث عنه، فبذلك استحقوا ما هم فيه وحُق لهم ما بلغوه من رقي ومجد، وإن كانوا أعداء للدين ومعاندين لأهله من المؤمنين.


فإذا راسل في المقابل الباحثُ نفسُه عالما من علماء الإسلام أو مؤسسة علمية ودعوية أخذت في الظاهر على عاتقها مسؤولية خدمة العلم وأهله والسالكين طريقه وُوجه خطابه بالإهمال وأجيب عن رسالته بمنتهى النكران والإعراض، حتى يخال إلى السائل أنه اقترف في حقهم إثما عظيما أو أزعجهم في وقت نومهم فاستحق بذلك إهانة وتقريعا، مع أن المرسِل إنما استفسر عن أمر في الدين أو عن شيء يرتبط به ارتباطا فهو على كل حال من أمور الدين، ولا يخفى على عاقل ما يفضي إليه هذا السلوك المشين من مفاسد وأضرار.


فلا شكَّ أن كثيرًا قد انزعج خاطره مثلي من مثل هذه التصرفات وتأسف لوقوعها من أسماء العلماء وجمعيات تعنى بالدعوة إلى الله ورسوله ودينه؟ فقد راسلتُ في قضايا علمية ودعوية ودينية وثقافية أكثر من عشرة علماء، داخل المغرب وخارجه، ووجهت خطابات عديدة إلى أكثر من عشر جمعيات ومؤسسات دينية للتواصل معها في أمور علمية ومباحث ثقافية تُعنى بمصالح الدين والأمة والمسلمين، وإنا أقسم بالله العلي العظيم أنني لم أتلق من واحدة منهما ولا واحد{ منهم جوابا ولا أعار لموضوع الرسالة بالا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، في وقت راسلتُ جمعيات ومؤسسات بهولندا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة، وقد أجابني الكل بل أسرعوا في الجواب وأظهروا الاهتمام، فأكثرهم مستجيب ملبٍّ، وقليل منهم معتذر، لكن أجاب، وأظهر لنا الاحترام، وأبان عن تقديس للعلم، وتقدير لأهله، فبذلك رقوا وبهذا الذي ابتلي به خاصتنا ضعفت الأمة وتخلفت عن ركب التقدم والازدهار، وبهذا أيضا قدم الأعيان قدوة سيئة لمجتمعاتهم وعلموهم أسوأ الأخلاق وربوهم على أقبح الخلال.
هذا وإن ترك الجواب عن رسائل الناس محرمٌ شرعا ودليله ما يلي:


1. أنه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يجيب عن رسائل وكتب الناس، حيث ذكرت كتب السير والمغازي جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عدد من رسائل أصحابه وغيرهم، ففي "الدرر في اختصار المغازي والسير" لابن عبد البر: "وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد في ربيع الآخر أو جمادي الأولى سنة عشر إلى بني الحارث ابن كعب بنجران يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا ودخلوا فيما دعاهم خالد إليه من الإسلام. فأقام عندهم خالد يعلمهم كتاب الله وشريعة الإسلام. وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليه من أهل نجران ومن إنصاف إليهم، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابه".اهـ


2. أنه مخالف لهدي الإسلام في ترك رد السلام، فإن كل رسائل المسلمين مبتدئة بالسلام، وقد قال تعالى (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء:86]، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس«، وفيه أن ترك رد السلام تضييع لحقوق المسلمين، وبيِّنٌ ما فيه من ظلم وإساءة؛ وكان صلى الله عليه وآله وسم يتيمم لرد السلام حرصا منه على هذا الخلق المنيف وخشية من تضييع حقوق المسلمين. بل قد روى ابن عدي في "الكامل" وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «رد جواب الكتاب حق كرد السلام«.


3. أنه ترك فعل واجب كما قرره العلماء رضوان الله عليهم، وترك الواجب محرم وموجب للإثم والعقوبة، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 18/479: "وَيَجِب رَدُّ جَوَاب السَّلَام فِي الْكِتَاب وَمَعَ الرَّسُول".اهـ، وقال الصنعاني في "سبل السلام" 4/207 عن حديث أَبِي رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ: «إنِّي لَا أَخِيسُ«: "فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حِفْظِ الْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِهِ وَلَوْ لِكَافِرٍ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ الرُّسُلُ بَلْ يَرُدُّ جَوَابَهُ فَكَأَنَّ وُصُولَهُ أَمَانٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ بَلْ يُرَدَّ".اهـ وقال المناوي في "فيض القدير" 4/100: "إذا كتب لك رجل بالسلام في كتاب ووصل إليك وعلمته بقراءتك أو بقراءة غيرك وجب عليك الرد باللفظ أو المراسلة، وبه صرح جمع من الشافعية وهو مذهب ابن عباس. قال النووي: ولو أرسل السلام مع إنسان وجب على الرسول تبليغه لأنه أمانة؛ ونوزع بأنه بالوديعة أشبه، قال ابن حجر: والتحقيق أن الرسول إن التزمه أشبه بالأمانة وإلا فوديعة. ثم قال النووي: ولو أتاه شخص بسلام مع شخص أو في ورقة وجب الرد فورا ويستحب أن يرد على المبلغ كما أخرجه النسائي ويتأكد رد جواب الكتاب فإن تركه ربما أورث ضغائن ولهذا أنشد:
إذا كتب الخليل إلى خليل. . .فحق واجب رد الجواب
إذا الإخوان فاتهم التلاقي. . .فما صلة بأحسن من كتاب

4. أن عدم رد الجواب يظهر ترك الاهتمام بأمور المسلمين وذواتهم وهذا كافٍ في استحقاق فاعله الإثم، وقد روى الطبراني في "المعجم الأوسط" عن أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من أصبح و همه الدنيا، فليس من الله في شيء، و من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا«.

5. أنه في الغالب تركُ الجواب عن سؤال علمي أو معرفي، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار« كما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه.

6. أن فيه إهمال السائل وسؤالَه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه أبو داود في "سننه" عن الحسين بن علي عليهما السلام: «للسائل حق وإن جاء على فرس«.

7. أن في ترك الجواب عن رسائل الناس، إغلاق لباب التعاون على البر والتقوى، وهو من أكبر أنواع الحرام وأقبح صور الفساد.

8. أن ترك جواب الناس عن رسائلهم يفضي على احتياجهم إلى غيرهم من أهل الكفر، ومن أحوجَ مسلما إلى كافر باء بالخسران.

9. أن ترك جواب الناس مظنة العداوة البغضاء، والدافع لها والموجب لمقتضياتها مشارك فيها وساع لتخريب الألفة بين المسلمين فلا شك لاحقه الإثم بارتكابه هذا الأمر المحرم.
 
10. أن فيه إدخال الحزن والأسف على قلوب المسلمين، ومعلوم شرعا أن من آذاهم فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد آذى الله ومن آذى الله وجبت له العقوبة.
 
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين