المختصر اللطيف في حكم عمل المولد الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، وشرّفنا بابتعاث سيد الأنام، صلى الله عليه أزكى صلاة وسلم عليه أطيب سلام، وعلى آله الطاهرين الكرام، وأصحابه الجحاجح العظام..وبعد:

فقد وقع السؤالُ وتكرَّر في مثل هذه الأيام التي تزدان فيها شوارع القاهرة بأبـهى حُلل الزينة, وقد تناثرتْ في أحيائها العتيقة محلاتُ بيع الحلوى التي يُقال لها (حلوى المولد) إنـهم يتأهبون للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا يرد السؤالُ كثيراً عن حكم هذا الاحتفال، فحررنا هذه العُجالة في الجواب عن ذلك.

ولا ريب أن النزاع والاختلاف في مثل هذه المسائل التي خفي فيها أصلها ودليلها، أو يكون الدليل فيها عاماً كلياً وليس نصاً يرفع الخلاف، يشتد حتى إنه ليقع بين المختلفين فيها من النبز بألقاب السوء والتباغض ما هو مذموم لا يرضاه الله ورسوله.

والعاقل تكون نـهمته في الدليل والنظر، فإن قنع به تبعه وعمل به غير مبال ولا هيّاب بقدح أو مدح، وإلا اعتذر عنه بعلم وإنصاف وترك الإنكار على خصمه وأعرض عن اللغو والوقيعة، فالأمر كما قيل:

اعمَلْ لنفسِكَ صالحاً لا تحتفل .... بكبيرِ قيلٍ في الأنام وقالِ

فالناسُ لا يُرجى اجتماعُ كلامهم ... لا بدَّ من مُثْنٍ عليكَ وقالِ

فمن لم يقنع بكلام مخالفه ودليله فلا أقل من أن يدع قالة السوء فيه ويترك التشنيع والتبديع، فالشأن في الخلافيات كما قال ابن الجلاح:

نحن بـما عندنا وأنت بـما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ

والله تعالى المسؤول، وهو خير مرجو ومأمول، أن يجمع المسلمين على خير، ويدفع عنهم كل سوء وضير، وأن يجعل ما نعلم ونعمل خالصاً لوجهه الكريم، مقرّباً للزلفى لديه في جنات النعيم، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل..آمين.

فصل

قد تنازع الناس في حكم الاجتماع للاحتفال بالمولد الشريف, فمن غالٍ تعسَّفَ في منعه وشدَّدْ, ومن مُسرفٍ أطلقَ جوازه ولم يُقيّدْ, والحق الحقيق بالقبول, التوسط فيه بين خُطَّتي الإفراط والتفريط, فإنه إن كان الاحتفالُ به على ما كان يصنعه الفاطميون وغلاة المتصوفة من الرقص والنوح والتواجد فهو منكر ولا يستريب فيه عالم, وإن كان هو الاجتماع على العلم والذكر والنشيد فهو حسن في أظهر قولي العلماء.

وقد استخرج الحافظُ ابن حجر لعمل المولد أصلاً انتزعه من خبر صوم اليهود في عاشوراء, لأنه يوم نـجّى الله فيه موسى عليه السلام, وتقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم, وقوله: (نحن أحق بهم من موسى) فدلَّ على أن الأصل في أيام الله المعظّمة, أنه يُتَقرّبُ إليه فيها بالطاعات شكراً, ولا ريب أن يوم مولده عليه السلام من أعظم أيام الله، واختار جماعة من المحققين أنه أعظمها بإطلاق كما يأتي, ومن هنا حسُن إحياؤه بالطاعة.

ويقويه الأصل الثاني الذي استخرجه الجلالُ السيوطي, وهو ما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عن صوم يوم الإثنين؟ فقال: (ذاك يومٌ ولدتُ فيه) وهذا الذي يقال له عند الأصوليين (دلالة التنبيه) فإنه عليه الصلاة والسلام نبَّه على إحياء اليوم الذي ولِدَ فيه بالطاعة من صوم ونحوه, وإلا لم يكنْ قوله هذا جواباً عن سؤال السائل, كما هو ظاهر.

وهو أيضاً من أسلوب الحكيم عند البلاغيين, لأنه لم يقل صوموه, فينحصر الصوم في الإثنين دون غيره, بل أجاب السائلَ بـما يدلُّه على هذا الأصل ويُرشدُه إليه, وهو التقرب بالطاعة في الأيام المعظّمة, كيوم مولده عليه الصلاة والسلام, وإن اتّفقَ كونُه في غير يوم الإثنين, فتأمله.

ومن هنا استُشكِلَ ما حُكي عن ابن عاشر المالكي رحمه الله, فإنه أنكر على ابن عبّاد حين رآه صائماً يومَ المولد, وعلَّله بأنه يومُ فرحٍ وسرورٍ، واستحسن تركَ صومه الشيخُ زروق وأبو عبد الله القوري وغيرهم. 

ووجه الإشكال أن إنكاره هذا في مقابلة النص كما مرّ, وكونُه يومَ فرحٍ لاينافي صومَه فإن الفرح والسرور يقع بالتعبّد كما يقع بالمرح, وقد نبّه الكتاب العزيز على أن الأصل في النعم الشكر بالعبادة والقربة إلى الـمُنعِم تعالى فقال: (ألم تَرَ أنّ الفُلكَ تجري في البحر بنعمت الله ليُريكم من آياته إنّ في ذلك لآياتٍ لكلّ صَبّارٍ شكور) وذكر الشكر على آياته فقال: (ألم تَرَ أنّ الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إنّ في ذلك لآياتٍ لكلّ صَبّارٍ شكور).

بل أرشد سبحانه وتعالى إلى وجوب شكره لخصوص أيامه العظيمة التي هي من أعظم النعم فقال: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلماتِ إلى النور وذَكِّرهم بأيامِ الله إنّ في ذلك لآياتٍ لكلّ صبّارٍ شكور) فنبّه على أن أيامه العظيمة تقابل بالشكر الذي يقع بالطاعات، ولا ريب أن يوم مولده عليه الصلاة والسلام من أعظم أيام الله تعالى، فهذه النصوص أصل في الاحتفال بالمولد شكراً كما هو ظاهر.

فالذي يتّجه أنه إنما أنكر عليه لأنه لم يصُمْهُ على جهة الشكر, بل على جهة المقابلة والمعاندة لـمَنْ يفرح ويحتفل به, كما هو مشاهد من بعض غلاة المنكرين الذين يتعمدون لجهلهم إظهارَ عدم المبالاة بـهذا اليوم العظيم على سبيل المقابلة بالمعاندة لـمن يحتفل به.! 

وهو غاية الجفاء، وقد ذكر العلامة أبو القاسم السهيلي عن الحافظ بقي بن مخلد الأندلسي في (تفسيره) أن إبليسَ لعنهُ اللهُ رَنّ أربعَ رَنّاتٍ رَنّةً حين لُعن ورَنّةً حين أُهْبِطَ ورَنّةً حين وُلِدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ورَنّةً حين أُنزلتْ فاتحةُ الكتاب، قال والرَّنينُ والنّخَارُ من عَمَلِ الشيطان، فمن تعمد إظهار الحزن أو عدم الفرح والسرور أو أظهر عدم المبالاة في يوم مولده عليه الصلاة والسلام فقد أشبه عمله هذا عملَ إبليس لعنه الله. 

والمقصود إظهار الشكر لله في هذا اليوم العظيم إما بعبادة وإما بالفرح، ومعلوم أن الصوم وغيره من الطاعات تقع شكراً لله على نعمة جلبها كما يقع على نقمة دفعها، وهذا معروف في عادات الناس فلا وجه لإنكاره.

فصل

فإن قيل: إنه لم يرد عن السلف الأول فعله. 

قيل: عدم وروده عنهم لا يقتضي العدم مطلقاً, لأن عمل المولد بابُه الوسائل, وقد تقرر أن الوسائل تتبع حكم المقاصد, فإن كان المقصد حسناً كانت الوسيلة مستحسنة وإلا فلا، ومن هنا نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن من عمل المولد فإنه يؤجر لحسن قصده وتعظيمه للجناب النبوي.

وأيضا فدعوى عدم الورود يـهدمها الأصل الثالث الذي استخرجه بعض الفضلاء، وهو ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تـهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: (ما أجلسكم)؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومَنَّ به علينا، قال: (آلله ما أجلسكم إلا ذاك)؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: (أما إني لم أستحلفكم تـهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يُباهي بكم الملائكة).

فقولهم (جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ علينا به) وفي رواية أحمد والنسائي والطبراني والبيهقي في (الشعب): (ومن علينا بك) وهو صريح في جواز الاجتماع للذكر شكراً على من الله به علينا من ابتعاث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الاحتفال بالمولد، وحتى على رواية مسلم (ومن علينا به) أي: الإسلام، يدل على الجواز بطريق الإشارة، لأن المن بالإسلام حصل به عليه الصلاة والسلام. 

فإن قيل: قد حكى أبو العباس بن تيمية أن الوسيلة إن كان المقتضي لفعلها قائماً على عهده صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفعلها فلا يحسن فعلُها.

قيل: هذا أحد القولين لأهل الأصول, والقول الآخر حكاه العز والقرافي, أنـها إن اشتملت على مصلحة محققة, حسُن فعلها وإلا فلا, وهو أصح, ولا نزاع في تحقق المصلحة من اجتماع الناس والعامة على العلم والذكر وغيرهما من القربات, ولاسيما في هذه الأيام.

وسواء كان الـمقتضي للأخذ بـها قائماً على عهده صلى الله عليه وآله وسلم أم لا، واشتراط قيام الـمقتضي لا معنى له، ويبطل بقضية جمع القران وغيرها، فإن الـمقتضي لجمعه كان قائماً في العهد النبوي بدليل قتل القرآء السبعين في بئر معونة، عدا من قُتل منهم في وقائعه عليه الصلاة والسلام، ومع هذا لم يجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم القران، فقام بجمعه الصحابة بعده دون مراعاة قيام الـمقتضي من عدمه، ولهذا لم يسأل عمر أبا بكر عن قيام الـمقتضي بل سأله كيف تفعل شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأعلمه أبو بكر بأنه خير، فدل على أن كل ما فيه خير ساغ اتخاذه وفعله سواء قام الـمقتضي له في العهد النبوي أم لا. 

ومن احتج بعدم الورود وبنحو حديث (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) يقال له: هذا صحيح في الاجتماع الذي تحقق أن من ورائه مفسدة, لكنه لا يطرد فيما ذكرناه, وغاية عدم الورود أن يكون كلية سالبة, لا يمتنع تخلّف بعض جزئياتـها بدليل كما تقدم ذكره, وبه يتبيّن أن عدم الورود لايستلزم العدم مطلقاً. 

والحديث عام خُصَّ بالدليلين اللذين ذكرهما الحافظ والجلال, وتخصيص العموم غير مُستَنكر إذا سوّغه الدليل, بل ما من عام إلا وقد خُصَّ, ولو قُدّر عدم ورود ما مرّ من الأدلة, لكان يكون تخصيص هذا العموم بالمصلحة المتحققة الحاصلة بالاجتماع على الذكر والعلم, قويٌّ مُتَّجه, وفي تخصيص العموم بالمصلحة قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد.

على أن مذهب الجمهور في قوله عليه الصلاة والسلام: (ما ليس منه) أي: ما يُنافيه ولا يشهدُ له شيءٌ من قواعده وأدلته العامة، ومن هنا قال الشافعيُّ رضي الله عنه: (ما أُحْدِثَ وخالفَ كتاباً أو سنةً أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعةُ الضلالةُ، وما أُحْدِثَ من الخير ولم يُخالف شيئاً من ذلك فهو البدعةُ المحمودة) أخرجه البيهقي في (مناقبه) ولم يخالفه فيه أحد من المتقدمين، ولذا حكى ابن حجر الهيتمي الاتفاق عليه وقال ابن رجب في (الجامع): (والمرادُ بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة). 

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): (والمراد به ما أحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة) ويشهد له رواية أبي عوانة في (مستخرجه): (من أحدث في أمرنا ما لا يجوز فهو ردّ) وهو ظاهر في أن ما شهدت أصول الشارع العامة لجوازه فليس من البدعة المذمومة بل هو حسن، فظهر ضعف قول من أنكر البدع المستحسنة كما قاله الشاطبي وغيره.

ومن حُسن سياسة الأيوبيين أنـهم لم يمنعوا الناس من عمل المولد الذي كان قد عمله الفاطميون, بل نقلوه من مظاهره المخالفة لقانون الشرع, إلى ما استحسنه العلماء في وقتهم من قراءَة السيرة والاجتماع على الذكر والخير والعلم والنشيد وإطعام الطعام وغير ذلك من أعمال البر والخير.

فصل

وقد ذكروا أن الحافظ أبا الخطاب بن دحية صنَّفَ للملك المظفر صاحب إربل مولداً أسماه (السراج المنير) فأقام المظفرُ الاحتفال به, واستحسنه علماءُ المشرق, وكذا عمِلَ المولدَ بالمغرب العلامةُ أحمد العزفي السبتي كما ذكره ابنُ مرزوق, فاستحسن صنيعَه علماءُ المغرب.

وقال ابن الخديم اليعقوبي: 

وعمل المولدَ مَلْك إربلِ...تابع بعضَ الصُلحا بالموصلِ

أول من أحدثَهُ وقد قصدْ...تقرُّباً بذاكَ لله الصمدْ

وكان يُجزل العطا والنائلا...مُحتفلاً به احتفالاً هائلا

وهوَ بالعقل والبَطاله...مُتّصفٌ والعلم والعداله

والعلما والصلحا ما اعترضوا...إذ حضروا لديه بل بذا رضوا

وصنّف الشيخُ ابن دحيةَ الرضى...لهُ من أجله كتاباً مُرتضى

وقد رخص في عمل المولد والاجتماع فيه على العلم والخير والاحتفال فيه بصنع الطعام وإظهار السرور جماعة من المحققين كأبي شامة المقدسي وأبي الخطاب بن دحية والحافظ العراقي والحافظ ابن حجر والسيوطي والسخاوي والقسطلاني والزرقاني وعليه أكثر المتأخرين.

وأما من روي عنه إنكار عمل المولد كشيخ الإسلام ابن تيمية والشاطبي وابن الفاكهاني وأبي زرعة بن العراقي وغيرهم, فهم صنفان: طائفة أنكرته في الجملة وأنه بدعة كالفاكهاني والشاطبي, وطائفة لم تُنكر أصلَه وإنما أنكرته لـما يحدث الغلاةُ فيه من السماع المحرّم والرقص وهو مقتضى تصرف العلامة ابن الحاج صاحب (المدخل) وغيره. 

وهذا بدعة دون ريب, لكنهم لا يحرّمون الاحتفال الذي هو الاجتماع على الذكر والعلم, أو إحياء المولد بالطاعة من صوم ونحوه, بدليل أن ممن روي عنه إنكار المولد الحافظ ابن حجر والسيوطي والسخاوي, وهولاء ممن ذهبوا إلى جواز الاحتفال به كما تقدم.!

فطريق الجمع بين ما نُقل عنهم أن يقال إنـهم إنما حرّموا المولد الذي اشتمل على ما جاءت الشريعة بالنهي عنه كما مرَّ وصفه, واستحسنوا منه ما اشتمل على مصلحة مقصودة مطلوبة للشارع, وخلا من المنكرات.

ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه قال في كتاب (الصراط المستقيم): (فتعظيمُ المولد، واتخاذُه موسماً، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لـحُسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم). 

وهذا يبيّن أن كلامه في إنكار عمل المولد إنما هو لما يُعمل فيه من البدع والمنكرات, فأما الاجتماع على الخير والذكر والعلم فحسنٌ عندَه, بدليل أن كلامه متوجه إلى عمل المولد الذي فيه مظاهاة للنصارى في أعيادهم بمولد المسيح عليه السلام, ومعلوم أنه لا يكون فيه مظاهاة للنصارى إلا إن كان مشتملاً على الشرك والبدع, فإن خلا منها ولم يكن فيه إلا الذكر والعلم والنشيد فحسنٌ كما مرَّ تقريره.

ومن تمسك بنحو الأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين وأنـهم لم يفعلوه فهو غالط, لأن المراد حيث وجد هذا الأمر في زمانـهم, ولم يُنقل عنهم فعلُه, وقد عُلم أن عمل المولد إنما حدث بعد زمانـهم بدهر, ولو كان الأمر على ما فهمه لانسدَّ باب الاجتهاد, وهذا فاسد جداً, لأن النصوص والمنقولات تتناهى, والحوادث غير متناهية, ومحال أن يُقابل ما يتناهى بما لا يتناهى.!

والأصل فيما لم يرد عن السلف فعله وعمله لا يخلو إما أن يكون قد حدث في زمانـهم أو لا.؟ 

الثاني: لا إشكال في جوازه إن اشتمل على مصلحة واندرج تجت أصل كلي ولم يعارض شرعاً ثابتاً. 

والأول: لا يخلو أن يكون السلف قد أنكروه أو فعلوا خلافه أو استعملوه أو سكتوا عنه، فالأول والثاني بدعة لإنكارهم إياه وعملهم على خلافه، والثالث سنة لعملهم به. 

والرابع محل اجتهاد وبحث، والنظر يقتضي أنه إن كان فيه مصلحة ولم يعارض شرعاً ثابتاً جاز فعله وإلا فلا، سواء كان المقتضي للعمل به قائماً عندهم أم لا، فإن ما سكت عنه الشارع فهو عفو، فأولى ما سكت عنه السلف ولم يُنقل عنهم إنكاره.!؟

ولهذا قال العلامة ابن الخديم اليعقوبي:

البدعةُ القبيحةُ المذمومه...عند الأيمةِ بذا مرسومه

ما قد نـهى السلفُ عنه وزَجَرْ...أو ضِدُّه فعلَ أو به أَمَرْ

فلا يُقالُ كلُّ ما السلفُ لمْ...يفعلْهُ بدعةٌ قبيحةٌ تُذَمْ

والضابط في هذا أن كل محدث لم يكن على عهد السلف الأول, فإن اندرج تحت أصل أو دليل شرعي, وخلا من مفسدة وضرر في الدين والدنيا, واشتمل على مصلحة عامة قطعية محققة, فهو حسن وإلا فلا لقوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقد نظم ذلك بعض المالكية بقوله:

حديثُ أحدَثتَ فلا ضرر لا...لقول خالق الورى ما جعلا

فما رآه المؤمنون حسنا.....فإنما الأعمال تأسيسٌ سَنَا

ومن هنا غلط الشاطبي في عدّ البدع الإضافية من البدع المذمومة مطلقاً, فقد عدّها النووي وجماعة من أهل العلم من المستحسنات الشرعية إذا اشتملتْ على ما تقدّم ذكره من الضوابط الشرعية, لحديث: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده) وقول عمر: (نعمت البدعة).

وأما التعلّق بالترك النبوي فلا يستقيم, لحديث عائشة رض الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعجبه العمل ويهم به, فيتركه خشية أن يفرض على الأمة, فيحتمل أنه تركه لهذا, ومع قيام الاحتمال لا ينهض الاستدلال، بدليل أن السلف فعلوا ما لم يكن على عهده عليه السلام إذا كان حسناً وله أصل كلي كجمع القرآن، ولذا قال عمر لأبي بكر: (كيف تصنع شيئاً لم يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: (هو والله خير) فدل بعمومه على أن ما كان خيراً محضاً وفيه مصلحة عامة محققة جاز فعله وإن لم يفعله من سلف وإلا فلا.

وقد تقرر في الأصول أن مجرد الترك النبوي لا يستدعي إثباتاً ولا نفياً للمتروك، كما قال العلامة السيد أبو الفضل الغماري:

التركُ ليس بحجّةٍ في شرعــنا ... لا يقتــضي منـعاً ولا إيجـــابــا

فمن ابتغى حظراً بترك نبيّـــنا ... ورآه حُكــماً صــادقاً وصوابــا

قد ضلَّ عن نهج الأدلة كلـِّــها ... بل أخطأ الحكمَ الصحيحَ وخابا

لاحـظرَ يُمكِنُ إلا إذا نهيٌ أتى... متوعّـِداً لمُخالِفــــــيـهِ عـذابـــا

أو ذمُّ فعـــلٍ مُـؤْذِنٍ بعقــــوبـةٍ ... أو لفــظُ تحـريمٍ يواكـِبُ عـابــا

وكذا لايصح التعلق بعدم ورود عمل المولد عن السلف الأول, لأنه لم يكن في زمانـهم أصلاً كما هو معلوم, وإنما يحتج بـهذا بتقدير حدوثه في زمانـهم ولم يُنقل عنهم عملُه, فيقال عندئذ لم يرد عنهم، على أن هذا أيضاً يرد عليه البحث الذي تقدم فلا يدل على المنع، فإنه إذا كان مجرد الترك النبوي لا يقتضي المنع فترك السلف أولى.

وقد اعترض بعض الفضلاء بأن يوم مولده ويوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم واحد، وليس الفرح فيه بأولى من الحزن، كذا قالوا.!

وهو غلط ظاهر، ومعناه للإمام العلامة تاج الدين الفاكهاني، وقد دفع اعتراضه هذا جماعةٌ منهم العلامة كنون، بأن المساواة ونفي الأولوية غير مسلم وهو منتقض بوجوه منها: أن الفرح مطلوب للشارع لأنه من الرحمن، والحزن غير مقصود له لأنه من الشيطان، كما في الحديث، وقد قال الله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقال (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) فتأمل.

وأيضاً فهذا يوم الجمعة وفيه توفي آدم عليه السلام وهو يوم عيد وفرح، فلم يوجب وفاة نبيٍّ فيه امتناع اتخاذه عيداً، للمعنى الذي مرَّ وهو كون الفرح بالطاعة مطلوب محبوب للشارع بخلاف الحزن.

ومن بديع ما حُكي عن الفاكهاني رحمه الله أنه حين قدم الشام وزار دار الحديث الأشرفية، وكان بـها إذ ذاك نعل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رآه أكبّ عليه يُقبّله ويلْثِمه ويُنشد: 

ولو قيل للمجنون ليلى ووصلَها...تريد أو الدنيا وما في طواياها

لقال غبارٌ من تراب نعالها.......ألذُّ إلى نفسي وأشفى لبلواها

ومن تعلق بنحو قول مالك وقد أنكر على من أحرم قبل ميقاته، فقال الرجل: وأي شيء في ذلك يا أبا عبد الله، إنما هي حطوات زدتـها.؟

فقال مالك: وأي ذنب أعظم من أن تعتقد أنك زدتَ على فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يفعله.؟!

فهو غالط، فإن مالكاً رحمه الله لم يُنكر أصل الزيادة، إنما أنكر عليه اعتقاد أن الزيادة تستوجب الأفضلية على مجرد الفعل النبوي، فسدَّ عليه الذريعة صيانة لباب الاتباع على أصله المعروف، ألا ترى أن مالكاً جوز الزيادة على التلبية النبوية الواردة في الحج، كغيره من السلف والأئمة.؟

وأيضاً فإنما أنكر عليه لأن المواقيت المكانية حدٌّ محدود في نص الشارع، وأما نحو عمل المولد فلم يرد فيه عمل أصلاً فافترقا من هذا الوجه.

فصل

وأول من علمناه صنَّف في المولد الشريف, الحافظ أبو عبد الله بن عايذ, وتلاه الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الذي صنَّف كتابين في المولد.

وصنف الناس في عمل المولد التصانيف المتكاثرة الفائقة نظماً ونثراً, وقد اعتنى بجمعها حافظ وقته العلامة عبد الحي الكتاني في جزء لطيف أسماه (التعريف بما أفرد بالتأليف في المولد الشريف) فذكر أزيد من مائة تأليف, منها للحافظ ابن كثير, وعقبه بقوله: (وهو عجيب أن يصنّف في عمل المولد بعض أصحاب الحافظ ابن تيمية).! 

وكذا صنف فيه من أصحابه ابن ناصر الدين الدمشقي في (مورد الصادي) ورجح جواز عمله، ومنه منظومة لصاعقة العلوم سليمان بن عبد القوي الطوفي البغدادي الحنبلي مطلعها:

إنْ ساعدتك سوابقُ الأفكارِ...فأنخْ مطيّكَ في حِمى المختارِ

هذا ربيع الشهر مولدُه الذي.....أضحى به زندُ النبوة واري

هو في الشهور يهشُّ في أنواره.....مثل الربيع يهشُّ يالأزهارِ

وقد ذهب أكثر العلماء المتأخرين إلى تفضيل ليلة المولد الشريف على ليلة القدر وسائر الليالي لأن الزمان إنما يشرف ويعظم قدره بشرف وقدر ما يقع فيه من الحوادث، ولا خلاف أن أعظم حدث في الدنيا هو مولده عليه الصلاة والسلام فمن هنا شرف وعظم قدر ليلة المولد وفاق فضله على سائر الليالي، كما قال ابن الخديم:

حمداً لـمُعلي ليلة الميلادِ...عن ليلة القدر لفضل الهادي

صلى وسلم عليه وعلى.....جميع آله وصحبه علا

ما دام مولد النبي عيدا.....مُعظّماً محترماً سعيدا

حديثُه أو الحديثُ عنهُ...يُطرب من يهيج شوقاً منهُ

وكيف لا والله موتي النعمةِ...أبرز في اليوم نبيَّ الرحمةِ

وتلك نعمةٌ يجلّ قدرها...فحقٌ انْ يظهر فيه شُكرها

لذاك قد عظّم شهرَ المولدِ...أهلُ محبةِ الهدى محمدِ

وقد صنف في هذا المعنى العلامة أبو عبد الله بن مرزوق التلمساني رسالة (جنى الجنتين في المفاضلة بين الليلتين) رجح فيها فضل ليلة المولد من نحو عشرين وجهاً.

وهو اختيار جماعة من محققي المتأخرين كالحافظ العراقي والجلال السيوطي، وذكر العلامة كنون أن هذا مما لا ينبغي أن يُختلف فيه، حتى إن بعض العلماء كابن عباد عدَّ ليلة المولد عيداً، وقد أشار إلى ذلك ابن الخديم كما تقدّم في نظمه وكما قال أيضاً:

هذا وإن ليلةَ الميلادِ....تفضيلُها من فضلِ طه بادِ

فهْيَ لذاكَ من وجوهٍ تُدرى...من ليلة القدر أجلُّ قَدْرا

بل هيَ أفضلُ لدى الحُذَّاقِ...من كلّ ليلةٍ على الإطلاقِ

وقد ذكر أهل العلم بالسير والأخبار أن أبا لهب رُئيَ في النوم بعد موته فقيل له: كيف حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يُخفف عني كل ليلة اثنين وأمصُّ من بين أصبعيَّ هاتين ماء، وذلك بإعتاقي جاريتي ثُويبة حين بشرتني بولادة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ورضاعتها له، وأشار إلى رأس أصبعه، وأصله في (الصحيح) عن عروة.

قال ابن الجزري: فإذا كان هذا الكافر الذي نزل القران بذمّه، جوزي في النار بفرحه ليلة المولد فما حال المسلم الذي يُسَرّ بمولده.؟

وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في (مولده) فقال:

إذا كان هذا كافراً جاء ذمُّهُ...وتبّت يداهُ في الجحيم مُخلّدا

أتى أنه في يوم الاثنين دائماً...يُـخَفَّفُ عنه للسرور بأحمدا

فما الظنُ بالعبد الذي كان عمره...بأحمدَ مسروراً ومات موحِّدا

خاتمة

اتفقوا على أن مولده الميمون صلى الله عليه وآله وسلم كان في ربيع الأول، إلا العلامة عبد الرحمن بن يوسف الكردي الدمشقي الشافعي فإنه خالف الجمهور وذهب إلى أن المولد النبوي كان في رمضان، وتعلق بقول ابن إسحاق في (السيرة) إنه عليه الصلاة والسلام نُبّئَ على رأس الأربعين.!

وذكر المصنفون في التواريخ كسبط ابن الجوزي وهو ابن قزأوغلي في (المرآة) وابن جبير والسخاوي والقطب الحنفي في (الإعلام) وغيرهم ما يقتضي جريان عمل المسلمين على الاجتماع ليلة المولد والاحتفال فيها بذكر النشيد والمدائح النبوية وقراءة السيرة وتناول الأطعمة، وكان يكون ذلك بمشهد الفقهاء والعلماء والقضاة والوزراء والأعيان والعامة.

وذكروا أن من عادة أهل مكة المشرفة ليلة المولد قصد الموضع الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي يقال له سوق الليل والاجتماع فيه للاحتفال في مسجد هناك يقال له المختبى كما ذكر ابن الضياء في (تاريخ مكة) وزاد أيضاً هو والفاسي وغيرهما أن هذه المواضع التي يقال إنه ولد فيها كسوق الليل والردم وعسفان ودار محمد بن يوسف التي يقال إنه ولد فيها على ما ذكره الأزرقي، تعرف عند أهل مكة بالمواليد، يجتمعون عندها للاحتفال بليلة المولد ولا ينكر ذلك أحد من أهل العلم والفضل والصلاح، بل يحضرونه ويشهدونه. 

حتى ذكر سبط ابن الجوزي أن العلامة الفقيه المشهور بالصلاح والفضل الشيخ عمر الملَّاء كان يعمل المولد كل سنة بالموصل بحضور نور الدين زنكي والفقهاء والأكابر، وكان نور الدين فوض إليه عمارة مسجده النوري بالموصل، ثم تبعه على هذا الاحتفال الملك المظفر صاحب إربل.

وذكر الحافظ تقي الدين الفاسي في (تاريخ مكة) عن النقاش أن الدعاء يستجاب في ليلة المولد يوم الإثنين عند الزوال، وهو قوي متّجه على القول بتفضيلها على ليلة القدر كما تقدم، والله أعلم. 

آخره

والحمد لله رب العالمين

اللهم صل على سيدنا محمد وآله وسلم عدد ما ذكرك الذاكرون، وعدد ما غفل عن ذكرك الغافلون>

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين