الإسلام في أفريقيا (46) المجاهد في الله سعيد بن محمد بن صبيح الغساني

 

الإمام أبو عثمان شيخ المالكية في زمانه، وأحد المجتهدين، كان بحراً في الفروع ورأساً في لسان العرب، بصيراً بالسنن. كانت له مواقف خالدة في الذبِّ عن السنة والمنافحة عن الجماعة والدفع عن الإسلام.

ناظر أبا العباس المعجوقي أخا أبي عبد الله الشيعي الداعي إلى دولة العبيديين، وناظر شيخ المعتزلة (الفراء) بالقيروان.

وتصدى لعبيد الله المهدي، مؤسس دولة العبيديين في المغرب، وداعيته عبد الله الشيعي، فدحض أقوالهما بالحجج والبراهين النقلية والعقلية حتى أخرسهما، على الرغم من تحذير ولده أبي محمد له إذ قال: يا أبة، اتق الله في نفسك ولا تبالغ، فأجابه: حسبي من له غضبت، وعن دينه ذَبّيت.

كان عالماً في الفقه والكلام والذبَّ عن الدين والرد على فرق المخالفين للجماعة، من أذهن الناس وأعلمهم بما قاله الناس.

أوصاف ابن الحداد وخلاله

جمع ابن الحداد رحمه الله علم اللغة والنحو، عربي اللسان، جهير الصوت، إذا لحن في لفظه استغفر الله عز وجل، وكان إذا تكلف الشعر أجاده، حسن اللباس، جميل الزي همته في ذلك تفوق أهل اليسار، وكان يتقوت بأدنى قوت وأقله. وكان يقول: إنما المروءة في إظهار حسن اللباس، فأما ما هو مستور عن الناس من إظهار المآكل والمشارب فليس بمروءة ولا سيما لمن عجز عنها.

مساجلات ابن الحداد مع العبيديين

لقد كانت لابن الحداد مساجلات مع العبيديين، ومقامات في الدين مع الكفرة المارقين: أبي عبد الله العبيدي وأبي العباس أخيه وعبيد الله الدّعي، أبان فيها كفرهم وزندقتهم وتعطيلهم.

خرج جماعة من القيروان للقاء الدّعي عبيد الله منهم: أبو عثمان وحماس وابن عبدون، وكان أبو عثمان مهاجراً لابن عبدون، وذلك أنه حبسه، فقال ابن عبدون لأبي عثمان تقدم يا أبا عثمان، فلم يجبه، فقال له: تقدم فليس هذا وقت مهاجرة، فلسانك سيف الله، وصدرك خزانة الله، وإنما أراد ابن عبدون بذلك أن يحرضه على مناظرة الشيعي.

ولما خرج لمناظرته خرج معه أهله وولده وهم يبكون فقال لهم: لا تفعلوا لا يكون إلا خيراً، حسبي من له خرجت وعن دينه ذببت.

فأول مجلس جرى له معه أنه قال: أرسل ورائي الشيعي لعنة الله عليه، وما كنت آتي إليه إلا برسول، فدخلت إليه في قصر إبراهيم بن أحمد وحوله جماعة من أصحابه وجماعة ممن ينسب إليهم العلم من أهل بلدنا، فسلمت ثم جلست، فقال أبو عبد الله لإبراهيم بن يونس - وقد قيل له إن هذا الشيخ كان قاضياً على هذه المدينة - بأي شيء كنت تقضي؟

فقال له إبراهيم: بالكتاب والسنة.

فقال له أبو عبد الله: فما السنة؟

فقال له إبراهيم: السنة.. السنة…

قال أبو عثمان: فلما سمعته على قوله: السنة.. السنة…، قلت لأبي عبد الله: المجلس مشترك أو خاص؟

فقال: مشترك.

فقال أبو عثمان: أصل السنة في كلام العرب: المثال الذي يتمثل عليه، قال الشاعر:

تريك سنة وجه غير مقرفة … ملساء ليس بها خال ولا ندب

أي صورة وجه ومثاله:

والسنة محصورة في ثلاث: الائتمار بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتهاء عما نهى عنه والإيتاء به فيما فعل.

قال الشيعي: فإن اختلف عليك فيما نقل إليك عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت السنة من طرق؟

فقلت له: أنظر إلى أصح الخبرين نقلاً فآخذ بأصحهما وأطلب الدليل على موضع الحق في أحد الحديثين ويكون الأمر في ذلك كشهود عدول اختلفوا في شهادة فلا بد من طلب الدليل على موضع الحق من الشهادتين.

فقال الشيعي: فلو استوا في الثبات؟

فقلت له: يكون أحدهما ناسخاً والآخر منسوخاً.

قال: فمن أين قلتم بالقياس؟

فقلت له: قلنا ذلك من كتاب الله عز وجل.

قال: فأين تجد ذلك؟

قلت: قال الله عز وجل في كتابه العزيز:

(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم). فالصيد معلومة عينه، والجزاء الذي أمرنا أن نمثله بالصيد المعلومة عينه ليس بمنصوص فعلمنا بذلك أن الله تعالى إنما أمرنا أن نمثل ما لم ينص ذكر عينه: بالقياس والاجتهاد. ومنه قول الله عز وجل: يحكم به ذوا عدل منكم). فلم يكله إلى حاكم واحد حتى جعلهما اثنين: ليقيسا ويجتهدا.

فقال أبو عبد الله الشيعي: ومن ذوا عدل؟ وأومأ أن (ذوا عدل) إنما هم قوم مخصوصون بنص الآية.

قال: فقلت: هم الذين قال الله عز وجل فيهم في آية المراجعة: (وأشهدوا ذوي عدل منكم). ومثل ذلك في تثبيت القياس قوله عز وجل: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم). والاستنباط غير منصوص.

ثم عطف على موسى القطان فقال له: أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تعالى؟

فقال له موسى: قال النبي صلى الله عليه سلم: ((من شربها فاضربوه بالأردية. ثم إن عاد فاضربوه بالأيدي، ثم إن عاد فاضربوه بالجريد)).

فقال له أبو عبد الله على النكير منه: إيش هذا؟ أقول لك: أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تعالى، تقول: اضربوه بالأردية ثم بالأيدي ثم بالجريد؟

قال أبو عثمان: فقلت له: إنما حد قياساً على حد القاذف لأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فوجب عليه ما يؤول أمره إليه وهو حد القذف.

فقال لموسى القطان: أولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقضاكم علي))، فجعل موسى وهو ينص عليه الحديث ((… وأعلمكم بحلال الله وحرامه معاذ، وأرأفكم أبو بكر، وأشدكم في دين الله عمر)). رضي الله عنهم أجمعين.

فقال له الشيعي: وكيف يكون أشدهم في دين الله وقد هرب بالراية يوم حنين؟

فقال له موسى: ما سمعنا بهذا ولا نعرفه.

قال أبو عثمان: فقلت له: تحيز إلى فئة كما أنزل الله تعالى. قال الله عز وجل: (إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة) ، فمن تحيز إلى فئة كما أمر الله عز وجل فليس بفار.

فمال الشيعي بوجهه إلى بعض أصحابه فقال: أتسمع ما قال الشيخ، قال: انحاز إلى فئة كما أمر الله سبحانه.

فقال مجيباً - وهو يشير بيده - وأي فئة أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان حاضراً ولم يتحيز إليه وكأنه تخافت في كلامه ويسمع من يليه.

فقلت: جاء عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((عمر فئة)) فمن تحيز إلى عمر فقد تحيز إلى فئة.

فسكت، فحركه بعض أصحابه، وقال: ألا تسمع ما يقول الشيخ؟

فقال: صدق، أو نحو ذلك من القول سمعتها أنا منه ومن كان يليه.

ثم قال لأبي عثمان: هلا كان عندك من قول الله عز وجل حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله لأبي بكر (لا تحزن إن الله معنا) دلالة أن حزنه كان مسخوطا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنه.

فقال أبو عثمان: لم يكن قوله له إلا تبشيراً بأنه آمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه معه مما كان يحذره من غلبة المشركين، وكان خوفه لما خاف من ذلك من أجل أنه لا يظهر على غيب ما تجري به مقادير الله عز وجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي بغيب ما يكون قبل أن يكون فكان في قوله: (لا تحزن إن الله معنا) ما يبين أن الله معهما، بنصرته إياهما وذلك لا يكون إلا بوحي من الله عز وجل وقد بين الله تعالى اطلاعه أنبياءه المرسلين على غيبه بقوله: (فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول). فقال له أبو عبد الله: وهل تجد لهذا نظيراً من التنزيل: (لا تفعل) يراد به التبشير ولا يراد به النهي عن أمر مسخوط؟

فقال له أبو عثمان: نعم. قال الله عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) لما خافا من فرعون أن يفرط عليهما أو أن يطغى، ولم يكن خوفهما يسخط الله عز وجل عليهما من أجله. لأنهما لو أديل لفرعون عليهما لكان في ذلك طغياناً لفرعون وتضعضعاً للدين وهما رسولان داخلان في معنى قوله تعالى: (إلا من ارتضى من رسول)، فأطلعهما الله عز وجل على غيب ما خافا كما أطلع محمداً نبيه صلى الله عليه وسلم على غيب ما يؤول إليه الأمر الذي خافه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فصار قول الله عز وجل في أبي بكر شرفا لم يبلغه أحد بعده، فإن الله تعالى أنزل فيه وفي الأمر الذي خافه من التبشير بالأمن منه ما أنزل على موسى وهارون عليهما السلام.

فقال له أبو عبد الله: أفلا أوجب قول الله تعالى عند من سمعه: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) انقلاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟

فقال له أبو عثمان: لا، لأن معنى أفإن مات أو قتل أفتنقلبون على أعقابكم لأن معنى (أفإن مات): استفهام ومعنى (انقلبتم): افتنقلبون. والاستفهامان إذا جاءا في قصة واحدة اجتزئ بأحدهما عن الآخر. وهذا الاستفهام إنما هو في معنى التقرير بأن لا تنقلبوا على أعقابكم.

فقال له: فهل تجد في كتاب الله عز وجل نظيراً يكون من هذا دليلاً؟

فقال له: نعم. قول الله عز وجل: (أفإن مت فهم الخالدون) أي إنك إن مت فهم لا يخلدون، فلما التقى استفهامان أجزأ ذكر أحدهما عن الآخر، فكان لفظ الاستفهام من ذلك مراد به التقرير: (بأنهم لا يخلدون).

فقال أبو عبد الله: يا أهل المدينة إنكم تبغضون علياً.

فقال أبو عثمان: على مبغض علي لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وكيف أبغض علياً وقد سمعت سحنون بن سعيد - وهو إمام أهل المدينة بالمغرب - يقول: علي بن أبي طالب إمامي في الدين أهتدي بهديه واستن بسنته وأقتفي أثره، رحمة الله عليه.

فقال أبو عبد الله: أراد أن يقول: صلى الله عليه، فرجع فقال: رحمة الله عليه.

فقال أبو عثمان - ورفع بها صوته - : نعم. صلى الله عليه وسلم، لأن الصلاة في كلام العرب: الرحمة والدعاء، قال الأعشى:

تقول بنتي وقد قربت مرتحـــلاً … يارب، جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليك مثل الذي صليت، فاغتمضي … نوماً فإن لجنب المرء مضطجعــا

فالصلاة من الله رحمة ومن الآدميين دعاء، نعم فصلى الله على علي وفاطمة والحسن والحسين وعلى أهل طاعته أجمعين من أهل السماوات والأرضين.

فقال له أبو عبد الله: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) أفليس علي مولاك ؟

فقال أبو عثمان: هو مولاي بالمعنى الذي أنابه مولاه، ومعنى مولاي: على الولاية في الدين لا مولى عتاقة، وذلك أن المولى في كلام العرب: الولي وابن العم والمعتق والمنعم عليه. قال الله عز وجل في ابن العم - حكاية عن زكريا عليه السلام - : (وإني خفت الموالي من ورائي) يريد به العصبة. وقال في ولاية الدين: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) ، أي لا ولي لهم، وقال في المؤمنين: (بعضهم أولياء بعض) ، فعلي مولى المؤمنين بأنه وليهم، وهم مواليه بأنهم أولياؤه، فهو مولاي بالمعنى الذي أنا به مولاه.

فقال أبو عبد الله: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى))؟

فقال أبو عثمان: نعم إلا أنه قال: ((إلا أنه لا نبي بعدي)) وهارون كان حجة في حياة موسى، وعلي لم يكن حجة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهارون كان شريكاً لموسى، أفكان لعلي شرك مع النبي صلى الله عليه وسلم في النبوة؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علي مني كهارون من موسى)) على التقريب والوزارة والولاية.

قال أبو عبد الله: أليس هو أفضل؟

فقال له أبو عثمان: أليس الحق متفقاً عليه غير مختلف فيه؟

قال أبو عبد الله: نعم.

قال: فقلت له: قد ملكت مدائن كثيرة قبل مدينتنا هذه - وهي أعظم مدينة - واستفاض الخبر عنك أنك لم تكره أحداً خالفك في مذهبك على الدخول فيه فاسلك بنا مسلك غيرنا.

فألح بعض أصحابه في قصدنا.

فقال لهم: نقول كما قال شعيب عليه السلام: (وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين). ثم نهضنا.

كان رحمه الله يقول الشعر ويجيده، فمن ذلك ما أنشده أبو محمد ابن أبي زيد وأبو بكر أحمد بن أبي بكر الزويلي لأبي عثمان:

مازلت من حادثات الدهر معتجباً … حتى انقضى عجبي بعد الثلاثمائة

لا بارك الله في عام وفي ســنة … كانت لشر زمان كان مختبئـة

عادت أسافله طراً أعاليـــه … ولا أعالي إلا وهي منكفئــة

وقال أيضاً:

كم عساني أعيش كم كم عساني … كم عساني أبقى على الحدثان

بعد سبعين حجة وثمــــان … قد توفيتها من الأزمـــان

يا خليلي قد دنا الموت مــني … فابكياني هديتما وانعيـــاني

قال ابن حارث: ولما مات أبو عثمان رحمه الله خرج البريد سحراً يبشر بموته سلطان الشيعة.

لقد تسابق الشعراء في رثاء أبي عثمان، فمن ذلك قول أحدهم:

أين المقدم والآذان مصغية إليــه … حتى وعت كل الذي ثقفــا

أين الذي كشف المعنى المعمّى لنـا… فصار متضحاً للناس منكشفـا

أين الذي لم تزل منه بديهتـــه … كمثل فكرته أن رام منحرفـا

أين الذي عن لذيذ العيش قد عزفا … أين الذي من بحار العلم قد غرفا

أودت به حادثات الدهر فانجذمت … به العلوم وأضحى الدين منعجفا

كانت تطيب لنا الدنيا بواحدهـا … وبالذي لم يزل يحكي لنا السلفا

ورثاه سهل بن إبراهيم الوراق بمرثية طويلة جاء فيها:

نفى النوم من عيني خيال مروّع … وعاود قلبي شجوه فهو مـوجع

فبت شجي القلب سفاح عبرة … أراعي نجوم الليل من حيث تطلع

وصعدت روح أبي عثمان سعيد بن الحداد إلى الرفيق الأعلى في شهر رجب الخير من عام (302هـ/914م) رحمه الله. وعمره خمس وثمانين سنة، فقد كانت ولادته سنة (217هـ/914م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين