في السادس من ربيع الأول: هزيمة الحملة الصليبية الثانية على أبواب دمشق

 

في السادس من ربيع الأول من عام 543 جرت معركة بين عسكر دمشق وأهلها وبين جيش الحملة الصليبية الثانية عن دمشق، وكادت المعركة أن تنجلي عن سقوط دمشق لولا استبسال المدافعين عنها، وحنكة الأمير معين الدين أتسز في اتباع سياسة فرِّق تسد، أو بالأحرى فرِّق تنجُ، لشق الصفوف بين الفرنج الوافدين من أوروبا وبين أولئك المقيمين بسواحل الشام.

 

بدأت الحملة الصليبية الثانية في سنة 540 رداً على استعادة المسلمين لمدينة الرها، شانلي أورفا اليوم، في سنة 539 على يد أمير الموصل عماد الدين زنكي والد نور الدين، بعد أن بقيت في يد الصليبين قرابة 50 عاماً، وكانت كونتية الرها أول إمارة أسسها الغزاة الفرنج وأول إمارة يستعيدها المسلمون، وأعلن البابا يوجين الثالث الحملة الصليبية الثانية، وكانت أول حملة يترأسها ملوك أوروبيون، إذ ترأسها لويس السابع ملك فرنسا، وكانت سنه 25 سنة، وكونراد الثالث إمبراطور ألمانيا، وكانت سنه 52 سنة، وانضم إليهما عدد من النبلاء الأوروبيين، وضم الجيش إيطاليين من جمهوريات البندقية وجنوا وبيزا، واتجه جيشا الملكين منفردين من قلب أوربا بطريق البر إلى الدولة البيزنطية ثم إلى الأناضول، وشارك في الحملة روجر الثاني ملك صقلية الذي أرسل قواته بحراً فقد كان لديه أحد أكبر الأساطيل في البحر المتوسط.

توجس الإمبراطور البيزنطي مانويل الأول كومنينوس خيفة من هذه الحملة، رغم أنه كان قد تزوج أخت الإمبراطور الألماني، وذلك لأن علاقاته مع روجر الثاني ملك صقلية كانت في غاية السوء، إذ دأب روجر على مهاجمة موانيء الإمبراطورية طمعاً في أن يسيطر على التجارة في شرقي وشمالي البحر المتوسط، وكانت فرنسا متحالفة مع روجر، وفي الواقع لم يكن زواج الإمبراطور من أخت إمبراطور ألمانيا وتحالفه معه إلا لردع روجر الثاني واعتداءاته.

ولذلك كانت حماسة الإمبراطور البيزنطي لمرور الجيشين الفرنسي والألماني في أراضيه فاترة على أحسن تقدير، وبخاصة عندما تأكدت مخاوفه وهاجم روجر الثاني بعض المدن البيزنطية في اليونان، ولذا لم يقدِّم الإمبراطور للجيشين إلا أقل ما يستطيع من المساعدات، وحاول بشتى الوسائل أن يعبرا أراضيه في أسرع وقت، وقسم الإمبراطور الإلماني كونراد الثالث جيشه إلى جيشين، جيش يرأسه أخوه سلك الطريق الساحلي، وسلك الجيش الآخر بقيادته طريق الأناضول، وهاجم الأتراك السلاجقة الجيش الألماني قرب إسكيشهر وهزموه هزيمة انسحب على إثرها باتجاه استانبول، ولكنهم تابعوا هجومهم حتى دب الذعر في الجيش المنسحب وتكبد خسائر مضاعفة، وجرح الإمبراطور كونراد، فانسحب إلى القسطنطينية حيث مرض، وبقي فيها يعالجه الإمبراطور مانويل الذي كان ماهراً في الطب، ولم يكن حظ القسم الآخر من الجيش الألماني بأفضل فقد هاجمه السلاجقة قرب دينزيلي وقتلوا وأسروا معظم هذا الجيش.

أما الجيش الفرنسي الذي تأخر انطلاقه من أوروبا فلقي هزيمة مماثلة قرب إسكيشهر، وكان من الممكن أن يقع لويس السابع في أسر السلاجقة لولا أنهم لم يعرفوه فلم يكترثوا به ويلاحقوه، وانسحب الفرنسيون إلى البحر يطاردهم السلاجقة، وقرر لويس السابع أن يتابع الرحلة إلى أنطاكية بحراً، وبعد تأخير دام شهراً بسبب الأنواء السيئة، لم يتجمع عدد كاف من السفن لنقل كل ما تبقى من الجيش، فرحل لويس السابع وحاشيته، وتركوا الجيش ليتابع رحلته الطويلة براً نحو أنطاكية، وكان السلاجقة قد حرقوا المراعي في الطريق فقلت الأعلاف، وهكذا لقي أغلب الجيش حتفه إما على يد السلاجقة أو بسبب المرض.

وفي هذه الأثناء عقد الإمبراطور البيزنطي هدنة مع السلطان السلجوقى مسعود بن قلج، وكانت مملكته تشمل قونية وآقسراي وسيواس وملاطية، ليتمكن من تفريغ قواته لمواجهة قوات روجر الثاني الطامع في ممتلكاته، وتعلل الإمبراطور بانشغال قواته في التصدي للصقليين لئلا يقدم أية قوات بيزنطية للجيشين الألماني والفرنسي، وزادت كراهيته للفرنسيين لما أقدم عليه جيشهم من سلب ونهب في طريقه، ولم تجد احتجاجاته لدى لويس السابع شيئاً.

وعقد قادة الفرنج الوافدون والمقيمون اجتماعاً للمجلس الأعلى في عكا في صفر من عام 543، وتداولوا فيه الخطوة القادمة، ورغم أن سبب الحملة وهدفها كان استعادة مدينة الرها، فقد انجلى الاجتماع عن قرارهم مهاجمة دمشق والاستيلاء عليها، وبدأوا في تجميع قواتهم بغرض المسير إلى دمشق، وبلغت أخبارهم نور الدين زنكي فانسحب عن دمشق إلى حوران، واتخذ القادة هذا القرار رغم اعتراض عدد من قواد الفرنج المقيمين الذين أوضحوا أنه يخل تماماً بالتوازن الذي ساد جنوبي بلاد الشام لفترة عقود، حيث كان آل بوري في دمشق على عداء مع آل زنكي في الموصل وحلب، وكانت علاقاتهم مع مملكة القدس الفرنجية علاقة تحالف مستقرة إلى حد كبير، بدأت في سنة 534 عندما حاصر عماد الدين زنكي دمشق فعقد مدبِّرُ جيشها معين الدين أَنُر تحالفاً مع الفرنج في القدس لمواجهته.

ولهذا السبب فإن هناك من المؤرخين من يرى في هذا القرار حماقة لا يمكن تبريرها، إلا أن بعضهم يعتبره قراراً صائباً لصد حملات نور الدين زنكي الذي تولى الحكم بعد وفاة والده سنة 541، وسار على خطاه في مواجهة الفرنج، فقد كانت هناك بوادر تعاون بين دمشق والزنكيين، وكان من المحتم عاجلاً أم آجلاً أن يأخذ نور الدين دمشق، ويصبح على تماس مباشر مع مملكة القدس، ويشكل أقوى تهديد لها منذ إنشائها، وعلى أقل تقدير فقد كانت مهاجمة دمشق، وهي الجهة الأضعف على الطرف المسلم، أضمن وسيلة لتحقق الحملة الثانية بعض النجاح، ولكن هذا الرأي يغفل الجانب الديني في اتخاذ القرار، فقد قال مؤيدوه إن دمشق مدينة مقدسة عند النصارى لا تقل أهمية عن القدس وأنطاكية.

وكان ملك دمشق هو مجير الدين أَبق ملكاً صورياً، وكان في حدود العشرين من عمره، وكان تدبير المملكة لمعين الدين أَنُر مملوك جده طغتكين، وكان عاقلا دينا محسنا لعسكره، أثنى عليه الأمير أسامة بن منقذ في كتاب الاعتبار، فلما بلغت أخبار القرار معين الدين أنر استنجد بأولاد زنكي: سيف الدين غازي صاحب الموصل ونور الدين محمود في حلب، وكان نور الدين قد تزوج ابنة معين الدين آمنة الملقبة عصمة الدين في سنة 541، وسيتزوجها صلاح الدين من بعده، ولم يقف سيف الدين ولا نور الدين عند تحالف مجير الدين ومعين الدين السابق مع الفرنج، بل مرا عليه مرور الكرام، وعند الشدائد تذهب الأحقاد.

 

وحشد الفرنج قوة تقدر بخمسين ألف جندي تجمعت في سهل طبرية، ثم تحركت نحو دمشق، وكانت خطتهم مهاجمة دمشق من الغرب حيث ستوفر لهم الغوطة مصدراً دائماً للطعام والأعلاف، وما أن وصلت قوات الفرنج إلى داريا وبدأت تحركها نحو أسوار دمشق حتى هاجمتها القوات المسلمة، ووقع قتال عنيف بين الطرفين شاركت فيه القوات الألمانية مشاركة فعالة، واستطاع جيش الفرنج أن يصبح على أسوار دمشق قبل أن يضرب الليل أطنابه ويتوقف القتال، ووقع الهلع والذعر بين سكان دمشق، فما كانت قوات معين الدين ومن معها من المتطوعة لتستطيع الصمود طويلاً أمام جيوش الفرنج، وقتل في هذه الموقعة الأمير نور الدولة شاهنشاه الأخ الأكبر لصلاح الدين الأيوبي.

ولكن في اليوم التالي بدأت طلائع المدد المسلم تصل وتشارك في القتال، وشن معين الدين هجمة جريئة استطاعت دحر الجيش المحاصِر بعيداً عن الأسوار إلى بساتين داريا حيث بقي عرضة للهجمات المباغتة والكمائن، وهو الأسلوب المفضل لدى خيالة المسلمين، وبعد يومين من المعارك قرر الفرنج الانتقال إلى المنطقة السهلية شرقي دمشق، هرباً من الهجمات ولأنهم علموا أن السور في تلك الناحية أضعف تحصيناً.

 

ووصلت في هذه الأثناء إمدادات نور الدين زنكي من حلب وسيف الدين زنكي من الموصل، فصار وضع القوات الفرنج بين البلد والمدافعين عنه، وبين القوات المسلمة خارجه، وقرر قادة الفرنج المقيمين، وهم أعرف بنور الدين، أن لا جدوى من الحصار، وقرروا الانسحاب فلم يملك القادة الوافدين إلا الانسحاب معهم إلى القدس، والقوات المسلمة تناوشهم باستمرار طيلة الانسحاب، وانتهت الحملة الصليبية الثانية بفشل ذريع في تحقيق أي من أهدافها الأصلية والمستجدة، ولكن كان له نتيجة غير مخطط لها، وهو سقوط لشبونة في الأندلس على يد ألفونسو السابع ملك ليون وقشتالة، وذلك لأن البابا أمره بشن حملة صليبية في الغرب، وجعل ثوابها كثواب استرداد الأراضي المقدسة في فلسطين، وسقطت لشبونة بعد حصار دام 4 أشهر، حسمه وصول حملة صليبية بحرية مكونة من فلامنديون بلجيك وفريسيون هولنديون وإنجليز وسكوتلنديون، أجبرتها الأنواء السيئة على اللجوء للبرتغال فأعانت البرتغاليين على حسم الموقف واقتحام ليشبونة.

ونورد هنا خلاصة ما قاله المؤرخون المسلمون مثل ابن القلانسي في تاريخه، وهو معاصر لهذه الأحداث لكونه توفي سنة 555، ومثل ابن الأثير المتوفى سنة 630:

في هذه السنة سار ملك الألمان من بلاده في خلق كثير وجمع عظيم من الفرنج، عازماً على قصد بلاد الإسلام، وهو لا يشك في مُلْكِها بأيسر قتال لكثرة جموعه، وتوفر أمواله وعدده، فلما وصل إلى بيت المقدس قصده من به من الفرنج وخدموه، وامتثلوا أمره ونهيه، واختلفت الآراء بينهم فيما يقصدون منازلته من البلاد الإسلامية والأعمال الشامية إلى أن استقرت الحال بينهم على منازلة مدينة دمشق وحدثتهم نفوسهم الخبيثة بملكتها وتبايعوا ضياعها وجهاتها.

فصلُّوا صلاة الموت في القدس، وفرقوا الأموال في العساكر فكان تقدير ما فرقوا سبعمئة ألف دينار، وكانوا في أربعة آلاف دارع، وستة آلاف فارس، وستين ألف راجل.

وكان صاحب دمشق مجير الدين أَبق بن نوري بن طغدكين، وليس له من الأمر شيء، وإنما الحكم في البلد لمعين الدين أَنُر مملوك جده طغدكين، وهو الذي أقام مجير الدين؛ وكان معين الدين عاقلاً، عادلاً خيراً، حسن السيرة، فلما تواصلت الأخبار بذلك شرع في التأهب والاستعداد لحربهم ودفع شرهم وتحصين ما يخشى من الجهات وترتيب الرجال في المسالك والمنافذ وقطع مجاري الميرة إلى منازلهم، وطمَّ الآبار وعفَّى المناهل.

وجاء الفرنج إلى ناحية دمشق في حشدهم وحدِّهم وحديدهم، في الخلق الكثير على ما يقال تقدير الخمسين ألف من الخيل والرجل، ومعهم من السواد والجمال والأبقار ما كثَّروا به العدد الكثير، ودنوا من البلد وقصدوا المنزل المعروف بمنازل العساكر فصادفوا الماء معدوماً فيه مقطوعاً عنه فقصدوا ناحية المزة فخيموا عليها لقربها من الماء، وزحفوا إليه بخيلهم ورجلهم، ووقف المسلمون بإزائهم في يوم السبت السادس من شهر ربيع الأول، ونشبت الحرب بين الفريقين، واجتمع عليهم من الأجناد والأتراك وأحداث البلد والمطوعة والغزاة الجم الغفير، واستحرَّ القتل بينهم واستظهر الكفار على المسلمين بكثرة الأعداد والعدد، وغلبوا على الماء، وانتشروا في البساتين وخيموا فيها، وقربوا من البلد، وحصلوا منه بمكان لم يتمكن أحد من العساكر قديماً ولا حديثاً منه، وشرعوا في قطع الأشجار والتحصين بها وهدم القناطر وباتوا تلك الليلة على هذه الحال، وقد لحق الناس من الارتياع لهول ما شاهدوه، والروع بما عاينوه ما ضعفت به القلوب وحرجت معه الصدور، فتقدم ملك الألمان حتى نزل بالميدان الأخضر، فأيقن الناس بأنه يملك البلد، ، وصار البكاء والعويل في البلد، وفرش الرماد أياما، وأخرج مصحف عثمان إلى وسط الجامع، واجتمع عليه الرجال والنساء والأطفال، وكشفوا رؤوسهم ودعوا فاستجاب الله منهم فرحل أولئك.

وكان معهم قسيس طويل بلحية بيضاء فركب حمارا أحمر وترك في حلقه صليباً وفي حلق حماره صليباً، وأخذ في يده صليبين، وقال للفرنج: إني قد وعدني المسيح أن آخذ دمشق ولا يردني أحد. فاجتمعوا حوله وأقبل يطلب دمشق، فلما رآه المسلمون غاروا للإسلام وحملوا عليه بأجمعهم فقتلوه وقتلوا الحمار، وأخذوا الصلبان فاحرقوها.

وكان فيمن خرج للقتال الفقيه حجة الدين يوسف بن درباس الفندلاوي المغربي، وكان شيخاً كبيراً، فقيهاً عالماً، خرج راجلاً، فلما رآه معين الدين قصده وسلم عليه، وقال له: يا شيخ، أنت معذور لكبر سنك، وليس بك قوة على القتال، ونحن نقوم بالذب عن المسلمين. وسأله أن يعود، فلم يفعل وقال له: قد بعت واشترى مني، فوالله لا أقلته ولا استقلته. يعني قول الله تعالى في سورة التوبة: ﴿ إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾، فقتل قريب الربوة على الماء لوقوفه في وجوههم وترك الرجوع عنهم اتباعاً لأوامر الله تعالى في كتابه الكريم، وكذلك عبد الرحمن الحلحولي الزاهد رحمه الله.

وباكر المسلمون الظهور إليهم في اليوم التالي، وزحفوا إليهم ووقع الطراد بينهم، واستظهر المسلمون عليهم وأكثروا القتل والجراح فيهم، وأبلى الأمير معين الدين في حربهم بلاءً حسناً، وظهر من شجاعته وصبره وبسالته ما لم يشاهد في غيره، بحيث لا يني في ذيادتهم، ولا يفتئ عن جهادهم، ولم تزل رحى الحرب دائرةً بينهم، وخيل الكفار محجمةً عن الحملة المعروفة لهم إلى أن تتهيأ الفرصة لهم، إلى أن مالت الشمس إلى الغروب، وأقبل الليل، وطلبت النفوس الراحة، وعاد كل منهم إلى مكانه، وبات الجند بإزائهم وأهل البلد على أسوارهم للحرس والاحتياط، وهم يشاهدون أعداءهم بالقرب منهم.

وكانت المكاتبات قد نفذت إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ والاستنجاد، وصارت خيل التركمان تتواصل ورجالة الأطراف تتتابع، وباكرهم المسلمون وقد قويت نفوسهم وزال روعهم وثبتوا بإزائهم، وأطلقوا فيهم السهام ونبل الجرح بحيث تتبع في مخيمهم في راجل أو فارس أو فرس أو جمل، ووصل في هذا اليوم من ناحية البقاع وغيرها رجالة كثيرة من الرماة، فزادت بهم العدة وتضاعفت العدة وانفصل كل فريق إلى مستقره هذا اليوم، وباكروهم من غده وأحاطوا بهم في مخيمهم وقد تحصنوا بأشجار البساتين وأفسدوها رشقاً بالنشاب وحذفاً بالأحجار، وقد أحجموا عن البروز وخافوا وفشلوا ولم يظهر منهم أحد، وظن بهم إنهم يعملون مكيدةً ويدبرون حيلةً، ولم يظهر منهم إلا النفر اليسير من الخيل والرجل، وليس يدنو منهم أحد إلا صرع برشقة أو طعنة، وطمع فيهم نفر كثير من رجالة الأحداث والضياع وجعلوا يرصدونهم في المسالك، وقد انثنوا فيقتلون من ظفروا به، ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عنها، وحصل من رؤوسهم العدد الكثير وتواترت إليهم أخبار العساكر الإسلامية المسارعة إلى استئصالهم فأيقنوا بالهلاك والبوار وحلول الدمار واعملوا الآراء بينهم فلم يجدوا لنفوسهم خلاصاً من الشبكة التي حصلوا فيها والهوة التي ألقوا بنفوسهم إليها غير الرحيل سحراً في اليوم التالي مجفلين مخذولين مفلولين.

وحين عرف المسلمون ذلك وبانت لهم آثارهم في الرحيل، برزوا لهم في بكرة هذا اليوم، وسارعوا نحوهم في آثارهم بالسهام، بحيث قتلوا في أعقابهم من الرجال والخيول والدواب العدد الكثير، ووجد في آثار منازلهم وطرقاتهم من دفائن قتلاهم وفاخر خيولهم ما لا عدد له ولا حصر يلحقه، واستبشر الناس بهذه النعمة التي أسبغها الله عليهم وأكثروا من الشكر له تعالى ما أولاهم من إجابة دعائهم الذي واصلوه في أيام هذه الشدة فلله على ذلك الحمد والشكر.

وكان معين الدين قد أرسل إلى سيف الدين غازي بن زنكي يدعوه إلى نصرة المسلمين وكف العدو عنهم، فجمع عساكره وسار إلى الشام، واستصحب معه أخاه نور الدين محمود من حلب، فنزلوا بمدينة حمص، وأرسل إلى معين الدين يقول له: قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي، فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر وألقى الفرنج، فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد، واحتمينا به، وإن ظفرت فالبلد لكم لا أنازعكم فيه.

فأرسل معين الدين إلى الفرنج يتهددهم إن لم يرحلوا عن البلد، فكف الفرنج عن القتال خوفاً من كثرة الجراح، وربما اضطروا إلى قتال سيف الدين، فأبقوا على نفوسهم، فقوي أهل البلد على حفظه، واستراحوا من لزوم الحرب.

وأرسل معين الدين إلى الفرنج الغرباء: إنَّ ملك المشرق قد حضر، فإن رحلتم، وإلا سلمت البلد إليه، وحينئذ تندمون.

وأرسل إلى فرنج الشام يقول لهم: بأي عقل تساعدون علينا هؤلاء الفرنج الغرباء؟! وأنتم تعلمون أنهم إن ملكوا دمشق أخذوا ما بأيديكم من البلاد الساحلية، وأما أنا فإن رأيت الضعف عن حفظ البلد سلمته إلى سيف الدين، وأنتم تعلمون أنه إنْ مَلَكَ دمشق لا تقدرون على منعه من بيت المقدس. وبذل لهم تسليم حصن بانياس إليهم إن أقنعوا ملك الألمان بالتخلي عن خطته.

واجتمع الساحلية بملك الألمان، وخوفوه من سيف الدين وكثرة عساكره وتتابع الأمداد إليه، وأنه ربما أخذ دمشق ونضعف عن مقاومته؛ ولم يزالوا به حتى رحل عن البلد، وتسلموا قلعة بانياس، وعاد الفرنج الألمانية إلى بلادهم وهي من وراء القسطنطينية، وكفى الله المؤمنين شرهم.

وقال شاعر يدعى أبا الحكم الأندلسي قصيدة شرح فيها ما جرى منها:

 

بشطى نهر داريا ... أمورٌ ما تؤاتينا

وأقوامٌ رأوا سفك الدما في جُلَّق دينا

أتانا مئتا ألف ... عديدا أو يزيدونا

فبعضهم من أندلس ... وبعض من فلسطينا

ومن عكا ومن صور ... ومن صيدا وتبنينا

إذا أبصرتهم أبصرت أقواماً مجانينا

ولكن حرَّقوا في عاجل الحال البساتينا

وجازوا المرج والتعديل أيضاً والميادينا

تخالهم وقد ركبوا ... فطائرها جراذينا

وببن خيامهم ضموا الخنازر والقرابينا

ورايات وصلبانا ... على مسجد خاتونا

وقلنا إذ رأيناهم ... لعل الله يكفينا

سَمَا لهم معين قد ... أعان الخلق والدنيا

وفتيانٍ تخالهمُ ... لدى الهيجا شياطينا

فولَّوْا يطلبون المرجَ من شرقي جِسْرِينا

ولكن غادروا إلياس تحت الترب مدفونا

وشيخا فندلاويا ... فقيها يعضُد الدينا

وفتيانا، تفانوا من ... دمشق نحو سبعينا

ومنهم مئتا علج ... وخيل نحو تسعينا

وباقيهم إلى الآنَ ... من القتل يفرّونا

 

ترتب على هذا الفشل نتائج هامة كانت كلها في صالح المسلمين وساعدت نور الدين زنكي في تحقيق أهدافه في القضاء على الوجود الأفرنجى في المشرق العربي، فقد عمقت العداوة والشك بين الفرنسيين وبين البيزنطيين، واتهم لويس السابع الإمبراطور مانويل الأول كومنينوس بالتواطؤ مع السلاجقة الأتراك في هجماتهم على الفرنج في الأناضول، ويقيت هذه الشكوك تهيمن على العلاقات البيزنطية الفرنسية مدة قرنين من الزمن، أما البيزنطيين فقد اعتبروا هزيمة الفرنج الوافدين انتصاراً لحنكة مانويل الأول وسياسته، وقد أشار إلى ذلك أسقف سالونيك في رثائه للإمبراطور عندما قال: لقد استطاع أن يتعامل مع أعدائه بمهارة فائقة، يضرب بهذا بذاك ويحقق بذلك السلام والاستقرار.

على صعيد المشرق أبرزت هذه الهزيمة للجانب المسلم قوته الكامنة إن استطاع توحيد صفوفه، وتوفرت لديه قيادة تتمتع بإرادة القتال وعزيمة صلبة، وانضوى معين الدين أنر تحت جناح نور الدين زنكي، وصدق معه في منازلة الفرنج حتى وفاته عام 544، وفي سنة 548 هاجم بالدوين الثالث عسقلان وانتزعها من الدولة الفاطمية في مصر، فجرَّ الفاطميين إلى دائرة النزاع، وحرّض ذلك نور الدين على أن يأخذ دمشق من آل بوري ليصبح الطريق أمامه مفتوحاً لمنازلة الفرنج، فاستولى على دمشق في سنة 549، وضمها إلى الدولة الزنكية المجاهدة، فأصبح على حدود مملكة القدس يهددها كل يوم، بدلاً من التعايش الذي كان قائماً في السابق، ثم أعقب ذلك أن أصبحت مصر محور الصراع عندما هاجم أمالريك الأول القاهرة في سنة 564، وقام نور الدين بإرسال شيركوه وصلاح الدين الأيوبي لمواجهة الفرنج هناك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين