أقبحُ الخيانة

كثيرا ما نصب جام غضبنا على الحاكم الفاسد الذي يبطش ويسرق باسم السلطة والمصلحة العليا للبلاد والعباد، وأحيانا نلوم حاشية السوء التي تزين له الغواية للحفاظ على مصلحتها. وهذا في زماننا غالب على أحوال الساسة والأمراء. إلا انه في بعض الأحايين قد يكون الحاكم أو الأمير رجلا صالحا، فيضع ثقته في بعض من يتوسم فيهم الخير، وبخاصة إذا كانوا ممن يحمل العلم الشرعي الذي يعلمونه للناس ليعبدوا ربهم على بصيرة، فيحصل أن بعضا من أهل العلم هؤلاء تطغى عليهم أهواء النفس، ويستغلون ثقة الناس بهم، فيسعون إلى مكاسب شخصية يزينونها على أنها دين، وهذا من أعظم الخيانة.

قال الله سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره أن مما تحمله الآية من معنى: «إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال».

وبناءً عليه فكل من وُكِّلَ أمرا، أو وُسِّدَ مسؤولية، فلم يقم بحقها، فقد خان الأمانة.. 

أثر الخيانة في المجتمعات:

وفي تاريخنا نماذج من خيانة الأمانة وأثرها في الأمة، من ذلك ما ذكر في ترجمة الأمير يوسف بن تاشفين المرابطي المجاهد المقدام الذي أقام الله تعالى على يديه صرح الإسلام في المغرب والأندلس بعد أن كاد يندرس، فمما جاء في ترجمته في تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي، وفيات سنة 537 هـ، وهي السنة التي توفي فيها ابن تاشفين، أنه: «كان حَسَن السّيرة، جيّد الطَّويَّة، عادلًا، نزِهًا، حتّى كان إلى أن يُعَدّ من الزّهّاد المتبتّلين أقرب، وأدخل من أن يُعَدّ من الملوك، واشتدّ إيثاره لأهل العِلم والدّين، وكان لَا يقطع أمرًا في جميع مملكته دون مشاورتهم، وكان إذا ولّى أحدًا من قُضاته، كان فيما يعهد إليه أن لَا يقطع أمرًا دون أن يكون بمحضر أربعةٍ من أعيان الفُقهاء، يشاورهم في ذلك الأمر، وإنْ صَغُرَ، فبلغ الفُقهاء في أيّامه مبلغًا عظيمًا». وما ذلك إلا لتدينه وحسن طويته وحبه للخير.

إلا أن بعضا من العلماء الذين أولاهم ثقته لم يكونوا أهلا لذلك حيث استغلوا قوة موقعهم عند الأمير وعند الناس لتحصيل منافع دنيوية، ولقمع كل من تسول له نفسه مخالفتهم. ولما كانت الحرب العلمية مستعرة بين المذاهب الكلامية حول الفلسفة بين مدافع عنها، ومكفرٍ لمن اشتغل بها، زيَّن الفقهاء عند ابن تاشفين «تقبيح الكلام وكراهية الصَّدْر الأوّل له، وأنّه بِدْعة، حتّى استحكم ذلك في نفسه، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالوعيد على مَن وُجِد عنده شيءٌ من كُتُب الكلام. ولمّا دخَلَت كُتُب أبي حامد الغزّاليّ - رحمه الله - إلى المغرب، أمَرَ أمير المسلمين عليّ بن يوسف بإحراقها، وتوعَّد بالقتل من وجِد عنده شيءٌ منها، واشتد الأمر في ذلك إلى الغاية».

فهذا من الخيانة العلمية التي تتقوى بالسلطان لفرض رأيها على الناس، ساعية إلى قمع الآراء الأخرى مهما كانت تستند إلى أسس متينة، فالصواب ما هم عليه، والباطل ما خالفهم، والدنيا مقبلة عليهم. 

يذكر الحافظ الذهبي عن أَلْيَسَعِ بن حزم قوله: «وُلّي عليّ بن يوسف، فنشأت من المرابطين والفقهاء نَشَآتٌ أهزلوا دينهم، وأسمنوا براذينهم، قلدهم البلاد، وأصاخ إلى رأيهم فخانوه .. وأروه الباطل في صورة الحق».

حتى إن أحد الشعراء، وهو أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البنِّي، من أهل مدينة جَيَّان من جزيرة الأندلس، كتب قصيدة ينعي فيها على هؤلاء استغلالهم للدين وللفقه وللأئمة لتحصيل منفعة عاجلة. يقول فيها : [من الكامل]

أهلَ الرياء لبِستمو ناموسكم ......... كالذئب أدلج في الظلام العاتمِ

فملكتمو الدنيا بمذهب مالكٍ ... وقسمتمو الأموال بابن القاسمِ (1)

وركِبتمو شُهْب الدوابِّ بأشهبٍ ... وبأَصْبَغٍ صُبِغَتْ لكم في العالمِ (2)

ضمور الشعور الديني أساس الهزيمة:

ما أبشع هذه الصورة أن يثق الحاكم بالعالم فيريه الباطل في صورة الحق... إنها أشنع الخيانة، لأنها أدت إلى ضمور الشعور الديني عند العامة، فكانوا سببا للفتنة التي اشتعلت بعد هزيمة جيش المرابطين في بلنسية على إثر معارك عدة حولها بدأت في مطلع سنة 480 هـ لتتحول إلى حرب كر وفر مع الفرنجة، إلى أن بدأ الوهن يدب إلى جيش المرابطين بسبب المنكرات.. وفي ذلك يقول الحافظ الذهبي: «التقى عسكر بَلَنْسِية مع العدوّ الملعون، فهزموا المسلمين، وقتلوا من المرابطين خلقًا كثيرًا، وذلك بعد الخمسمائة، واختلت بعدها حال عليّ بن يوسف، وظهرت في بلاده مناكِرُ كثيرة، لاستيلاء أمراء المرابطين الّذين هم جُنْده على البلاد الأندلُسيَّة، ثمّ ادعوا الاستبداد بالأمور، وانتهوا في ذلك إلى التّصريح، وصار كلّ واحدٍ منهم يجهر بأنّه خيرٌ من أمير المسلمين عليّ بن يوسف، وأنّه أَوْلَى بالأمر منه، واستولى النّساء على الأحوال، وصارت كل امرأةٍ من أكابر البرابر مشتملةً على كلّ مفسدٍ وشرّير، وقاطعِ سبيلٍ، وصاحب خمرٍ، وأميرُ المسلمين في ذلك يزيد تغافُلُه، وَيقْوَى ضعْفُه، وقنع بالاسم والخُطْبة، وعكف على العبادة، فكان يصوم النّهار، ويقوم اللّيل، واشتهر عنه ذلك، وأهمل أمر الرعيَّة غاية الإهمال، وكان يعلم من نفسه العجز، حتّى أنّه رفع مرَّة يديه وقال: اللَّهُم قيِّض لهذا الأمر من يقوى عليه ويُصْلح أمور المسلمين، حكى عنه هذا عبد الله بن خيار».

إنها نتيجة منطقية لاستغلال الدين في معترك الأهواء، فإذا كان من يناط بهم أمر الدين على هذا الحال، فلا بد أن ينعكس على العامة وعلى المجتمع، ورحم الله تعالى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القائل: «الناس بخير ما استقامت لهم أئمتهم، فإذا رتع الإمام رتعوا».

وما زال التاريخ يسجل لنا نماذج من الخائنين، ممن يبيعون أمتهم وبلادهم لأجل مكاسب شخصية وأهواء أنانية.. وسيبقى يكتب، وسيبقى يفضح أمثال هؤلاء.

والسعيد من اتعظ بغيره.

=========

* أستاذ جامعي.

(1) - مالك: هو الإمام مالك بن أنس، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. أبو القاسم: من كبار علماء المالكية.

(2) - أشهب: هو أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري الجعدي: فقيه الديار المصرية في عصره، وصاحب الإمام مالك. توفي سنة 204هـ/819م... وأصبغ: أَصْبَغُ بنُ الفَرَجِ بنِ سَعِيْدِ بنِ نَافِعٍ الأُمَوِيُّ، المالكي، الإِمَامُ الكَبِيْرُ، مُفْتِي الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ، المتوفى سنة 225هـ/798م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين