الرسول صلى الله عليه وسلم قائداً

القائد العظيم في كل جماعة أو كل أمة هو من يملك الشخصية الآسرة، وهو ما يسمى اليوم بالكاريزما.

وتكون الشخصية آسرة (صاحبة كاريزما عالية) كلما استجمعت عدداً أكبر من المزايا، بدءاً من جمال الخِلْقة، ومروراً بالفصاحة والمقدرة الخطابية، والعلم والذكاء والحصافة، وانتهاء بالصفات الخُلُقية العالية من استقامة وأمانة وصدق وكرم وسخاء وتضحية...

حتى إن صاحب الشخصية الآسرة ينجذب إليه الناس ويُعجبون، بل يتغاضَون عما في شخصيته من نقص وعيب، ويدافعون عن كل ما يصدر عنها من مواقف.

فإذا كان الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الحديث عمن استجمع كل الكمالات البشرية، وتبرّأ من كل عيب ونقص.

وحتى نلمسَ بعض حب الصحابة له، وإعجابهم به، وفدائهم إياه... وهي أمور تفوق ما يوصف بأنه طاعة له وانقياد، نورد هذه النماذج:

روى البخاري أنه لما كان يوم أحد [في آخر الغزوة] انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوِّب عليه [مترّس بنفسه عليه] بجحفة له [ترس من جلد]، وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع. يُشْرِف النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي، لا تُشْرِف، يصيبك سهمٌ من سهام القوم، نحري دون نحرك.

وترّس أبو دجانة نفسَه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبل يتلاحق في ظهره، وهو منحنٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتحوّل. وترّس زياد بن السكن نفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُتل هو وخمسة من أصحابه، وكان آخرهم، على ما رواه ابن هشام، عمارة بن يزيد بن السكن، فقاتل دونه عليه الصلاة والسلام حتى أثبتته الجراح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنوه مني، فوسّده قدمه، فمات وخدّه على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي صلح الحديبية وقد جاء عروة بن مسعود من المشركين... وجعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه. قال: فواللهِ ما تنخّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أيْ قوم، والله لقد وفدتُ على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيتُ ملكاً قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمدٍ محمداً.

* * *

وحين نتحدث عن صفاته القيادية سنقصر الكلام على جانب القيادة السياسية والعسكرية، بل سنقتصر على نُبَذٍ يسيرة من هذا الجانب.

وأول ما نذكره من ذلك هو ذلك التلازم الكامل بين ما كان يدعو إليه من الفضائل. وبين ما تحلّى به من هذه الفضائل حتى كان محل الحب والتقدير من أصحابه. بل إنّ أعداءه كانوا يشهدون أنه الصادق الأمين.

ففي صحيح البخاري ومسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا [في بداية الدعوة المكية] فهتف: يا صباحاه. فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل. أكنتم مصدِّقيّ؟. قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً".

وروى البخاري ومسلم قول هرقل لأبي سفيان (وكان وقتها على الشرك، وذلك بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة): .... وسألتُكَ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمتَ أنْ لا...

وروى الشيخان: "أن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وكان طفلاً، أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ كخ، ليطرحها. ثم قال: أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة".

ومواقف كثيرة عمّقت معنى الثقة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته ونزاهته وورعه.

فلنقترب أكثر فأكثر من صفاته صلى الله عليه وسلم قائداً.

وروى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا والله إذا احمرّ البأس نتّقي به، وإن الشجاع منا الذي يحاذي به. يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

وروى الإمام أحمد: يقول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه.

وروى البخاري: عن البراء قال: كان أبو سفيان بن الحارث – يوم حنين في السنة الثامنة من الهجرة- آخذاً بعنان بغلته، فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول: أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. قال البراء (الراوي): فما رئي من الناس يومئذ أشد منه.

وفي تقديمه أهله وأقاربه في المعارك، عندما نادى منادي المشركين يوم بدر: يا محمد، أخرجْ لنا أكفاءنا من قومنا (يريدون أن يخرج إليهم المسلمون المكيون الذين كانوا يعيشون معهم، وقد هاجروا إلى المدينة)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي... (وهم عمه وابنا عمه).

وفي أقل من عشر سنوات قضاها، صلى الله عليه وسلم، في المدينة غزا بنفسه نحو عشرين غزوة عدا السرايا التي بعثها ولم يشارك فيها بنفسه:

روى مسلم: "... والذي نفس محمد بيده لولا أن أشُقّ على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله أبداً. ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعةً، ويشُقّ عليهم أن يتخلّفوا عني".

فهذه نماذج من شجاعته وفدائه عليه الصلاة والسلام.

* * *

وكان يُعْنى بعنصر المفاجأة في حروبه، فما كان يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى يفجأ القوم، وأمره في ذلك معروف سواء في فتح مكة أو خيبر. ففي خيبر مثلاً أقبلَ بجيشه حتى نزل بوادٍ بينهم وبين غطفان ليقطع عليهم طريق الإمداد. وحين علمت غطفان بذلك خرجوا لإنقاذ اليهود فلما ساروا مسافة نحو خيبر سمعوا أن ديارهم تعرّضت للغزو فرجعوا القهقرى وتركوا خيبر يغزوها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يُحسن اختيار الرجال لما يصلحون له (وضع الرجل المناسب في المكان المناسب) فقد جعل أبا بكر وعمر وزيرين يسمُر معهما في قضايا المسلمين، ولما مرض عليه الصلاة والسلام أمر أبا بكر ليصلي بالناس، وهذا ما جعل الناس يختارونه خليفة ثم يختارون عمر.

وقدّر أهلية القيادة العسكرية في عمرو بن العاص وخالد بن الوليد. يقول عمرو: فوالله ما عَدَلَ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد أحداً من أصحابه في أمر حَزَبَه منذ أسلمنا.

وعندما أتى وفد بني تميم يفاخرون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيبهم عطارد بن حاجب يتكلم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس الخزرجي ليردّ عليه، ثم قام شاعرهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت ليردّ عليه. وحين أسلم نُعيم بن مسعود استعمله النبي صلى الله عليه وسلم في تفريق القبائل يوم الأحزاب.

ويوم حنين حين ولّى الطلقاء مدبرين نادى الأنصار أصحاب بيعة السَّمُرَة.

أخرج البخاري: لما كان يوم حنين أقبلتْ هوازن وغطفان وغيرهم بنَعَمِهم وذراريهم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا عنه، حتى بقي وحده فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما: التفَتَ عن يمينه فقال: يا معشر الأنصار. قالوا: لبّيك يا رسول الله. أبْشِر نحن معك. ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار فقالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك..

* * *

ونكتفي بذكر خصلة أخرى من صفاته القيادية صلى الله عليه وسلم. وهي كثرة استشارته لأصحابه، أو أخذه بما يشور عليه بعضهم. قال أبو هريرة: "ما رأيتُ أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". رواه أحمد وابن حبان والشافعي.

وروى أحمد ومسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان (يوم بدر). فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، وتكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله. والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها...

وحين اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مكاناً لتمركز جيشه سأله الحُبَاب بن المنذر: أهذا المنزل بوحي أم هو الرأي والحرب والمكيدة... فأشار إليه بأن يأتي أدنى ماء من القوم (قريش) فينزله ويغوِّر ما وراءه من الآبار... قال: فنشرب ولا يشربون...

وبعد الغزوة استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن الأسرى فكان رأي الصديق المنّ على الأسرى بعد أخذ الفدية منهم، وكان رأي عمر قتلهم. فأخذ برأي الصدّيق. (والخبر مروى عند الإمامين أحمد ومسلم).

وفي أُحد عندما علم النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم قريش لقتاله استشار أصحابه، أيقاتل داخل المدينة أم يخرج للقاء قريش. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي الأغلبية لا سيما الشباب، وقرر مغادرة المدينة.

وفي غزوة الأحزاب خرجت قريش وغطفان وغيرهما تريد غزو المدينة واستئصال من فيها، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق... ثم أراد صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة فأشار عليه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة بألا يعطيها شيئاً...

صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين