مؤامرات وشبهات وردود

تعرّض القرآن الكريم منذ أن بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالإسلام إلى يوم الناس هذا، إلى إثارة الشبهات بعد الشبهات حوله، وصبِّ المطاعن والشكوك نحوه من أناسٍ ملحدين كانوا يحرّفون الكلم عن مواضعه، وأناس من المستعمرين همّهم بثّ المؤامرات لمحاربة القرآن الكريم الذي جمع ويجمعُ شمل المسلمين، ويمدّهم بأسباب القوة. لذلك كثرت دعواتهم لمحاربة القرآن صراحةً أو من وراء ستار. فهذا (غلادستون) رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، يصرّح على رؤوس الأشهاد قائلاً: 

((ما دام هذا القرآن موجوداً –في أيدي المسلمين- فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان))(1).

وهذا الحاكم العسكري في الجزائر، في ذكرى مرور مئة عام على استعمار الجزائر، يقول: ((إننا لن ننتصر على الجزائر ما داموا يقرأون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نُزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقطع اللسان العربي من ألسنتهم))(2).

أما الصنف الثالث من الناس، فكانوا ممن ينتسبون إلى أهل الكتاب، وتخرجوا في مدارس الإرساليات التنصيرية، التي كانت تسمّى بالإرساليات التبشيرية، وقدموا خدماتهم إلى المستعمرين بصورة عامة، وإلى الذين استعمروا البلاد العربية والإسلامية بصورة خاصة، إنهم المستشرقون وكثير من تلاميذهم الذين تربّوا على أيديهم. ومن قبل هؤلاء وأولئك صنف رابع، هم الزنادقة الذين أوغلوا بوضع الشبهات حول القرآن، لعلمهم أنه المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي، فإذا شكّكوا المسلمين فيه، فقد بلغوا مآربهم وما يريدون، ولا ننسى الصنف الخامس الذين يحملون اسم الإسلام، من الذين افتروا الأكاذيب أو صدّقوها حول جمع القرآن، فحكم هؤلاء بعقولهم الكليلة على القرآن، وادّعوا شيوع التحريف فيه، وحذف سورٍ منه وآيات. وظلت هذه الشبهات القديمة وشبهات حديثة تلوكها الألسنة في كل قرنٍ من القرون الخالية، فلم يخلُ قرن منها ممن يرفع عقيرته بالإساءة إلى الإسلام، لعله يقدر على النيل منه، ولكنّ الله عزَّ وجل هيّأ في كل قرن من القرون عشرات من العلماء الأعلام والمفكّرين الأفذاذ، الذين تصدّوا للمتطاولين على كتاب الله عزَّ وجل، وبيّنوا حقيقة افتراءاتهم التي شربوها مُعتّقة من دنان الجهل!

وأحب هنا أن أتحدث باختصار عن حفظ الله للقرآن الكريم، مع ذكر نماذج من تخرّصات الجهلة وافتراءاتهم، فأقول وبالله التوفيق:

القرآن: هو كلام الله المعجز، المنزلُ على النبي محمد صلى الله عليه وسلم باللسان العربي، المكتوب بين دفّتي المصحف، المنقول بالتواتر، المُتعبّد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختتم بسورة الناس.

وهو كتاب هدايةٍ للناس جميعاً عربهم وعجمهم، وقد ختم الله به الكتب السماويّة، وجعله منهاجاً كاملاً للحياة، وهو المعجزة الباقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتظل باقيةً إلى أبد الآباد، وقد اشتملَ على العقائد والعبادات والأخلاق والتشريعات التي تسعد المسلمين السعادة المُثلى إذا عملوا بما جاء به، وهو كتاب خالد لا يدخله شيء من التحريف، أو التزوير، أو الزيادة فيه، أو النقصان منه(3).

وقبل أن نتحدث في تكفّل الله تعالى بحفظ القرآن، يستحسن أن نتحدث عن الرسالات قبل رسالة الإسلام، فكانت كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله موكلة إلى تلك الأمم، وقد أمرهم سبحانه بالمحافظة عليها، فقال:[إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ] {المائدة:44}.

لكنّ الذين استحفظوا على كتاب الله فرّطوا في القيام بتلك المهمة التي هي أعظم المهمات، فلم يحفظوا تلك الكتب نسياناً تارةً، وتحريفًا تارةً، وإخفاءً تارة أخرى، قال تعالى:[فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ(13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(14) يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15) ]. {المائدة}. 

وقال سبحانه:[ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا] {المائدة:41}.

فهذه التوراة التي أنزلها الله تعالى على سيّدنا موسى عليه السّلام، لم يمضِ على إنزالها غير فترةٍ وجيزة بعد موتِ سيّدنا موسى عليه السلام، حتى دخلها التحريف والتغيير. وليست الأناجيل بأحسن من التوراة في أمرِ التحريف، وكل من يطّلع على الأناجيل ويرى الفروق الجوهرية بينها، يدرك ما أصاب الإنجيل الذي أنزله الله على سيّدنا عيسى عليه السّلام من تحريفٍ بعد أن رفعهُ الله إليه.

وهكذا، كلّما حرّف أقوامٌ كتاباً من الكتب التي أنزلها الله على أنبياء ورسلِ تلك الأقوام، أو نسُوا بعضاً منه، أو قاموا بإخفاء شيء منه، عند ذلك يبعث الله رسولاً آخر بكتابٍ آخر.

حفظ الله للقرآن:

ولما أراد الله عزَّ وجل أن يختم رسالاته بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، كان لا بدّ من حفظ كتابه الكريم، فلم يستحفظ عليه أحداً من الناس، بل تكفّل الله سبحانه هو بحفظه، فلا يدخله شيء من التغيير أو التبديل أو الزيادة فيه أو النقصان منه؛ لأن الإسلام هو خاتم الرسالات، لا يُنسخ ولا يُبدّل، فلا نبيّ ولا رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم . ويظل هذا الدّين قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هكذا تكفّل الله بحفظ القرآن الكريم بصورة وعدٍ قاطع، ولا يخلف الله وعده:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}.

وقال عن القرآن أيضاً:[لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] {فصِّلت:42}.

وهذا الوعد من الله بحفظ القرآن هو تكريم لهذه الأمة، وتبيان لفضلها على غيرها من الأمم. وهكذا أيضاً يبدو فضل القرآن على غيره من كتب الله المتقدمة.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد نصّ أيضاً على أنّ هذا القرآن محفوظ بحفظ الله، فلا يستطيع أحد تحريفه وتبديله، فقال صلى الله عليه وسلم : «ألا إنّ ربّي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم بما علمني يومي هذا. وقال: إنّما بعثتُكَ لأبتليك وأبتليَ بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرأهُ نائماً ويقظانا»(5).

وواضح من هذا الحديث أن هذا القرآن لا يُمحى ولا يزول؛ لأن الله تعالى هو الذي تكفّل بحفظه، وهذا هو معنى قوله تعالى في الحديث القدسيّ الذي مرّ آنفًا: «لا يغسلهُ الماء».

من أسباب حفظ كتاب الله من التحريف:

وإذا كان الله عزَّ وجل قد تكفّل بحفظ هذا القرآن، فقد جعل أسباباً لحفظه، من ذلك:

1- تحفيظ الله لرسوله القرآن. قال الله تعالى مخاطباً رسوله الكريم:[لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ(17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19) ]. {القيامة}..

وهذا الوعد من الله لحفظ القرآن الكريم كله، فلو ضاعت آية واحدة منه، لتخلف وعد الله في حفظه، والله تعالى لا يخلف وعده. قال تعالى:[سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى(6) إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى(7) ]. {الأعلى}..

2- مدارسة سيدنا جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن كله في كل شهر من أشهر رمضان، ودارسهُ في العام الأخير من رمضان قبل وفاته عليه الصلاة والسلام القرآن مرتين.

3- هيأ الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم صحابةً كراماً حفظوا القرآن حفظاً متقناً، ومنهم من تلقى القرآن حرفاً حرفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان منهم حفاظ متقنون، ومن هؤلاء الحفاظ: عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء عويمر بن زيد، وغيرهم ممن تلقى القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (6). وكان عددُ من حفظَ القرآن من الصحابة يفوق التواتر حفظاً في الصّدور، فوق حفظه في السطور. وتلقى التابعون القرآن عن الصحابة، فكثر حفاظ القرآن، وهكذا الأمر في كل جيل من أجيال المسلمين.

4- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في ابتداء دعوة الإسلام أن يكتبوا شيئاً غير القرآن، فقال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحُه»(7)، وذلك ليقبلَ الصحابة على حفظ القرآن واستنساخه، وقد كتب قسم من الصحابة مصاحف لهم ليرجع إليها من يريد تثبيت حفظه. وقد كُتب القرآن كله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان للرسول الكريم كُتّاب بلغ عددهم اثنين وأربعين كاتباً، وأما كتّاب الوحي في المدينة، فكانوا أكثر من كُتّاب الوحي في مكة(8).

5- جَمْعُ القرآن في خلافة أبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه: بعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه، عمل أبو بكر على جمع القرآن بين دفّتين، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر عاماً، قام عثمان بن عفان رضي الله عنه بجمع الأمة على كتاب واحد كتابةً وأداءً، وذلك باستنساخ عدد من المصاحف وتعميمها على قسم من الأقطار الإسلامية، وأدخلوا فيه الحركات والنقاط لتسهل قراءته على الناس؛ لأن مصلحة تيسير قراءة القرآن اقتضت ذلك، وقد قال الإمام النووي: ((قال العلماء: ويُستحبّ نقط المصحف، وشكله؛ فإنه صيانة من اللحن فيه وتصحيفه))(9).

كل هذه الجهود المتلاحقة –وغيرها كثير- منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم، كان من وسائل صون كتاب الله من التحريف، وهذه الوسائل لم تتوافر لغير القرآن من الكتب السماوية؛ لذلك ظل القرآن مصوناً عن التحريف، ونحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري، نقرأ القرآن كما كان يقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته سواءً بسواء.

حفظ الله لكل القرآن وليس لبعضه:

وحين نتأمل بآيات القرآن، نجد أن الله جل جلاله نصّ على أن كل ما أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم هو الذكر، وهذا لا يكون إلا للقرآن كله، وليس لبعضه، قال تعالى:[أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ] {الأعراف:63}.

[وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ] {الأنبياء:50} 

[فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44) ]. {الزُّخرف}. 

وآيات القرآن التي نصّت على أن الله تعالى حفظ القرآن كله كثيرة، منها قوله تعالى [تَنْزِيلُ الكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ] {السجدة:2} .

[نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ] {آل عمران:3} 

[وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ] {المائدة:48} 

[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] {النحل:89} 

[لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ(16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ(17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19) ]. {القيامة}. 

وهذا الوعد من الله تعالى هو لحفظ القرآن الكريم كله وليس لبعضه، فلو ضاعت منه آية واحدة لتخلف وعد الله في حفظه، والله عزَّ وجل لا يخلف وعده.

وحين نؤمن إيماناً لا شكّ فيه أن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة الخاتمة، فهذا يعني أن النبوة والرسالة قد خُتمت، فلا يبعث الله نبياً ولا رسولاً بعد نبوته ورسالته، ولا يُنزلُ كتاباً بعد القرآن.

ولقد وصف الله تعالى كتابه القرآن بالعزة؛ فهو محفوظ من العبث فيه، لا يأتيه الباطل بأية حالة كانت من الحالات:[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41) لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42) ]. {فصِّلت}.

ومما وصف الله به القرآن أنه مصون ومحفوظ بحفظ الله، فلا يناله التحريف:[إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78) ]. {الواقعة}. وهكذا يظل القرآن محفوظاً بحفظ الله، لتكون الحجة قائمة على الناس.

المستشرقون والقرآن الكريم:

كانت أساليب المستشرقين كثيرة ومتعددة الجوانب في التشكيك بالقرآن الكريم، وقد سلكوا هذا المسلك المشين المهين الذي لا يتفق مع البحث العلمي الرصين الذي حملوا شعاراته؛ لأن الطعن بالقرآن –وهو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي- هدم للإسلام كله، فكتب المستشرق الألماني(نولدكه) كتاباً سمّاه (تاريخ القرآن)، وفي أحد فصوله العنوان الآتي: (الوحي الذي أنزل على محمد، ولم يُحفظ في القرآن)(10).

وهكذا فعل المستشرق (برتون)، فقد شكّك بروايات جمع القرآن، وبشخصية الصحابي الجليل (زيد بن ثابت) خاصةً، الذي كان له الأثر الكبير في عملية جمع القرآن، حتى زعم أن دور هذا الصحابي اختُرعَ اختراعاً، وأن روايات الجمع هي من نسج الخيال!

أما المستشرق الإنجليزي (آرثر جفري)، فقد أساء إلى القرآن أيضاً، ولم تكن له الأمانة العلمية حين نشر كتاب (المصاحف) لابن أبي داوود، فتصرّف فيه تصرّف الخائن، وأتى فيه بأبوابٍ مثل باب: (ما غيّرَ الحجّاجُ في مصحف عثمان)!

وأما دائرة المعارف الإسلامية، فقد كثر فيها الطعن بالإسلام، ومنه الطعن بالقرآن، فجاء فيها تحت عنوان (قرآن): ((إنّه لا شكّ أن هناك فقرات من القرآن ضاعت))(11).

وجاء في دائرة المعارف البريطانية: ((إن القرآن غير كاملِ الأجزاء))(12).

ومن هؤلاء المستشرقين الذين أساؤوا للإسلام: (جولد تسيهر) و(شاخت) و(مارجليوث) و(ليفي بريل) و(برنارد لويس) و(مكسيم رودنسون) وغيرهم.

ومما ساعد المستشرقين وجرّأهم على الإساءة للقرآن الكريم، وجود فرق ضالة مضلّة تحمل اسم الإسلام، لكنّها افترت روايات كثيرة –وكلها كذب- حول تحريف القرآن، ناسبةً ذلك إلى الخلفاء الثلاثة: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان. رضي الله عنهم جميعاً. ومن هؤلاء المفترين: (محمد بن يعقوب الكليني) المتوفى سنة 328ه أو ه329، فقد قال: 

((إنّ القرآن الذي جاء به جبرائيل عليه السلام، إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، سبعة عشر ألف آية))!(13).

وإذا علمنا أن القرآن الكريم الذي بأيدي المسلمين اليوم في العالم الإسلامي كلّه، عدد آياتهِ 6236 آية، فهذا يعني أنّ 10764 آية قد سقطت، ولا يعرف المسلمون عنها أيّ شيء كان. [كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا] {الكهف:5}.

المنصفون من المستشرقين:

وإذا كان المستشرقون –والغربيون بصورة عامة- تتضمن كتاباتهم صوراً سوداء عن الإسلام بصورة عامة والقرآن بصورة خاصة، فإن منهم من تضمّنت كتاباتهم المدح والقدح بالإسلام معاً لأسباب عدة، وهناك منهم من أثنى الثناء الحسن على ديننا وعلى قرآننا، ولم يكونوا من المسلمين حتى يتهمهم من يتهمهم بالتعصب للإسلام، بل كانوا من غير المسلمين، ولم يكرههم أحد ويحملهم على الاعتراف بأن القرآن لم يُصَب بشيء من التحريف، فقد بيّنوا الدقة المتناهية في نقله من جيل إلى جيل، من غير أن تمتدّ إليه يد بالزيادة فيه أو النقصان منه، فقال المستشرق (لوبلو): ((إن القرآن هو الكتاب الربّاني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر))(14).

وقال المستشرق الإنجليزي (وليم موير): ((إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا دون أيّ تحريف، ولقد لوحظ بعناية شديدة، بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يُذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة))(15).

وقال المستشرق (لاندو): 

((اتّخذ القرآن شكله القانوني الذي وصل إلينا سليماً لم يطرأ عليه أيّ تحريف)) (16).

ومن المستشرقين الذين شهدوا شهادة الحق للقرآن الكريم: المستشرقون (دينيه) و(جوته) و(ليبون) و(لوازون) و(هنري دي كاستري) و(واشنطن أبروينج)(17).

وأخيراً: فقد توالت محاولات في القرن العشرين لتحريف كلمة واحدة أو كلمتين أو ثلاث من كلمات القرآن الكريم، فقام الفرنسيون في الجزائر يوم كانوا مستعمرين لها بطبع عشرات الآلاف من المصاحف المزرّقة بأوراقها الزاهية، بعد أن حرّفوا فيها قوله تعالى:[وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] {آل عمران:85}. فحذفوا كلمة (غير) من الآية؛ ليتغيّر المعنى إلى عكس المراد! ولكنّ الحفّاظ لكتاب الله من المسلمين كانوا لهم بالمرصاد، فكشفوا زيف فعلهم، فجُمعت المصاحف وأحرقت، ليظلّ حفظ كتاب الله للقرآن، ويظلّ المسلمون آمنين على قرآنهم من التحريف، وصدق الله العظيم القائل:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] {الحجر:9}.

======

(1) الإسلام على مفترق طرق. تأليف: ليوبولد فايس، الذي أسلم وتسمى باسم: محمد أسد. ص43. ترجمه إلى العربية: الدكتور عمر فرّوخ. دار العلم للملايين – بيروت.

(2) قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله. تأليف: جلال العالم (عبد الودود يوسف). ص31.

(3) ينظر كتابنا: علوم القرآن. ص9. الطبعة الأولى المزيدة والمنقحة 1436هـ-2015م. دار الفرقان – عمان – الأردن.

(4) رواه مسلم في كتاب الجنة ونعيمها. باب:الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار. حديث 7207.

(5) ينظر: علوم القرآن للمؤلف. ص48.

(9 ) رواه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق. باب: التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم. حديث 7510.

(7) التراتيب الإدارية للكتاني. 1/116. دار الكتاب العربي – بيروت.

(8) التبيان في آداب حملة القرآن. للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. ص189. حققه وعلق عليه: محمد الحجّار. الطبعة الرابعة 1417هـ-1996م. دار ابن حزم – بيروت.

(9) المدخل لدراسة القرآن الكريم. تأليف: محمد محمد أبو شهبة. ص283. الطبعة الثانية. مكتبة السنة - القاهرة. 1423هـ-2003م.

(10) المدخل لدراسة القرآن الكريم. ص283.

(11) المدخل لدراسة القرآن الكريم. ص283.

(12) أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني. 2/634.

(13) مدخل إلى القرآن الكريم. تأليف: محمد عبد الله دراز. ص40. الطبعة الثانية 1392هـ-1972م. دار القلم.

(14) مدخل إلى القرآن. ص40.

(15) القرآن الكريم من منظور غربي. تأليف: الدكتور عماد الدين خليل. ص12. الطبعة الأولى 1417هـ-1996م. دار الفرقان – عمان – الأردن.

(16) المستشرقون والقرآن الكريم. تأليف: الدكتور بهاء الدين حسين. ص70. الطبعة الأولى 1435هـ-2014م. دار النفائس – عمان.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين