حدث في التاسع والعشرين من صفر

في التاسع والعشرين من صفر من سنة 11 عقد الرسول صلى الله عليه وسلم لواءً بيده وأعطاه لأسامة بن زيد بن حارثة ليقوم بغارة ردعية خاطفة على أُبْنى وآبِل الزيت في منطقة البلقاء وعلى الداروم، تجعل الروم يحجمون عن مهاجمة المدينة المنورة وتكون ثأراً لمعركة مؤتة التي جرت قبل 3 سنوات. والبلقاء منطقة في الأردن اليوم، من مدنها: السلط، ومأدبا، والزرقاء، والداروم: قلعة على البحر شمالي غزة.

وغزوة مؤتة - قرب الكَرَك في شرقي وسط الأردن – جرت في جمادى الأولى من سنة 8 واستشهد فيها والد أسامة؛ زيد بن حارثة، والذي أمَّره الرسول صلى الله عليه وسلم على الجيش وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس. وكان جيش مؤتة رداً على اعتداء على رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، نذكره لأهميته، فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي اللهبي رسولاً إلى ملك بُصرى بكتابه، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فأوثقه رباطا وضرب عنقه صبرا، ولم يُقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل من جاءه رسولاً، وهو تقليد سياسي عريق في التعامل بين الدول وبين المتنازعين، جاء رسولان من مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسله، لولا أني لا أقتل الرسل لقتلتكما.

ونعود إلى سرية أسامة فنقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس قبل 3 أيام بالتجهز لغزو الروم، ثم دعا في اليوم التالي أسامة بن زيد فقال له: سِرْ على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغِرْ صباحاً على أهل أُبْنى وحرِّق عليهم، وأسرِعْ السيرَ تسبِقْ الأخبار، فإن أظفرك الله فأقلِلْ اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء وقدِّم العيون والطلائع أمامك.

ومرض الرسول في اليوم التالي مرضه الذي توفي فيه فصُدِعَ وحُمّ، فلما أصبح يوم الخميس التاسع والعشرين من صفر دعا أسامة وعقد له اللواء بيده وقال له: أغز بسم الله في سبيل الله فقاتِلوا من كفر بالله. فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر أسامة بالجُرف لتجميع عسكره الذي كان فيه وجوه المهاجرين الأولين والأنصار، فقد كان فيه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم بن حريش.

وكانت سن زيد إذ ذاك تناهز التاسعة عشرة، فقد ولد في سنة 7 قبل الهجرة، فوجدها المنافقون فرصة لإثارة استهجان بعض الناس، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين! فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول فرده على من تكلم به وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقول من قال، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وخرج في العاشر من ربيع الأول وعليه قطيفة وقد عصب على رأسه عصابةً من الصداع، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله! وأيم الله إن كان للإمارة لخليقاً وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليّ، وأن هذا لمن أحب الناس إليّ، وإنهما لـمُخِيلان لكل خير – أي لمظنة لكل خير - فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم!

وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويمضون إلى العسكر بالجرف، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له أم أيمن وهي أم أسامة: أي رسول الله، لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل، فإن أسامة إن خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنفِذوا بعث أسامة! فلما كان يوم الأحد اشتد الوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل أسامة من معسكره والنبي مغمور، فطأطأ أسامة فقبله ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة، قال: فعرفت أنه يدعو لي. ورجع أسامة إلى معسكره.

ثم دخل يوم الاثنين 12 ربيع الأول وأصبح رسول الله، صلى الله عليه وسلم مفيقاً، فقال له: أغد على بركة الله. فودعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل؛ فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمه أم أيمن قد جاءه يقول: إن رسول الله يموت! فأقبل أسامة إلى المدينة ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النزع، وتوفي صلى الله عليه عليه وسلم مع مغيب شمس يوم الاثنين 12 ربيع الأول، وشارك أسامة بن زيد في تغسيل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقوداً حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده، فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة ابن الحصيب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه، فمضى به بريدة إلى معسكرهم الأول.

وكانت بوادر الردة من يوم مرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وغلب مسيلمة الكذاب على اليمامة وغلب الأسود العنسي على اليمن، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس لأبي بكر: إن العرب قد انتقضت عليك، وإنك لا تصنع بتفريق الناس عنك شيئا. فقال: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع أكلتني بهذه القرية، لنفذ هذا البعث الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنفاذه. وكذلك أرسل أسامة إلى أبي بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب وقال له: ارجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه؛ يأذن لي أن أرجع بالناس؛ فإنه قد حدث أعظم الحدث، وما أرى العرب إلا ستكفر، وإن معي وجوه الناس وحدهم؛ ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون.

وقالت الأنصار لعمر: فإن أبى أبو بكر إلا أن نمضي فأبلغه عنا الطلب أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة وأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة، فقال أبو بكر: لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاءً قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال : فإن الأنصار أمروني أن أبلغك، وإنهم يطلبون إليك أن تولى أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة. فوثب أبو بكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمر، فقال له : ثكلتك أمُّك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ فقال : امضوا، ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيتُ في سببكم من خليفة رسول الله!

وخرج أسامة في 1 ربيع الآخر سنة بجيشه، وكان عدده ثلاثة آلاف رجل وفيهم ألف فرس، وشيعه أبو بكر ساعة وهو ماش وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن! فقال: والله لا تنزل ووالله لا أركب! وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة؛ فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمئة حسنة تكتب له، وسبعمئة درجة ترتفع له، وترفع عنه سبعمئة خطيئة! وقال أبو بكر لأسامة: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، ما أنا بموصيك بشيء، ولا آمرك به، وإنما آمرك ما أمرك به رسول الله، وامض حيث ولاك رسول الله، وإن رأيت أن تعينني بعمر فافعل! فأذن له.

ثم قال أبو بكر للناس : يأيها الناس، قفوا أوصِكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة؛ وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع؛ فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام ؛ فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤسهم وتركوا حولها مثل العصائب؛ فاخفقوهم بالسيف خفقاً . اندفعوا باسم الله.

وكان إصرار أبي بكر على إنفاذ جيش أسامة من معالم قيادته الحكيمة وبصيرته البعيدة الغور، فقد فعل ذلك امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأكيده على ذلك كما رأينا، ومن جهة أخرى كان ذلك إظهاراً لقوة المسلمين ومنعتهم، فقد انتشر خبر إنفاذ جيش أسامة بين قبائل العرب، وأصاب المنافقين والمرتدين الوهن والرعب بسبب ذلك، وقالت العرب: لو لم يكن بهم قوة وطاقة لقتال الروم لما أرسلوا لهم هذا الجيش.

وسار أسامة في جيشه في أراض جهينة وغيرها من قبائل قضاعة التي لم ترتد عن الإسلام، فلم يعترضه أحد، فلما نزل وادي القرى قدم عينا له من بني عذرة يقال له حريث، فخرج على صدر راحلته أمامه مغذا حتى انتهى إلى أُبنى فنظر إلى ما هناك وارتاد الطريق، ثم رجع سريعا حتى لقي أسامة على مسيرة ليلتين من أبنى، فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم، وأمره أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع، وأن يشن أسامة الغارة ثم ينسحب.

فسار أسامة إلى أهل أبنى وشن عليهم الغارة، وكان شعار جيش المسلمين: يا منصور أمِت! فقتل من تصدى له وسبى من قدر عليه وحرَّق في طوائفها بالنار، وحرَّق منازلهم وحروثهم ونخلهم، فصارت أعاصير من الدخاخين، وأجال الخيل في عرصاتهم، وكانت المفاجأة تامة فلم يصب من المسلمين أحد، وكان أسامة على فرس أبيه سبحة وقتل قاتل أبيه في الغارة، وأقام الجيش يوماً بعد الغارة يجمعون أصابوا من الغنائم، وجعل أسامة للفرس سهمين ولصاحبه سهماً وأخذ لنفسه مثل ذلك.

ولم يتعرض أهل السير للتضارب بين ما أوردوه من فعل جيش أسامة وتحريقه المنازل والنخيل، وبين وصية أبي بكر السابقة، ولم أجد ما يوفق بين الأمرين، والله أعلم.

وفي مساء ذلك اليوم أمر أسامة الناس بالرحيل، ثم أغذَّ السير فوردوا وادي القرى في تسع ليال، ثم بعث بشيراً إلى المدينة يخبر بسلامتهم، ثم قصد بعد في السير فسار إلى المدينة ستاً، وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سروراً بسلامتهم، ودخل على فرس أبيه سَبْحة عليه درعه واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب، حتى انتهى إلى المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته معه اللواء، وكان مسيره ذاهباً وقافلا 40 يوما.

وكانت بلاد الشام آنذاك خاضعة للإمبراطورية البيزنطية، ويسميها المؤرخون المسلمون: الروم، وكان إمبراطورها آنذاك الإمبراطور هرقل، المولود سنة 575 للميلاد والمتوفى سنة 20=641 للميلاد، وكان نائبه على الشام وجنوبي الأناضول أخوه القائد ثيودور، والذي تسميه المصادر الإسلامية تذارق، وهو في الغالب قائد الروم في معركة مؤتة قبل 5 سنوات، وتذكر المصادر التاريخية الإسلامية أن هرقل بلغه وهو بحمص ما صنع أسامة بن زيد في هذه الغارة، فأزعجه ذلك ودعا بطارقته فقال: هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر تغير عليكم ثم تخرج من ساعتها ولم يعترضها أحد. فقال أخوه: سأرسل قوة من الجنود ترابط في البلقاء لتعترض ما قد يقوم به المسلمون من غارات، فلم تزل هناك حتى قدمت جيوش الإسلام إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر.

ولد أسامة بن زيد سنة 7 قبل الهجرة، ووالده زيد بن حارثة كان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختاره على أبويه، وذلك قبل تحريم التبني، وزوجه ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زيد بأمر الله تعالى.

وكان أسامة أسود كالليل وكان أبوه أبيض أشقر، وفي ذلك قالت عائشة رضي الله عنها: دخل مجزز المدلجي القائف على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطّيا رؤسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه ذلك. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لو كان أسامة جارية لكسوته وحلَّيته حتى أنفِّقَه.

وكان أسامة محل رعاية وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر عطاء بن يسار قال: كان أسامة بن زيد قد أصاب الجدري أول ما قدم المدينة وهو غلام، مخاطه يسيل على فيه، فتقذر به عائشة رضي الله عنها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق يغسل وجهه ويقبله، قالت عائشة: أما والله، بعد هذا فلا أقصيه أبداً. وسقط أسامة فأصاب وجهه شجة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص الدم ويبصقه. ولا عجب بعد هذا أن يكون نقش خاتم أسامة: أسامة حب رسول الله.

زوَّج الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة وهو ابن خمس عشر سنة زينب بنت حنظلة بن قسامة الطائي، ففارقها وزوَّجه أخرى هي فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس رضي الله عنهما، وذلك بعد طلاقها من زوجها، روى مسلم في صحيحه عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حَلَلْتِ فآذنيني. فآذنته، فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فرجل تَرِبٌ لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضرَّاب للنساء، ولكن أسامةُ بن زيد. فقالت بيدها هكذا أسامةُ أسامةُ؟! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: طاعة الله وطاعة رسوله خيرٌ لك. قالت: فتزوجتُه فاغتبطتُ وبارك الله لي في أسامة. وأولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنائه بأهله.

وشارك أسامة بن زيد في غزوات الرسول من الخندق فما بعدها، وردَّه الرسول يوم أحد لصغر سنه إذ كان في الرابعة عشرة.

وولد لأسامة ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسامة أسوداً بطيناً يلقب ذا البُطين، وكان ابنه أسوداً كذلك، دخل به أسامة مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، لو كان هذا جارية ما نفقت. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، إن شاء الله يجعل لها مسكان من ورق، وقرطان، ويجعل على المسلمين حلوق، فكأنه ذهب.

قال حكيم بن حزام: كان محمد النبي صلى الله عليه وسلم أحبَّ رجل من الناس إليَّ في الجاهلية فلما نبئ وخرج إلى المدينة شهدت الموسم وأنا كافر، فوجدت حلة لذي يزن تباع فاشتريتها لأهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمت بها عليه المدينة فأبى الرسول أخذها هدية وقال: إنا لا نقبل من المشركين شيئا، ولكن إن شئت أخذتها منك بالثمن. فأعطيته إياها بالثمن، فلبسها فرأيتها عليه على المنبر، فلم أر أحسن منه يومئذ فيها، ثم أعطاها أسامة بن زيد فرأيتها عليه فقلت: يا أسامة، أتلبس حلة ذي يزن؟ قال: نعم، والله لأنا خير من ذي يزن، ولأبي خير من أبيه. قال حكيم: فانطلقت إلى مكة فأعجبتهم بقول أسامة.

وكان عمر يجل أسامة بن زيد ويكرمه وفضَّله في العطاء على ولده عبد الله بن عمر، فرض عمر لأسامة ثلاثة آلاف وخمسمئة ولابنه عبد الله بن عمر ثلاثة آلاف، فقال ابن عمر: فَضَّلتَ علّي أسامة وإنما هجرتي وهجرته واحدة، وقد شهدتُ ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأبوه كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك. وكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى أسامة، قال: السلام عليك أيها الأمير. فيقول: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، تقول لي هذا! فكان يقول: لا أراك إلا أدعوك الأمير ما عشت، ومات صلى الله عليه وسلم وأنت عليَّ أمير.

واعتزل أسامة الفتن بعد قتل عثمان، قال حرملة مولى أسامة: بعثني أسامة بن زيد إلى علي بن أبي طالب، ثم قال لي: إنه سيسألك عني ويقول: ما خلفه عني؟ فأقرئه السلام، وقل له يقول لك: والله لو كنت في شِدق الأسد لأحببت أن أكون معك، ولكن هذا أمرٌ لم أره. فأتيت علياً فأخبرته.

وكان أسامة قد سكن المزة قرب دمشق، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة فمات بها بالجُرف سنة 54، وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 128 حديثاً.

ووالدة أسامة هي أم أيمن الحبشية، واسمها بركة بنت ثعلبة، وغلبت كنيتُها اسمَها وكنيت بأم أيمن على اسم ابنها من زوجها الأول أيمن بن عبيد بن عمرو السالمي الذي مات شهيداً يوم حنين، وهي مولاة النبي صلى الله عليه وسلم وحاضنته، ورثها من أبيه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أم أيمن أمي بعد أمي. هاجرت الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، وقد زارها أبو بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فبكت، فقال لها أبو بكر: أتبكين! ما عند الله خير لرسوله. فقالت: ما أبكي لذلك، ولكن أبكي لأن الوحي انقطع عنا من السماء، فهيجتهما، على البكاء، وتوفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر.

وفي سرية أسامة بن زيد قال الشاعر أحمد محرم رحمه الله في ديوانه مجد الإسلام:

سر يا أسامة ما لجيشك هازمُ ... أنت الأمير وإن تعتَّب واهمُ

قالوا: غلامٌ للكتائب قائد ... وفتى على الصيد الخضارم حاكم؟!

غضبَ النبيُّ وقال: إني بالذي ... جهل الغضاب الساخطون لعالم

إن يجهلوه فقد عرفت مكانه ... والعدل عندي لا محالة قائم

ولئن رموه بما يسوء فقد رموا ... من قبل والدَهُ، ولجَّ الناقم

نقموا الإمارة فيهما وهما لها ... أهلٌ فكلٌ أحوذيّ حازم

الخير فيه وفي أبيه فآمنوا ... يا قوم وانطلقوا كما أنا عازم

ساروا وظل مع النبي خليله ... والخطب بينهما مقيم جاثم

ينتاب مضجعه وينظر ما الذي ... صنع القضاء فهمُّه متراكم

مَرَضُ النبي طغى عليه، فقلبه ... يغشاه موج للأسى متلاطم

ودرى أسامة فانثنى في جيشه ... والحزن طام والدموع سواجم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين