الإسلام دين خيالي غير قابل للتطبيق؟!

هذا جملة قرأتها في مقالة لم أعرف كاتبها، قال: إن "المجتمع المسلم المثالي" كيان خرافي لم يوجد في أي عصر من العصور بعد محمد (صلى الله على محمد)، وإذن فإن الإسلام دين خيالي غير قابل للتطبيق وليس ملائماً لحياة الناس.

أحَقٌّ ما زعم كاتب المقالة؟ هذا هو الجواب.

-1-

نحن نتخيل "المجتمع" كياناً ستاتيكياً جامداً فنتصور أنه يمكن أن يبلغ درجة الكمال كما يمكن لبعض الجمادات التي يصنعها الإنسان، وهو ليس كذلك في الحقيقة؛ إنه كيان عضوي حيّ يتكون من عدد لامحدود من الكيانات العضوية الحية التي هي نحن، الناس: أنا وأنت وهو وهي وهم وهنّ والباقون.

لقد قدّم الإسلامُ الصورةَ النموذجية الكاملة التي ينبغي أن يسعى إلى بلوغها أفرادُ الناس وأن تجتهد في تطبيقها المجتمعاتُ المسلمة، لكنّ نقص وعجز وضعف الإنسان يَحول بينه وبين الكمال المطلق، فلا بد أن يقع منه النقص في ناحية ما، فهذا يبخل بماله، وذاك ينقر صلاته، والثالث مُبتلَى بالغيبة، والرابع يظلم زوجته وأولاده، والخامس يفقد أعصابه وتسوء أخلاقه، والسادس يكذب ويغش المسلمين... فلا بدّ أن تجد نقصاً ما في أي إنسان. وكذلك المجتمعات التي هي تراكم أفراد، لا بد أن يعتريها النقص بصور كثيرة.

يقول لنا الإسلام: اسعوا إلى الكمال، ولن تستطيعوه، فعسى أن تقتربوا منه بقدر المستطاع. ولأن الله الذي خلقكم يعلم ما فيكم من ضعف فإنه لا يحاسبكم على بُعدكم عن الكمال وعجزكم عن بلوغه، بل إنه يحاسبكم على قدر الوسع ومبلغ الاستطاعة فحسب: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.

-2-

قد يقول قائل: لماذا إذن قدّم الإسلامُ "النموذجَ الكامل" إذا كان الناس لا يطيقونه؟ الجواب: لأن الهدف ينبغي أن يكون عالياً لكي تكون النتيجة مُرْضية. مثلاً: يجتهد التلميذ ليحصل على نتيجة 100% فيصل إلى 90 أو 80، ولو أن هدفه الأعلى كان 70 فإنه سيحقق 60 أو 50، وقد ينزل دونها فيرسب في الامتحان.

الأمر الثاني: إنه سيقصر حتماً، ولكنّ تقصيره لن يكون في كل المواد، فهذا التلميذ سينال علامة كاملة في الفيزياء ودرجة متواضعة في التاريخ، وذاك الآخَر سيحقق نتيجة عالية في النحو ويخفق في الرياضيات.

إن "العلامة الكاملة في كل المواد" هي النموذج الأعلى الذي يندر أن يصل إليه التلاميذ، فهل نقول إن وزارة المعارف تطالبهم بالمستحيل وإن نموذجها خيالي غير قابل للتطبيق؟ لا، أبداً، بل نقول إنه نموذج واقعي، ولكن التقصير فيه وعدم بلوغ الكمال متوقَّع ومقبول، والنجاح مضمون لكل من حقق درجة خمسين، وفي بلوغ الدرجات العُلى يتنافس المتنافسون.

-3-

الخلاصة: إن الكمال يصحّ في الخيال، ولكنه في الدنيا مُحال. إننا نرجو -نحن آحادَ الناس وأفرادَهم- أن يكون الواحد منا مسلماً كاملاً، ولكننا لا نطيق ولا نستطيع، ولو كُلِّفنا بالكمال وحوسبنا على النقص لما نجا منا أحد ولبقيت الجنة بلا سكّان! والمجتمع المسلم ليس سوى تراكم لآحاد وأفراد المسلمين، فإذا كانت الأجزاء ناقصة بعيدة عن الكمال فلا بد أن يكون الكل الذي ينشأ من اجتماع الأجزاء ناقصاً بعيداً عن الكمال. ولكنّ أحداً لا يقول إن الإسلام دين خيالي لأن الفرد لا يستطيع أن يكون مسلماً كاملاً الوقتَ كله، وكذلك لا يقال إن الإسلام دين خيالي لأن المجتمع المثالي المسلم لم يتحقق بصورته النموذجية الكاملة في ألفٍ وأربعمئة عام.

إن الإسلام ليس ديناً خيالياً، بل هو -ببساطة- دين واقعي يراعي قدرات الناس، أفراداً وجماعات ومجتمعات، فيقدم لهم النموذج القياسي الكامل ثم يَقبل منهم قدر الوسع من الالتزام به والمحافظة عليه، فيقول: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، ثم يلقّنهم هذا الدعاء الجميل ويقول لهم: ادعوا به ربَّكم الرحيمَ الكريم: {ربَّنا لا تؤاخذنا إنْ نَسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تَحْمِل علينا إصْراً كما حملته على الذين من قبلنا} والإصرُ هو العبء الثقيل والعهد الشديد. {ربَّنا ولا تُحَمّلنا ما لا طاقةَ لنا به، واعفُ عنا واغفِرْ لنا وارحمنا}.

فهل بعد هذه الواقعية من واقعية؟ وهل فوق هذا الجمال من جمال؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين