الملحمة الإسلامية الكبرى شعر د.أحمد الخاني

صدرت الأعمال الشعرية الملحمية الكاملة للشاعر السوري أحمد الخاني، بعنوان الملحمة الإسلامية الكبرى، وذلك من نشر مكتبة التوبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1439هـ، 2017م، تقع في (1456) صفحة من القطع الكبير. وقد ضمت الملاحم الآتية في مسيرة الشاعر الطويلة: غزوة بدر، غزوة أحد، غزوة الخندق، غزوة مؤتة، معركة اليرموك، معركة القادسية، الحروب الصليبية، العثمانيون وفتح القسطنطينية، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية، الشيشان، في سبيل القدس، تونس، مصر، ليبيا، اليمن، سورية، عاصفة الحزم. والشاعر أحمد الخاني معروف بنفسه الشعري الطويل، وتجربته الغنية، وأسلوبه المتأنق، وصوره المحلقة.

وكان الشاعر أحمد الخاني بدأ مسيرته الشعرية بملحمة بدر، في العقد الأخير من القرن العشرين، وسعى مع الفريق الأديب الشاعر يحيى بن عبد الله المعلمي تكوين جماعة أدبية بمسمى مدرسة بدر الشعرية، مستلهمين من معركة بدر الكبرى، وشعرائه شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم اتجاههم الشعري، في الدفاع عن الإسلام، وصياغة أسلوبه، وكان الفريق المعلمي يقدم في إذاعة الرياض برنامجا أدبيا بعنوان (كتاب وقارئ)، قال في برنامجة عن الشاعر الخاني وعن ملحمة بدر أولى ملاحمه: إن طولها لم يؤثر على النفس الشعري فيها)، (وإن هذه الملحمة حرية أن تخلد في ديوان العرب لطولها، ونبل مضمونها، وحسن صياغتها).

وقال الناقد المعروف محمود رداوي عن ملحمة بدر: (أحداث ملحمة بدر الملحمية صاغها الشاعر أحمد الخاني بصة قاربت العشرة آلاف بيت ، وإنه لعمل كبير يستحق الوقوف عنده ودراسته لأنه عمل ريادي –فيما أرى – لم يسبقه أحد في صنعه هذا، فقد تضافر للشاعر أحمد الخاني مزج الفن والخيال بالحدث التاريخي الرائع، كما يبدو أنه عرف كيف يمكن للتاريخ أن يعود بصورة من الملحمة المعاصرة؛ فهو يحسن الدخول إلى عالم الرواية التي تجعل سامعه أو قارئه متجاوباً مع الرواة وأبطالهم، فياخذنا الشاعر الخاني على لسان رواة قريش وعبثهم إلى مشاهدة شياطينهم، وعفاريتهم، والتحليق في الأجواء عبر الكواكب والنجوم، ورؤية الجان التي ستستحيل إلى حيتان ونسور وغيلان.. كلها مقدمات جاهلية، وتمهيد للدخول إلى عالم أفضل تفوح به روائع بدر وتاريخها). (هذه الكلمات النقدية وردت في افتتاح الملحمة).

نظرات شكلية في الملحمة:

تتألف الملحمة من (1435) صفحة شعرية، وتضم الصفحة (23) سطراً شعرياً في المتوسط، وبذلك يبلغ مجموع الأبيات الشعرية بين دفتي الملحمة (33000) بيت شعري تقريباً. ولا شك في أنه إنتاج شعري ضخم في أحداث عظيمة من واقع تاريخنا الإسلامي القديم والحديث، وهي ملاحم بمعناها الواقعي كونها حروب وما يتبعها من أحداث ممهمدة لها، أو ناتجة عنها، وبمعناها الأدبي كون الشاعر الكبير أحمد الخاني توفر لها، واحتشد بكل طاقاته الشعرية، والنفسية، والثقافية الدبية والتاريخية والعقدية مندفعا بروح بدر الجهادية، ومنجذباً بروح البدريين الإيمانية، ومحاولاً اقتفاء آثار شعراء بدر في تخليد تلك الأحداث العظيمة أدبياً بأسلوب العصر الحديث، ورؤيته للماضي والمستقبل. 

محتويات الملحمة التفصيلية:

هذه الكمية الضخمة من مضمون الملحمة، الموزعة على هذا العدد الكثير من الصفحات، لابد لها من دليل للوصول إلى كنوزها المخبوءة، ودررها المكنونة، وجواهرها النفيسة المبثوثة بين موضوعاتها، التي تبدأ بغزوة بدر الكبرى، وتنتهي بعاصفة الحزم التي لما يهدأ هبوبها، ولما تنكشف غبارها.

والدليل هو كشاف المحتويات، أو فهرست الموضوعات من خلال عناوينها الريئيسة والفرعية التفصيلية، وهذا الذي لم أجده في صفحة الفهرس، فقد جاء شحيحا ضعيفا، غير مخدوم، ولا يعبر عن هذه الملحمة الكبيرة، وهذا محل تساؤل واستغراب! كيف يتم إغفال هذا الأمر المهم جدا!؟

وقد قمت بإحصاء تقريبي لعدد الأبيات الإجمالية في المحلمة كلها – كما ذكرت – وهو (33000) بيت، وحاولت إحصاء عدد الأبيات تحت لكل عنوان، فجاء كما يأتي: غزوة بدر: 4830 بيتاً، غزوة أحد: 4508 أبيات، غزوة الخندق: 4945 بيتاً، غزوة مؤتة: 2047 بيتاً، معركة اليرموك: 2323 بيتاً، معركة القادسية: 1403 أبيات، الحروب الصليبية: 4439 بيتاً، العثمانيون وفتح القسطنطينية: 1242 بيتاً، الحرب العالمية الأولى: 943 بيتاً، الحرب العالمية الثانية: 1012 بيتاً، الشيشان: 1196 بيتاً، في سبيل القدس: 1449 بيتاً، تونس: 253 بيتاً، مصر: 184 بيتاً، ليبيا: 575 بيتاً، اليمن: 299 بيتاً، سورية: 1518 بيتاً، عاصفة الحزم: 115 بيتاً.

وبالإحصاء التفصيلي هذا حدث فارق في العدد يقارب 300 بيت، وذلك يعود إلى عدم الدقة في العد، وهو فارق نسبي أقل من 1%، واعذروني في ذلك. 

وبمقارنة العناوين الموجودة في كشاف محتويات الملحمة؛ مع العناوين المسجلة في صفحات الملحمة يظهر تجاوز عناوين مهمة جداً، وأن عنوان غزوة أحد ليس في مكانه الصحيح، حيث سجل في الصفحة 273، والصحيح أنه في الصفحة 196، وهذا له أثره في زيادة أبيات ملحمة بدر، زيادة غير صحيحة على حساب ملحمة أحد.

وعندما ننتقل من العناوين الأربعة الأولى (بدر، وأحد، والخندق، ومؤتة)؛ إلى معركة اليرموك، نكون قد طوينا العهد النبوي من تاريخ الإسلام، وفيه غزوات كثيرة للرسول صلى الله عليه وسلم، منها غزوة الحديبية وبيعة الرضوان، وفتح مكة، وغزوة حنين، وغزوة تبوك، وحجة الوداع، وغزوات وسرايا أخرى لا نطالب الشاعر بها جميعاً، ولكننا لا نغض الطرف عن تجاوز الغزوات الكبرى التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، ونزلت فيها سور وآيات تتلى، كما لا نغض الطرف عن تجاوز حروب الردة في عهد الصديق رضي الله عنه، التي هزت المسلمين في العهد الأول وزلزلوا زلزالاً شديداً، وبعض الأحداث مذكورة بين الغزوات ستظهر في العناوين التفصيلية إن تم تسجيلها.

طريقة الشاعر في صياغة ملحمته:

اتبع الشاعر أحمد الخاني طريقة الرباعيات في صياغة قصائد ملحمته، تتغير القافية من رباعية إلى أخرى، وأستعجل فأقول: لقد أحسن الشاعر في اتباع هذا النهج، لأنه يعطيه حرية أكبر في التعبير، وعدم حصر نفسه في قافية معينة يؤدي به إلى الضعف والتكرار، فمهما كانت الثروة اللغوية للشاعر من المفردات، فستبقى محدودة في ملحمة تصل إلى آلاف الأبيات.

وباستعراض صفحات الملحمة تبين لي التزام الشاعر بمقاطع الرباعيات، وما بدا لي في بعض الصفحات من خرم هذا الالتزام كان سببه التنسيق الفني، حيث اندمجت رباعيتان، فتتبعت ذلك، ووجدته في الصفحات الآتية: (482، 602، 713، 812، 858، 867، 884، 887، 925، 939، 957، 1019، 1044، 1053، 1079، 1081، 1223، 1228، 1239)، وربما في مواضع أخرى أيضاً.

وفي صفحات الملحمة خلل في الهامش الأعلى، فقد جرت العادة كتابة اسم الكتاب في اليمين، وعناوين الفصول، أو المباحث، أو العناوين الرئيسة في اليسار، وهنا مثلاً: ملحمة بدر، ملحمة أحد، ملحمة الخندق، وهكذا؛ ولكن لم يتم ذلك، فوضع اسم الملحمة في الصفحتين من دون أن يقدم للقارئ، أو المتصفح أي فائدة!.

وترتيب العناوين الداخلية مهم جداً، فينبغي أن يبدأ كل فصل، أو مبحث في صفحة جديدة، وهنا كل ملحمة، وكأنها مبحث مستقل، فلم يتم ذلك أيضاً، واندمجت العناوين الرئيسة مع العناوين الفرعية البينية، ضاعت معه معالم تقسيم الملحمة.

وقد جاءت مجموعة من العناوين في نهاية الصفحة آخر سطر، وهذا الأمر يتم اجتنابه في أي كتاب صغير أو كبير، فلا يترك عنوان في نهاية صفحة من دون أن يكون بعده أي كلام يتبعه. وقد رصدت مواضع من ذلك في الصفحات الآتية: (568، 587، 602، 643، 660، 678، 682، 768، 844، 880، 892، 979، 1044، 1059، 1201، 1228، 1277)، وهذه المواضع وإن لم تكن كثيرة بالنسبة لمجموع صفحات الملحمة؛ لكنها لافتة للانتباه، ومشوهة لهذا العمل الكبير وكان يمكن تجنبه، إذ مجموع هذه الملحوظات الأربع: عدم وضع بداية مستقلة لكل ملحمة، وعدم ذكر عنوان الملحمة في أعلى يسار الصفحات، وتداخل بعض مقاطع الرباعيات، وانتهاء بعض الصفحات بعنوان؛ أثرت في جمالية إخراج هذا العمل، ويرجى تداركه في الطبعة الثانية؛ إن شاء الله.

الدراسة الفنية للشكل والمضمون: 

لست بصدد تقديم دراسة فنية متعمقة للشكل والمضمون، فذلك يحتاج وقتا وجهدا لا أملكه، ولعل بعض طلبة الدراسات العليا في كلية الآداب يقومون بذلك، فيلقون الضوء على هذا العمل الكبير، والجهد المشكور من الشاعر أحمد الخاني، في خوض تجربة الملحمة الشعرية التي تعد أحد الأشكال الفنية القديمة في الأشعار العالمية، ويقال لنا: إن الشعر العربي لم يخضه، وإن كانت كلمة الملحمة ذاتها معروفة في عالم الشعر والأدب، وهذا أمر يدرس في محله من كتب نقد الشعر وأنواعه، وقد توفر الدكتور الشاعر عدنان النحوي –رحمه الله- على هذه المسألة، فكتب مجموعة من الملاحم الشعرية، ضمنها مقدمات تاريخية نثرية عن الموضوع، وقدم رؤيته الخاصة في الفارق بين الملحمة الشعرية العربية، وملاحم اليونان والآداب العالمية من حيث المضمون والأساليب.

واشتهر ديوان الإسلام، أو (الإلياذة الإسلامية) للشاعر أحمد محرم –رحمه الله- نظم فيه السيرة النبوية، وقدم شعراً راقياً يُنتظَر من مثله، كانت وحدة القافية فيها تتبع القصيدة، وليس بأسلوب الرباعيات التي اتبعها شاعرنا أحمد الخاني، وأتوقع أنه قد اطلع على ديوان الإسلام لأحمد محرم، وبعض ملاحم النحوي، وغيرها من الملاحم الشعرية القديمة والحديثة في الآداب العربية وغير العربية، وأفاد تجربته الشعرية من تلك التجارب.

نماذج من بدايات ملاحم الخاني:

في الشعر يترك مطلع القصيدة أثراً كبيراً في سيرها، ويحس ذلك الشاعر والمتلقي، وقد عني الشعراء بالمطالع في أدبنا القديم، وسمي التصريع، تشبيها له بجناحي الباب (مصراعيه) يفتتح به القصيدة، والشاعر الخاني على ما يبدو قد التزم التصريع في كل رباعية، وهذا يحسب له، إذ جعل بذلك كل رباعية مستقلة شكلاً على الأقل، ويمكننا أن نمثل لذلك بمطالع الرباعيات المقاطع من صفحة عشوائية في وسط الملحمة من غير قصد، ولتكن الصفحة (600)، فنجد فيها المطالع الآتية:

- حتف هود تطايُرُ النشابِ = حصرتهم على الردى بالتهابِ 

- قال سلَّام فاوضوا = ليس فينا مناهض

- بعد أخذٍ وردِّ = واعتراض وصدِّ

- أنزلوا شأس من على الأسوار = فتدلى على قفير هار

- قال شأس فما جهدنا نزالا = إنها الحرب قد تمد نضالا

- إن أردت الغداة ننزل سلماً = فعلى حكم قومنا من نضير

فهنا ستة مقاطع رباعية، خمسة منها بدأت بالتصريع، والسادس من غير تصريع، وهذا الاختلاف قليل نادر، والغالب هو التصريع. 

وعني بعض الشعراء بنهاية القصيدة، واشتهر ذلك عن الشاعر عمر أبي ريشة، ويعنى بها ممن تأثروا به الشاعر حيدر الغدير.

ولننظر هنا بعض مطالع ملاحم الشاعر الخاني، متخذين الرباعية الأولى من كل ملحمة؛ بمثابة البيت الأول من القصيدة العربية المعلقات نموذجاً.

افتتح الشاعر أحمد الخاني ملحمة بدر، بهذه الرباعية (ص19):

عزف النور لحنه البكر فجرا = فتهادى بمسمع الخلد نصرا

وشدا السيف أي لحن ندي = خط بالحب في البطولات سطرا

من شذاه تبرعم الصخر حباً = ضمخ الكون بالملاحم عطرا

أبدع الخلد لحن حب وحرب = في الدياجي، فكان في النور بدرا

بدأ البيت الأول بالتصريع (فجرا، ونصرا)، وأبدع الشاعر بكلماته وصوره، وحلق في البيت الأول تحليقا رائعا يعبر عن مدى تأثره بالنصر الذي تحقق في غزوة بدر، وهو نصر بكر لأنه أول نصر يتحقق للمسلمين، والفجر الذي ذكره في البيت الأول جاء بعد ليل الكفر والمعاناة الذي أمضاه المسلمون، وأضناهم في العهد المكي؛ هو النصر الخالد الذي ختم به البيت الأول، وصوت اللحن الذي أطلقه النور في الشطر الأول؛ وقع في سمع الخلد في الشطر الثاني، وبذلك يتم تلاحم المعنى والألفاظ والصور في البيت الأول تلاحماً يليق بجلال موضوعه (غزوة بدر). وجمع فيه الشاعر بين الصوت والصورة والحركة، فالعزف واللحن والمسمع عناصر الصوت، وفي أداء العزف والتهادي الحركة، وفي إسناد العزف إلى النور، وإسناد المسمع إلى الخلد تصوير المعنوي بالمحسوس من خلال التشبيه باسلوب الاستعارة المكنية.

وفي البيت الثاني:

وشدا السيف أي لحن ندي = خط بالحب في البطولات سطرا؛

من سطوع الشعرية مثل ما في البيت الأول، فالسيف شدا لحنا، مثل النور الذي عزف لحنا مع فارق أن لحن السيف صوت مسموع؛ صليل السيوف في الحرب، ولكنه جعل هذا اللحن المهيب للسيوف عادة؛ لحنا نديا لطيفا، وحول اللحن إلى خط يكتب سطرا في البطولات من دون أن يحضر للكتابة عنصرا آخر، والسيف الذي هو عدة الحرب والقتل؛ حين جعله قلما يكتب؛ يستعمل حبر الحب في سطره، ونلاحظ هنا علاقة لفظية جميلة بين الحب والحبر، فالسيف الذي له سطوة وغلظة قد رق هنا، فألحق راء الحبر بآخر السطوة لتكون سطرا، وبقي الحبر حبا، فانقلب المعنى من الموت إلى الحياة، ومن القساوة إلى النداوة، وهذا غاية التوفيق لدى الشاعر في هذا الموضع. وفي هذا البيت كالبيت الأول صوت وصورة وحركة.

ويتابع الشاعر إبداعه في البيت الثالث:

من شذاه تبرعم الصخر حباً = ضمخ الكون بالملاحم عطرا

في هذا البيت ركز الشاعر على حاسة الشم من خلال ثلاث كلمات هي: (شذاه، وضمخ، وعطرا)، ورسم صورة جميلة في تحول الصخر القاسي إلى براعم حب، والتبرعم يحضر لنا صور براعم الورود مع الكلمات التي ملأت إحساسنا بالشذا المضمخ والعطر، ثم إنها جميعا تنقلب إلى الحب، وهي الكلمة التي نقلها الشاعر من البيت الثاني ليتلاحم البيت الثالث مع سابقيه في السبك، ويلفت انتباهنا سعة الصورة البصرية وهي الكون كله، وهذا الشذا الذي ضمخ الكون عطرا هو النصر الذي تحقق في بدر نصرا خالدا مع الزمان.

وفي البيت الرابع خاتمة الرباعية الأولى:

أبدع الخلد لحن حب وحرب = في الدياجي، فكان في النور بدرا؛

نجد الشاعر يلملم المعاني التي عبر عنها في الأبيات الثلاثة السابقة، ويستحضر كلمات منها، وهي: (النور والخلد واللحن من البيت الأول، والحب من البيت الثاني، والحرب الذي عبر عنها بكلمتي: السيف والبطولات، وقد واءم بين الحب والحرب بالجناس اللفظي، والطباق المعنوي لأن الحب يعني السلام وهو ضد الحرب الذي يعني الكراهية والبغض. وواءم أيضاً بين الدياجي والنور، فالدياجي تمثل الكفر والظلم، والنور يمثل الإيمان والعدل، وجاءت كلمة (بدراً) التي قفل بها رباعيته في منتهى التوفيق، لتعبر عن النور الحقيقي الذي ينير الدياجي في الليالي في اكتماله بدراً، مشكلاً تورية موفقة مع اسم المعركة ومكانها في الأرض (بدر)، فبدر الأرض سطع في السماء، وبدر السماء أنار وجه بدر الأرض. في تلاحم رائع بين الكلمات والصور والمعاني تلاحماً يليق بهذه المناسبة العظيمة معركة بدر، أولى ملاحم الشاعر، فلله رده!.

ويقول الشاعر في مطلع ملحمة أحد (ص228):

طُوِيَ الحول والليالي حبالى = تلد النار، والشرار توالى

مكة لفها الضرام لثأر = هُبَلي تدك فيه الجبالا

لم تمس المياه هامة فحل = باغتسال ولا الطيوب نوالا

وبهند من اللظى نار نمرو = دٍ وتهذي بثأرها إعوالا

هذه الرباعية بدأت بالتصريع من الناحية الفنية، بكلمتي: حبالى وتوالى، كما في مطلع ملحمة بدر، وعلى طريقة الشعر العربي القديم، تصور حالة الثأر والانتقام والحقد التي عاشها المشركون من أهل مكة، وكيف أنهم استعدوا طيلة حول كامل لمعركة الثأر لقتلاهم في بدر. والشاعر يهيئ لنتائج معركة أحد، وما أصاب المسلمين من القرح؛ من القتل والجرح، والليالي حبالى تلد النار، وهي صورة شعرية رهيبة في البيت الأول، والأبيات الثلاثة التالية شرح حالة الليالي الحبالى بالنار، فضرام الثأر الوثني يلف مكة، ووصفها بالهبلي نسبة إلى كبير الأصنام لدى قريش (هبل)، وفيه ترشيح لما سينادي به أبو سفيان آخر المعركة: اعل هبل، ورد المسلمين عليه: الله أعلى وأجل.

وكان رجال من قريش قد أقسموا ألا يمسوا غسلاً ولا طيباً، أي لا يقربوا النساء، حتى يثأروا لقتلاهم، أو هكذا كانت العرب تفعل، حين يشتد حقدها، ورغبتها في الانتقام، ويخصص بالذكر هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان التي قتل أبوها وأخوها وعمها في بدر، وهو تمهيد أيضاً لما سيقع منها فيما بعد في معركة أحد من الأهوال في الانتقام.

وهذا المطلع مناسب لافتتاحية ملحمة أحد، ونجح الشاعر في تضمينه إشارات إلى ما يتوقع من أهوال في المعركة.

وبداية ملحمة الخندق في الصفحة 425، لا في الصفحة 426، كما تضمن الفهرس، بعنوان: الخندق عشرة آلاف سيف، أما العنوان في الصفحة التالية فهو: الخندق، ويعني حفر الخندق، يقول الشاعر: 

وانتضى الليل من صفاح الحديد = راعف الموج بالقراع الفريد

جبل من ضوابح وبحار = تتلاقى على التهاب الوقود

قهقه الموت والغبار تعالى = لفَّع الشمس بالنقاب الجديد

نطق السيف: يا ملاحم بشرى = زغردي اليوم للفناء وزيدي

هذه الرباعية كسابقاتها تبدأ بالتصريع بين الحديد والفريد، ملتزما بالنهج الشعري في بناء الملحمة، والبيت الأول يصور شدة المعركة، فالليل كناية عن الشدة، ولكن ليل الخندق ليس ليلا عاديا، لكنه مصفح بالحديد، وهو إشارة إلى كثافة جيش المشركين الذي كان كالليل، فكان ليلا لبس صفاح الحديد من الدروع السابغة على المقاتلين، ولربما لم تعرف جزيرة العرب قبل ذلك هذه الكثافة العددية لجيش في داخلها من أبنائها، فكانوا كالموج الراعف يتدفق نحو المدينة المنورة (يثرب) متوجهة إلى معركة لم ير مثلها، في قراع فريد لا سابقة له. وهذا القراع الفريد، يرشح لما سيفاجأ به جيش المشركون من الخندق المحيط بالمدينة، حيث لا عهد للعرب بحرب من هذا النوع، وستنتهي المعركة أيضاً بنوع فريد من النهاية، إذ يرسل الله ريحاً وجنوداً لم يروها، ويكفي الله المؤمنين القتال، ويرد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، أليس هذا هو القراع الفريد في أول المعركة وآخرها!؟

والأبيات الثلاثة التالية للبيت الأول تصور كثافة المشركين العددية: جبل من ضوابح، وهي الخيول الضابحة في جريها، وفي أرض المعركة، مقتبسا من الآية: (والعاديات ضبحاً)، وينتج عن ذلك الغبارُ المتعالي، وفيه اقتباس من الآية التالية: (فأثرن به نقعاً)، أما قهقهة الموت فصورة مرعبة مزلزلة، وهي إشارة إلى ما ورد في وصف حال المسلمين: (وبلغت القلوب الحناجر)، وتأتي البشرى في البيت الرابع مرشحة للنصر الذي كتبه الله للمسلمين، وانفرج ظلام الليل، فكانت الزغاريد مؤذنة بفناء الكفر والشرك، وظهور الإسلام.

فهذه الرباعية أيضاً وفق فيها الشاعر في رسم صورة مهولة للمعركة استعان فيها بالحركة والصوت والرؤية البصرية، آخذاً بمجامع قلوبنا، وهو ينقلنا من قهقة الموت، إلى زغردة الملاحم.

ونأخذ رباعية رابعة أخيرة نموذجاً مطالع الملاحم التي تعد افتتاحيات الملاحم، وتشعرنا بمدى توفيق الشاعر، واحتشاده لسبك ملاحمه، وأية مشاعر عاشها، وتجارب شعرية خاضها، وهو يضع نفسه في أتون تلك الملاحم في عالم الخيال، وكأنه يصطلي بنارها، ويستنشق عبير غبارها، ويرتدي سوابغ دروعها مع أبطالها، يقول في مطلع ملحمة مؤتة (ص641):

ورسول الإله ظل ظليل = أنت يا زيد قائد وخميل

بعد زيد إذا قضى فشبيهي = جعفر الحرب وهو فيها جميل

جعفر إن أصيب فابن رواح = ورواء الجنان منهم خضيل

قال فنحاص: فاعهدوا يا ليوث = لن تعودوا إذا يكون القفول

يفتتح الشاعر ملحمة مؤتة من ساعة تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم قادة جيش مؤتة الثلاثة، وهو يرتبهم واحدا تلو الآخر، وهو أمر لم يحصل في أية سرية سابقة من السرايا التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قبائل العرب، مما أشعر المسلمين بأهمية هذه المعركة. 

والمعارك التي لا يحضرها الرسول صلى الله عليه وسلم تسمى سرايا، غير أن مؤتة اشتهرت أنها غزوة لأهميتها الكبرى، ولما وقع فيها من استشهاد ثلاثة قادة على التوالي، ونعاهم الرسول من منبره في مسجده بالمدينة، فكأنه كان حاضراً معهم، والله أعلم.

يبدأ الشاعر الرباعية قائلا: 

ورسول الإله ظل ظليل = أنت يا زيد قائد وخميل

وفيه ترصيع كالمقاطع السابقة بين ظليل وخميل، وكلمتا ظليل وخميل، متقاربتا المعنى من ناحية الظل، فالخميل كما في المعجم: الشجرَ المُجْتمِعُ الكثيرُ الملتَفُّ الذي لا يُرَى فيه الشيءُ إذا وقع في وَسَطِهِ. وكلُّ مَوضع كَثُرَ فيه الشجرُ. فهل قصد الشاعر شدة قرب زيد من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الرسول ظلا ظليلا للمسلمين، فإن زيداً خميل محبب للمسلمين، وهو إذ يكون القائد الأول للجيش، فالجيش تحت إمرته، كما يكون الركب والسفر في ظل الخميلة. وهذا معنى جميل في هذا الموضع.

وإذا قضى زيد واستشهد فإن جعفراً شبيه الرسول يخلفه في القيادة، وهو أهل لها، فهو جميل في موقعه، وسيكون أمره جميلا، وفي البيت إشارة إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن جعفر: (أشبهت خَلْقي وخُلُقي)، وبعد جعفر تولى القيادة عبدالله بن رواحة، وأشار في البيت الثالث إلى استشهاد الثلاثة بقوله: (ورواء الجنان منهم خضيل).

أما البيت الرابع في هذه الرباعية الافتتاحية:

قال فنحاص: فاعهدوا يا ليوث = لن تعودوا إذا يكون القفول؛

فلم أجد له مخرجاً، ولا مدخلاً! وليعذرني الشاعر! فمن هو فنحاص هذا الذي يخاطب القادة الثلاثة الليوث أن يعهدوا، لأنهم لن يعودوا من هذه المعركة حين يعود الجيش الغازي المجاهد قافلا!؟ هذا إخبار بالغيب يسنده إلى فنحاص، وفنحاص يهودي لطمه أبو بكر رضي الله عنه حين ذهب إلى مدراس اليهود يدعوهم إلى الإسلام، فقال فنحاص في الله قولا منكراً، فضربه أبو بكر على وجهه، ونزلت فيه الآية: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ? سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} (آل عمران)، ولقد بحثت عن فنحاص هذا وقوله، فلم أعثر على شيء، فأنى لك هذا ياشاعرنا الكبير!؟ 

وهذه الرباعية دون سابقاتها الثلاث في التمهيد للملحمة الكبيرة ملحمة غزوة مؤتة، وهي أقرب إلى النثرية في سرد تعيين القادة الثلاثة. 

وبعد؛ فهذا غيض من فيض، أو قطرة من بحرة يمكن كتابتها حول هذه الملحمة من دارس متخصص، وهي جديرة بذلك، والشاعر جدير بذلك، وله سوى هذه الملحمة دواوين أخرى. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين