الإسلام في أفريقيا (44) زاهد إفريقية جبلة بن حمود بن عبد الرحمن

الزاهد الفاضل الفقيه العالم العامل الورع الثقة المرابط المجاهد

ترك جبلة بن حمود سكن الرباط ونزل القيروان، فقيل له في ذلك، فقال: كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر والآن حلَّ العدو بساحتنا وهو عبيد الله الشيعي.

هو من أبناء القادمين مع حسان بن النعمان، أسلم جده على يد (عثمان بن عفان) رضي الله عنه.

قال ابن الحارث: كان جبلة بن حمود من أهل الخير البيّن، والعبادة الطاهرة، والورع، والزهد، وكان الغالب عليه النسك والزهد.

زهد جبلة وعبادته وفضله

قال أبو العرب: كان جبلة صالحاً ثقة زاهداً، كان يقيم بقصر طوب، ثم لزم القيروان، فسمع منه الناس، وكان صحيح السماع من سحنون، ثقة.

قال أبو الغصن: رحم الله أبا يوسف، فلقد كان سيد أهل زمنه. وقال سحنون وقد رآه مقبلاً: إن عاش هذا الشاب فسيكون له نبأ، وهو أزهد زمانه.

قال بعضهم: ما رأيته قط يذكر الدنيا بمدح ولا ذم. وقال أبو موسى: ما رأيت أزهد من جبلة.

وحضر جنازة مع حماس وسعيد بن الحداد، فقال له سعيد: تقدم يا أبا يوسف، فأنت أزهد منا وأسن منا وأعلم منا.

قال أبو بكر الزويلي: كان قوت جبلة في الشهر (ثمنين) شعيراً، كان يطحنهما ويجعلهما في قلة، فكان إذا رأى الشمس تغيرت خرج إلى الفحص فأخذ ما وقع على يده من بقل البرية وأتى به إلى بيته وجعل القديرة على النار وجعل فيها ذلك البقل فإذا غلت ادخل يده في تلك القلة وأخرج قبضة من الدقيق فألقاها فيها ثم أفطر على ذلك، فكان هذا عيشه، ومثل هذا كثير من ورعه.

وذكر أبو العرب في كتابه الطبقات قال: خرج علينا جبلة وعليه قميص و(غلالة) وسراويل ومنديل على أكتافه وكانت ثيابه تلك قد أكلها الجراد فقوم بعض من كان معنا من الطلبة جميع ثيابه التي كانت عليه بثلاثة أرباع درهم.

مواقف جبلة تجاه السلطان وقضاته

ولما كانت أيام أبي العباس بن الأغلب وولي الصديني القضاء، كان جبلة يصلي في مسجده يوم الجمعة الظهر أربع ركعات بأذان وإقامة، فقال له المؤذن: أترى أن أؤذن وأقيم في داخل المسجد فإن الوقت حاد؟ فقال جبلة: تؤذن وتقيم في الصحن وإلا فالزم دارك، لو منعنا أحد من الصلاة لرميناه بالنبل. ووجه إليه أحمد بن أبي سليمان مع أبي بكر المعلم فقال: قل له: يا أبا يوسف كيف جاز لك أن تصلي أربعاً والجامع يجمع، فأتاه فأخبره بقول أحمد. فقال: قل له يا أحمد ألم يمر بك قول مالك في المسجونين أنهم يجمعون في السجن لأنهم منعوا من الجمعة ونحن منعنا من الجمعة فأقمنا لأنفسنا مقام المسجونين، فأخبرت أحمد بقوله، فقال: رحمك الله يا أبا يوسف. وكتب الصديني إلى أبي العباس الأمير: إن جبلة يصلي في مسجده يوم الجمعة بأذان وإقامة، فأرسل إليه الأمير: مد يدك إلى من شئت واحذر جبلة.

موقف جبلة من دولة العبيديين

قال عبد الله: ولما دخل عبيد الله إلى إفريقية وملكها ونزل برقادة ترك جبلة - رحمه الله - سكنى قصر الطوب وأتى إلى القيروان فسكنها فخوطب على ذلك وقيل له - أصلحك الله - كنت بقصر الطوب تحرس المسلمين وترابط فتركت الرباط والحرس ورجعت إلى ها هنا؟ فقال: كنا نحرس عدواً بيننا وبينه البحر فتركناه وأقبلنا على حراسة هذا الذي حل بساحتنا لأنه أشد علينا من الروم، فكان إذا أصبح وصلى الصبح خرج إلى طرف القيروان من ناحية رقادة ومعه قوس ونشابه وسيفه وترسه وجلس محاذياً لرقادة فيقيم نهاره أجمع في ذلك الموضع، فإذا كان عند غروب الشمس رجع - رحمه الله - إلى داره.

وكان رحمه الله يحرس بالعشي عند الفرانق فقيل له في ذلك فقال: أحرس عورات المسلمين من هؤلاء القوم فإن رأيت منهم شيئاً حركت المسلمين عليهم.

قال الشيخ أبو الحسن بن القابسي - رحمه الله - : كان جبلة رحمه الله يصلي الجمعة في مسجده ويجتمع إليه الناس فجاءه صاحب المحرس يتجسس عليه قال: فأخذه جبلة وأدخله المسجد وضربه بالجريد ولم يتركه حتى تاب وحلف أن لا يعود.

ولم يكن في وقته أكثر اجتهاداً منه في مجاهدة عبيد الله وشيعته، وكان لا يداري في ذلك أحداً من الخلق فسلّمه الله عز وجل منهم وحماه من كيدهم ومكرهم.

قال أبو الحسن: وإنما سلك أبو إسحاق السبائي في بغض عبيد الله وشيعته طريق جبلة بن حمود رحمهما الله

وجاء رجل إلى جبلة على لسان المروذي فقال له: يقول لك القاضي سلم تسليمتين، واقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) وقل (حي على خير العمل). فقال له جبلة: مر قبحك الله وقبح من أرسلك، قال: فأخبرني من تبعه قال فقلت له: لا تقل للقاضي ما قال لك الشيخ، فقال: لا. فتبعه من حيث لا يعلم فأتى إلى القاضي فقال: مضيت إلى جبلة برسالتك فقال لي: قبحك الله وقبح من أرسلك. فقال له المروذي: يا كذا وكذا أنا أرسلتك إلى جبلة، جبلة ليس بإمام ولا مؤذن تجيء إلى أولياء الله تتعرض بي لدعائهم. قال: فخرج فقلت له: لا مع الله ولا مع الشيطان، ظننت أن المروذي يمد يده إلى جبلة. 

وعن أبو بكر أيضاً قال: لما اتصل بجبلة أن بعض أهل القيروان خرجوا يتلقون أبا عبد الله الشيعي تقية من شره ومداراة له فقال جبلة: اللهم لا تسلم من خرج يسلم عليه. واغتم لذلك غماً شديداً، فلما انتهوا إلى وادي أبي كريب جُردوا وأخذت ثيابهم فلما عرف جبلة بذلك قال: ما غمني إلا رجل واحد فيه خير لا دنيا له. والرجل هو حماس بن مروان القاضي. وكانت لجبلة فراسة لا تخطئ.

ولما حضر - رحمه الله - أول خطبة لبني عبيد الله في جامع القيروان جلس عند المنبر فسمع خطبتهم فلما سمع ما لا يجوز سماعه قام قائماً وكشف عن رأسه حتى رآه الناس ومشى من المنبر إلى آخر باب في الجامع - جامع القيروان - والناس ينظرون إليه حتى خرج من الباب وهو يقول: قطعوها قطعهم الله. فمن حينئذ ترك العلماء حضور جمعتهم وهو أول من نبّه على ذلك رحمه الله.

وصعدت روح جبلة بن حمود إلى الرفيق الأعلى سنة (297هـ/909م) عن سبع وثمانين سنة قضاها بين طلب العلم ومقارعة أهل الباطل من أصحاب الأقوال الباطلة والدعوات المنحرفة بلا خوف أو كلل أو ملل. رحم الله هذا المجاهد الجليل وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين