من أساليب التربية النبوية: الالتفات إلى الأهم

 عثمان قدري مكانسي


    
     يكون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالساً بين أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ يعلمهم ويربيهم ، يحادثهم ويحاورهم ، يباسطهم ويوادهم . . فيهم الألمعي الذكي ، وفيهم البسيط الغر ، وفيهم الصغير الغمر القليل الخبرة ، وفيهم ذو السن الذي حنكته التجارب وعركته الحياة ، فدرى كنهها وذاق حلوها مرها . .
     ويسأله أحدهم سؤالاً ليس له جواب ، إما لأنه من علوم الغيب التي استأثر الله سبحانه نفسه بها فلا يطلع عليه أحداً ، وإما أن الجواب ليس له فائدة تذكر ، والمعرفة به لا تضيف جديداً ، وهنا يستغل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السؤال ويبني عليه قضية جديدة  جديرة بالنظر والتفكير والتأمل ، جديرة بالعمل فيما ينتج عنها ، وهذا هو الأهم .
     فمن ذلك ما رواه أنس ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابياً سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
     فقال : متى الساعة يا رسول الله ؟
     فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ماذا أعددت لها ؟
     قال : حب الله والرسول .
     فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنت مع من أحببت(1) .
     فالأعرابي – كما رأينا - يسأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر غيبي لا يعرفه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا ينتج عن معرفته أمر إيجابي ، ولا عن الجهل به أمر سلبي ،وهنا نجد أسلوب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ـ ويسميه البلاغيون : أسلوب الحكيم أو الالتفات إلى الأهم ـ فيجيب عن سؤاله بسؤال : ماذا أعددت لها ؟
     فالمهم في معرفة يوم القيامة الاستعداد لها ، والعمل الدؤوب الناصح ، وعندها يقر الأعرابي أنه قليل العمل ، ضعيف الهمة ، إلا أن في قلبه حباً عظيماً لله سبحانه ولرسوله الكريم . .
     جواب ـ إن صدق فيه ـ عظيم ، فهذا جوهر الإيمان ، وحقيقة الإسلام ، وهنا يقرر النبي       ـ صلى الله عليه وسلم ـ قاعدة نورانية ، ضياؤها يشع ويملأ النفوس أملاً ، والقلوب سعادة ، والجوانح خشوعاً : أنت مع من أحببت ، وهل هناك هدف أسمى وأعظم من هذا الهدف ؟!!
     قال أنس ـ في رواية أخرى ـ فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام أشد مما فرحوا يومئذ(2).
     ومن هذا القبيل ( أسلوب الحكيم والالتفات إلى الأهم ) ما رواه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن امرأة أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصبي .
     فقالت : ادع له ، فقد دفنت ثلاثة .
     فقال : احتظرتِ بحظار شديد من نار(3) .
     فهذه امرأة – كما قرأنا - فقدت ثلاثة من أطفالها ، فلما ولد الرابع جاءت به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كي يدعو له بطول العمر. . ودعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مستجاب ، ويحق لها ذلك ، فهي   أم ، وما أدراك من الأم ؟! فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أرادت ، لكنه نبهها والمسلمين إلى فضل من الله عظيم كتبه ـ تعالى ـ لمن يفقد أبناءه : إنه النجاة من النار .
     ومن هذا القبيل أيضاً : ما رواه عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد الجهاد فقال له الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أحي والداك ؟
     قال : نعم .
     قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ففيهما فجاهد(4) .
     لفتة عظيمة من القلب الرحيم ، والمعلم العظيم ، ودرس رائع من أستاذ الأساتيذ ، ومعلم الناس الخير .
     فالجهاد ذروة سنام الإسلام ـ لا شك في ذلك ولا ريب ـ لكن رضاء الوالدين والقيام عليهما ، وتلبية حاجاتهما جهاد وأي جهاد !!
     إن قيامك على أمرهما ، وإرضاءك لهما جهاد عظيم فلا تـُفـَوّته أيها المسلم .
     وفي رواية أخرى عن رجل جاء يبايع على الهجرة ، وترك أبويه يبكيان ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما(5) .
     وأسلوب الحكيم قلّ من يستعمله ، فهو يحتاج إلى سرعة البديهة ، وذكاء ، وحسن في الأداء.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين