حديث اغتسال بني إسرائيل عراة

(سلسلة مقالات تتعلق بتوثيق نسبة صحيح البخاري إلى مؤلفه، ومدى قيمة نسخة الفربري، وشرح أحاديث مشكلة من الصحيح) (3)

قالوا: حدثتنا في مقالين لك سابقين عن توثيق نسبة صحيح البخاري إلى مؤلفه، وعن مدى قيمة نسخة الفربري، فشفيت وكفيت، ووعدتنا بشرح أحاديث مشكلة من الصحيح، فنرجو منك الإيفاء بهذا الوعد أيضًا.

قلت: اعرضوا علي ما التبس عليكم من أحاديث هذا الكتاب المبارك حديثا حديثا، فلا أتناول في مقال إلا حديثا واحدا، فإذا اقتنعتم بشرحي له أخذت في شرح حديث ثان، وهلم جرا. 

قالوا: نِعْم ما اقترحت، ولكن لا ندري بأي حديث نبدأ؟

قلت: لا يهمنكم الترتيب، ابدأوا بما شئتم،

قالوا: أخبرنا عن حديث اغتسال بني إسرائيل عراة.

قلت: هو الحديث الذي أخرجه البخاري في الغسل، باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة ومن تستر فالتستر أفضل، قال: حدثنا إسحاق بن نصر، قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى صلى الله عليه وسلم يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، ففرَّ الحجر بثوبه، فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي يا حجر! حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، وأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا". فقال أبو هريرة :والله إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة ضربا بالحجر، وأخرجه مسلم أيضًا وغيره.

قلت: فما الذي استشكلتم في هذا الحديث مستبهميه استبهاما؟

قالوا: استشكلنا ثلاثة أمور؟ 

قلت: ما هي؟

قالوا:

1- كيف كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وهو أمر محرم، والاستحياء من بدو السوءات مطبوع في الناس، مجبولين عليه، توارثوه من أبويهم آدم وحواء عليهما السلام، وما لموسى عليه السلام لم ينههم عن هذه الفاحشة، وهو إمام وقدوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

2- وكيف عابوا موسى عليه السلام على التستر؟ أو لم يعهدوا الصالحين يسترون عوراتهم؟ أو لا يعني ستر العورات عندهم إلا حجب أمراض تقذر أو إخفاء عيوب يشمئز منها؟

3- ولماذا استجاب الله لمطلبهم وفيه كشف عن عورة موسى عليه السلام؟ وهل ينزل سبحانه وتعالى لمثل هذه المطالب المستهترة؟

قلت: أخطأتم كما أخطأ غيركم فهم هذا الحديث الواضح البيِّن الدلالة، فليس معنى الحديث أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون خالعي ثيابهم كلها ومتجردين تجردا كاملا، وإنما معناه أنهم كانوا يغتسلون مؤتزرين مغطي عوراتهم بخرق، وعبر الحديث عن ذلك بالعري لنزعهم سائر ثيابهم، فتوهم من توهم انكشاف العورات وبدو السوءات، وإن شئتم إدراك الحق في الأمر فانظروا إلى أهل القرى والبوادي يغتسلون في أمكنة عامَّة ينظر بعضهم إلى بعض ويتجاذبون أطراف الحديث، وهم مغطون عوراتهم.

قالوا: إن كان تفسيرك على الوجه الذي ذهبت إليه صوابا فما لموسى عليه السلام لم يغتسل معهم؟

قلت: لأنه نبي حيي كريم، والذين بلغوا الدرجة العليا في الحياء يستحيون من الاغتسال أمام الناس وهم مغطون عوراتهم، فإن المغتسل الساتر لعورته يحتاج إلى تنظيفها بيديه من وراء ثوبه، والحيي يأنف من مثله أمام غيره، وهو ما أخرج الشيخان وغيرهما عن أم هانئ بنت أبي طالب أنه لما كان عام الفتح أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسله فسترت عليه فاطمة ... الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغتسل عريانا، ومع ذلك أمر فاطمة رضي الله عنها أن تستره بثوب، لما كان في البيت من ليس من أزواجه ولا من محارمه.

ولعل هذا المعنى من الحياء يوضحه ما أخرجه مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، قال محمد : ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟ فقال :"ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة".

قالوا: إنهم عابوا موسى عليه السلام بأنه آدر فبرأه الله مما قالوا، فكيف حصل ذلك إن كان يغتسل مغطيا عورته.

قلت: إن الرجل الآدر (وهو الرجل الذي انتفخت خصيتاه وصارتا كبيرتين) وإن اغتسل متِّزرا انكشف للناس عيبه، فظنوا أن الذي يحمل موسى على الغسل وحده هو حرصه على ستر عيبه، فلما فرَّ الحجر بثوبه وجرى موسى على إثره وهو متزر ظهر لهم من هيئته ومن جريه السريع في ثوب خفيف أنه غير آدر.

وقلت: إن مشكلتكم أنكم لا تعرفون شهادة إلا الرؤية، يا ليتكم أدركتم أن العاقل يستشهد بأمور مرئية على غير مرئية وبأشياء مسموعة على غير مسموعة، معملا عقله وفكره، وهكذا استدلت بنو إسرائيل بسرعة موسى واعتدال جريه على براءته مما عابوه.

قالوا: فما للبخاري ترجم له جواز الغسل عريانا؟

قلت: قد يستدل البخاري على أمر بأدنى احتمال يراه، والذي ذهب إليه البخاري من جواز الاغتسال عريانا وحده ليس مختلفا فيه بين الفقهاء، ومثل هذا لا يحتاج إلى دليل قوي بعيد عن الاحتمالات كل البعد.

قالوا: فما الذي حملك على ترجيح التفسير الذي ذهبت إليه؟

قلت: لأنه يوافق حال بني إسرائيل، فإنه لا يتصور من قوم مؤمنين أن يتجرَّد بعضهم أمام بعضهم ونبيُّهم بين ظهرانيهم، ويوافق جلالة موسى عليه السلام، فإنه من المستحيل أن يهتك الله أمام الناس ستر من اصطنعه لنفسه وألقى عليه محبة منه واصطفاه رسولا نبيا.

قالوا: جزاك الله خيرا على هذا البيان الذي كشف لنا عن معنى الحديث كشفا.

قلت: إن كان خطأ فمن نفسي، وإن كان صوابا فمن ربي وربكم، فاحمدوه على ما هدانا إليه، اللهم اشرح لنا صدورنا ووفقنا للعلم النافع والعمل الصالح، إنك سميع مجيب.

انظر الحلقة الثانية هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين