في السابع عشر من صفر 1213: معركة أبو قير البحرية

في السابع عشر من صفر من عام 1213، الموافق 1 أغسطس 1798، وقعت معركة أبو قير شرقي الإسكندرية بين الأسطول الفرنسي بقيادة الأدميرال فرانسوا بول برويز، وعمره 45 عاماً، وبين الأسطول البريطاني بقيادة الأدميرال نلسون، وعمره 40 عاماً، وانجلت المعركة التي وقعت بعد شهر من نزول نابليون في الإسكندرية، عن هزيمة ساحقة للأسطول الفرنسي، وأربكت الهزيمة مخططات فرنسا ونابليون بونابارت، وعمره 29 عاماً ، للاستيلاء على مصر والمشرق العربي، وأدت في النهاية لانسحاب الفرنسيين من مصر.

ولد نابليون سنة 1769، وكان غزوه للمشرق العربي جزءاً من الحرب التي دارت بين فرنسا الجمهورية الثورية وبين بريطانيا الملكية المحافظة، للفوز بالهيمنة على العالم، وكانت فرنسا قبل سنة، في 17 أكتوبر 1797، قد حققت نصراً فاصلاً بمعاهدة كامبو فورميو التي استولت فيها على حصة الأسد من أراضي الإمبراطورية النمساوية في أوروبا، وبخاصة الشمال الإيطالي حتى بحر الأدرياتيكي، وقسمت وسط أوروبا كما يناسبها، وأذعنت لذلك طوعاً أو كرهاً دول أوروبا إلا بريطانيا التي بقيت على عدائها لفرنسا.

وكان نابليون قد اتجه بعد انتصاره الأوروبي لتحجيم بريطانيا، واستبعد نجاح غزو الجزر البريطانية إلا إن أصبحت لفرنسا السيطرة في البحار، وسبيل ذلك الاستيلاء على أهم طريق تجاري عالمي آنذاك يصل بريطانيا بمستعمرتها الهندية وما وراءها، فبذلك يخنق الإمبراطورية البريطانية ويستطيع فرض شروطه عليها في أية تسوية سلمية قادمة، ومن ناحية أخرى فإن وجود مستعمرة كمصر تحت حكم فرنسا الثورية ذي الصبغة النفعية والتقدمية سيعيد إلى مصر مكانتها وازدهارها التاريخي، ولذا فإن الحملة العسكرية ستكون مصحوبة بطائفة من العلماء والباحثين الذين سيدرسون ماضي البلاد وحاضرها، ويقررون سبل النهوض بها.

وعرض نابليون أفكاره على مجلس الوزراء الفرنسي، وأيدها تاليران وزير الخارجية، ووافق عليها أعضاء المجلس الذي وجدوا فيها طريقة لإبعاد هذا الجنرال الشاب الطموح، وهكذا أبحر نابليون من طولون في 19 مايو 1798 على رأس جيش يتكون من 36.000 جندي، و10.000 بحار، وقوامه 30 دارعة و72 طرادة و400 مركب شحن، فاحتل جزيرة مالطة لتكون قاعدة إمداد وسيطة بينه وبين فرنسا، وألقى مراسيه في الإسكندرية في 17 من المحرم سنة 1213=1 يوليو 1798، فاحتلها ثم اتجه إلى القاهرة حيث اشتبك في 7 صفر في في أنبابة بالقرب من الأهرام في معركة استبسل فيها الجيش المملوكي بقيادة الأميرين إبراهيم بك ومراد بك ، ولكنه انهزم في النهاية أمام التفوق الفرنسي في العدد والعدة والأسلوب، ودخل نابليون مدينة القاهرة بعد أن أعلن بها أنه لم يأت لفتح مصر بل أنه حليف الباب العالي العثماني أتى لتوطيد سلطته ومحاربة المماليك العاصين أوامره.

وكانت أخبار الإعداد الفرنسي لحملة بحرية كبيرة قد ترامت إلى أسماع الحكومة البريطانية، فأصدرت أوامرها إلى قائد أسطولها بإرسال مجموعة من السفن يقودها الأدميرال السير هوراشيو نيلسون، المولود سنة 1758 والمقتول أثناء معركة الطرف الأغر سنة 1805، لترابط خارج طولون لاستطلاع التحركات الفرنسية، ولكن العواصف حالت دون ذلك فرابطت سفن نيلسون في جبل طارق، وأبحر الفرنسيون دون أن يعلم البريطانيون بذلك، واستطلع نيلسون ميناء طولون حالما سمحت الأحوال فوجده فارغاً، فقدر بحدسه الصائب أن نابليون قد اتجه إلى الإسكندرية، فسار إليها نيلسون مسرعاً، فوصلها قبل الأسطول الفرنسي، لتأخره بسبب استيلائه على مالطة، ولما لم يجد أثراً للفرنسيين، عاد أدراجه إلى صقلية حيث أعاد تموين سفنه.

قال المؤرخ المعاصر عبد الرحمن الجبرتي في تاريخه عجائب الآثار في التراجم والأخبار: حضر الى الثغر عشرة مراكب من مراكب الإنكليز ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر... وإذا بقارب صغير واصل من عندهم وفيه عشرة أنفار فوصلوا البر واجتمعوا بكبار البلد... فأخبروا أنهم إنكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس لأنهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون على دفعهم ولا تتمكنوا من منعهم. فلم يُقبل منهم هذا القول وظُنَّ أنها مكيدة، وجاوبوهم بكلام خشن، فقالت رسل الإنكليز: نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر لا نحتاج منكم إلا الإمداد بالماء والزاد بثمنه. فلم يجيبوهم لذلك وقالوا هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيس ولا لغيرهم عليها سبيل فاذهبوا عنا. فعندها عادت رسل الإنكليز وأقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الإسكندرية وليقضي الله أمراً كان مفعولا... فلما قرئت هذه المكاتبات بمصر حصل بها اللغط الكثير من الناس وتحدثوا بذلك فيما بينهم وكثرت المقالات والأراجيف... وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتماداً على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم.

ولثقته بصحة حدسه ولإصراره في العثور على الأسطول الفرنسي أبحر نيلسون ثانية إلى الإسكندرية فوصلها في 1 أغسطس ورأى الميناء مليئاً بسفن الشحن الفرنسية الفارغة، فيما رابطت في شرقه في أبو قير 13 دارعة و4 فرقاطات أخذت وضعية دفاعية ممتازة منحها إياه هذا الميناء الطبيعي، فقد كانت ميمنتها محمية بخليج رملي ضحل ولذا اتخذت وضعية الدفاع عن التهديد المحتمل من الميسرة.

ورغم هذه الظروف غير المساعدة وأن الظلام على وشك الحلول، إلا أن نيلسون لم يتردد في الهجوم على الفور، ليستغل عنصري المفاجأة والليل، واستطاعت بعض سفنه التسلل لما وراء الخليج، فصارت السفن الفرنسية بين نارين من الميمنة والميسرة، ونشبت معركة عنيفة اقتربت فيها السفن من بعضها البعض، وركز نيلسون مدفعية سفنه على الدارعات الفرنسية واحدة تلو الأخرى حتى إذا أعطبت إحداها انتقلت إلى جارتها، وبعد أن أعطبتها وتخلصت من تهديد إبحارها ألقت السفن البريطانية مراسيها وصبت حممها على بقية السفن واحدة تلو الأخرى حتى دمرتها عن آخرها، وانتهت المعركة مع بدايات الفجر وجرح فيها نيلسون في رأسه، ولكنها أسفرت عن تدمير الأسطول الفرنسي ودارعته الكبرى التي كانت تحمل 120 مدفعاً، وكانت خسائر البريطانيين حوالي 300 قتيل، وكانت خسائر الفرنسيين 1700 قتيل من بينهم قائد الأسطول الفرنسي الأدميرال فرانسوا بول برويز، وبقي الأسطول البريطاني يحاصر الشواطئ المصرية منعاً لأية إمدادات فرنسية أن تصل نابليون وجيشه. وكانت الحكومة البريطانية قد أنعمت من قبل على الأدميرال نيلسون بلقب سير، ولانتصاره هذا في معركة أبو قير أكرمته بأن جعلته في عداد البارونات وصار لقبه نلسون، بارون النيل وبيرنهام ثورب، حيث تدعى هذه المعركة أحياناً معركة النيل، وتخليداً لهذا الانتصار أطلقت بريطانيا اسم أبو قير على إحدى بارجاتها.

جرى الغزو الفرنسي لمصر في أيام السلطان سليم الثالث، المولود سنة 1175والذي تسنم عرشه سنة 1203 وتوفي سنة 1223= 1807، وسارعت الدولة العثمانية إلى تجهيز جيش بري في دمشق يسير إلى مصر، وأسطول بحري يتم تجميعه في جزيرة رودس، وكانت الدولة العثمانية قد أبرمت معاهدتي سلام مع النمسا وروسيا قبل بضع سنوات، ولأن النمسا وروسيا الملكيتين كانتا على عداوة مع فرنسا الجمهورية فقد أمن العثمانيون انقضاضهما عليها ومكنهم ذلك من توفير الموارد لحشد هذا الجيش، وعرضت بريطانيا على السلطان مساعدتها في إخراج الفرنسيين من مصر، وانضمت إليها روسيا، وأبرمت الدول الثلاث معاهدة تعاون عسكري وأعلنت الحرب على فرنسا في 21 ربيع الأول من سنة 1213= 2/9/1798، وخرجت سفن البحرية الروسية من البحر الأسود لتنضم إلى البحرية العثمانية في البحر المتوسط، رغم ما بين الدولتين من عداوة قديمة مستمرة.

كان نابليون عبقرياً في استراتيجية الحرب، فقرر أن يرد على هذا التحالف الثلاثي بإحباط الاستعدادات الحربية العثمانية في الشام، والتي إذا تمت ستجعله محاطاً به، وستضطره أن يدافع على عدة جبهات، وستكون عواقب الحرب وخيمة عليه، فخرج من مصر في أواخر شعبان سنة 1213 على رأس 13.000 جندي قاصدا بلاد الشام، وخلال شهر كان قد احتل العريش وغزة والرملة ويافا، ولكنه واجه مقاومة غير متوقعة عند أسوار عكا التي لم يتمكن من الاستيلاء عليها رغم حصاره ومهاجمته لها مراراً، فقد توالت إليها الإمدادات من طريق البحر، واستولى الأدميرال البريطاني سيدني سميث على السفن الفرنسية التي أبحرت من مصر لتدك بمدافعها عكا من البحر، وأبدى والي عكا أحمد باشا الجزار صلابة وتيقظاً في إفشال المحاولات الفرنسية لنسف أسوارها، وأفشل كل محاولات النقَّابين لوضع ألغامهم، وبعد حصاره لها قرابة شهر بلغ نابليون تحرك جيش عثماني من دمشق لإنجاد عكا، فأرسل قوات على رأسها الجنرال كليبر لدحر هذا الجيش ومنعه من تحقيق هدفه، ورجحت كفة المعركة في البداية إلى صف الجيش العثماني الذي استطاع تطويق قوات كليبر وكاد أن يقضى عليها، لولا أن نابليون كان قد سار وراء كليبر بثلاثة آلاف جندي وباغت الجيش العثماني من الخلف فتقهقر وتفرق، وعاد نابليون إلى عكا فوصله خبر إقلاع الجيش المجتمع في جزيرة رودس، فأدرك أن انتصاره صار في مهب الرياح، فعاد بمن بقي من جيوشه إلى القاهرة بعد حملة فاشلة استمرت قرابة 3 أشهر.

وفي أوائل سنة 1214، منتصف سنة 1799، نزل جيش رودس العثماني في أبو قير وتحصن بها، وكان عدده 18.000 جندي، فسار إليهم نابليون من القاهرة وجرت معركة في 24 صفر انجلت عن هزيمة الجيش العثماني وانسحابه إلى السفن، وأسر قائده مصطفى باشا وكثير من جنوده.

وفجأة تبين أن نابليون قد سافر خفية إلى فرنسا بعد المعركة بشهر، ونجحت فرقاطتان سافر على إحداهما أن تتفاديا سفن الحصار البريطاني، وكان سفره بسبب تدهور الأوضاع الداخلية في فرنسا، وتطلعه للقيام بدور أكبر على الصعيد السياسي، فقد تجددت الحرب بين النمسا وبين فرنسا في إيطاليا، واضطرت الجيوش الفرنسية إلى الانسحاب من معظم شبه جزيرة إيطاليا، وأدت هذه الهزائم إلى اضطرابات داخلية عصفت بالحكومة الفرنسية، وانتهت في يونيو 1799 بانقلاب أتى باليعاقبة إلى سدة السيطرة على الحكومة، وفقد بعض السياسيين الأمل في إصلاح الأوضاع إلا بتسليم الحكم إلى رجل قوي ذو شكيمة عسكرية، وتطلع نابليون أن يكون ذلك الرجل، وبخاصة أن انتصاراته في حروب النمسا وإيطاليا واحتلاله لمصر، جعلت منه بطلاً وطنياً يتردد ذكره على كل لسان، وتذكر بعض المصادر أن الأدميرال البريطاني أرسل لنابليون عدة نسخ من الصحف الفرنسية التي تحدثت عن هذه الأحداث ليفت في عضده ويضعف معنوياته.

ترك نابليون الجنرال كليبر نائباً عنه في مصر، ويقال إنه سمح له بالانسحاب والعودة لفرنسا لو رأى أنه سيُغلَب ويندحر، فقد أصبح من المتعذر مساعدته بالمال أو الرجال نظرا لترصد الأسطول البريطاني الذي انتشر في جنبات البحر المتوسط، وأدرك نابليون من الناحية الاستراتيجية أن العثمانيين قد بدأوا تحالفاً مع البريطانيين ضد فرنسا التي كانت صديقتهم التقليدية، ففوض كليبر في عقد الصلح مع تركيا ولو كان ثمن ذلك جلاء الفرنسيين عن مصر نهائيا.

ترك نابليون الجيش الفرنسي في مصر دون قوة بحرية تحميه وتتيح إمداده أو تمنع نزول القوات المعادية له، ونقص عدده إلى 15.000 جندي بعد من سقطوا في المعارك وفريسة الأمراض، وهو عدد غير كاف لحماية السواحل والدفاع عن القاهرة أمام فلول المماليك، والمحافظة على الأمن في الصعيد، ولذلك يئس كليبر من الموقف وتفاوض مع القائد البريطاني السير سيدني سميث حتى وصلا لاتفاق العريش في آخر شعبان سنة 1214= 24/1/1800، ويقضي بالسماح للجيش الفرنسي أن ينسحب بسلاحه ومدافعه ويعود إلى فرنسا على السفن البريطانية.

وما أن بدأ الفرنسيون في التجهز للانسحاب حتى تبين أن السير سيدني سميث تجاوز صلاحياته في هذا الاتفاق، وأخبره رئيسه الأدميرال كيث البريطاني أن حكومة بريطانيا لن تقبل اتفاقاً لا يتضمن استسلام الفرنسيين كأسرى حرب، فاغتاظ الجنرال كليبر وسار لمحاربة الجيش العثماني الذي أتى إلى مصر بقيادة الوزير يوسف باشا لاستلامها من الفرنسيين، والتقى الجيشان بالقرب من القاهرة عند ضاحية المطرية في 23 شوال سنة 1214=20/3/1800، وبعد قتال عنيف انجلت المعركة عن انتصار الفرنسيين، وعاد كليبر إلى القاهرة فوجدها في قبضة إبراهيم بك أحد أمراء المماليك في مصر، وكان قد دخلها أثناء انشغال الفرنسيين في المعركة، فأمر كليبر بقصف القاهرة بالقنابل، وخرب منها جزءا عظيما، واستمرت المعارك تدور في شوارعها نحو عشرة أيام، ومضى شهر قبل أن يسيطر الفرنسيون على الوضع، ويعود الهدوء إلى القاهرة، وقد فصَّل وقائع المعارك وفظائع الفرنسيين المؤرخ المعاصر عبد الرحمن الجبرتي تفصيلا دقيقاً في كتابه عجائب الآثار في التراجم والأخبار.

ثم ما لبث الجنرال كليبر أن لقي مصرعه في 21 محرم 1215= 14/6/1800، فقد انقض عليه سليمان الحلبي بخنجر وقتله، وألقي القبض على سليمان الحلبي وبعد تحقيق طويل ذكره الجبرتي، أعدم هو ورفاق له ثلاثة اتهموا معه في القتل، وعذبه الفرنسيون حتى يعترف أن له علاقة بالشيخ الشرقاوي ولكنه رفض ذلك رغم أنهم حرقوا ذراعه الأيمن حتى العظم، وصدر عليه الحكم بالإعدام على الخازوق، وتوجد جمجته في متحف العرق البشري في باريس تحت بطاقة مكتوب عليها "مجرم" بالفرنسية.

وعينت فرنسا مكان كليبر الجنرال جاك مينو الذي كان قد اعتنق الإسلام وتسمى عبد الله، وأتقن مينو دوره الإستعماري أيما إتقان، فأعلن إسلامه وتزوج أرملة مسلمة من رشيد، وخالط الناس في المساجد والمحافل، وأظهر الورع حتى صلى معهم التراويح، وتظاهر بمقته لكليبر، ولكنه ما لبث أن قلب للمصرين ظهر المِجَنِّ، وبرح خفاؤه حين طالت الشبهة علماء الأزهر في أن لهم ضلعاً أو علماً باغتيال كليبر، فأمر مينو بتفتيش وإرهاب علمائه، وحاول عبثاً أن يقف على شيء يدين العلماء، وبلغت حملاته وتحقيقاته من الشدة حداً اقترح معه العلماء غلق الأزهر بدلا من أن تشن عليه الحملات، وحقنا لدماء المواطنين الأبرياء.

وأصبح ضعف موقف الفرنسيين واضحاً للعيان، وفي أواخر سنة 1215، أوائل سنة 1801، أنزل البريطانيون جيشاً قوامه 30.000 جندي في أبوقير بقيادة الجنرال أبركرومبي فسار الجنرال مينو لمحاربتهم فانهزم أمامهم، فانسحب وتحصن في الإسكندرية فقطع البريطانيون سداً في أبوقير يحجز مياه البحر المتوسط، وحصروا بذلك مينو وجيشه في الإسكندرية، غير مبالين بما نجم عن قطع هذا السد من الخراب والدمار لجزء ليس بقليل من الوجه البحري.

ثم سار الجيشان البريطاني والعثماني إلى القاهرة وحصروا من بقي فيها من الفرنسيين، وجرت مفاوضات مع الجنرال الفرنسي بليار انتهت بالاتفاق على انسحاب الجيش الفرنسي من وادي النيل وفق شروط اتفاق 24 يناير سنة 1800، فأخلى الجيش الفرنسي القاهرة في 28 صفر 1216=10/7/1801، وخرج منها بجميع أسلحته ومدافعه ومهماته راحلاً إلى ميناء رشيد بحماية قوات عثمانية وبريطانية لمنع تعرض الأهالي لهم، وأبحروا من رشيد عائدين إلى فرنسا على السفن البريطانية.

أما الجنرال مينو فبقي محصورا في الإسكندرية ولم يقبل التسليم إلا بعد شهرين، وبعد أن وقعت بينه وبين العثمانيين والبريطانيين موقعة عظيمة قتل فيها كثير من الطرفين، فخرج منها مع من بقي معه وسافر إلى بلاده، وبذلك انتهت الحملة الفرنسية على مصر.

بدأ ت الحملة الفرنسية على مصر كاحتلال لين الملمس يرتدي لبوس الصداقة مع الإسلام، وحاول نابليون استمالة المصريين وبخاصة علماء المسلمين، وأمر بتشكيل ديوان منهم ليساهم في إدارة البلاد، وهذه مقتطفات من أول منشور أصدره نابليون منقولة عن المنشور الكامل الذي أورده الجبرتي:

بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرِّف أهالي مصر جميعَهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية يظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم... هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأزابكة والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها... يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى وأحترم نبيه والقرآن العظيم، وقولوا أيضاً لهم إن جميع الناس متساوون عند الله وإن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط... ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعداً لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها، وسابقاً كان في الأراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر وما أزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك... أيها المشايخ والقضاة والأئمة وأعيان البلد قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام... والفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه... طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم، طوبى أيضاً للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب، لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقاً إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر.

لكنه لم يمض شهر حتى كشر المحتلون عن أنيابهم وأبرزوا مخالبهم، فسفكوا دماء الأبرياء، وأعدموا زعماء الوطن رميا بالرصاص، وملؤوا السجون والمعتقلات بعلماء الدين، ومضوا بعد ذلك إلى المدن والقرى ينهبون ويسلبون، وانتهكوا حرمات بيوت الله والناس، وتفننوا في التنكيل بالمصريين، فأحرقوا الدور بعد نهبها، وأشعلوا النيران في محاصيل الفلاحين، وبعثروا أقواتهم واستاقوا مواشيهم، وأثقلوا كواهلهم بالضرائب والغرامات والفروض، ورغم هزيمة أبو قير بقيت القوات الفرنسية في الداخل تتابع سيطرتها على بر مصر، ولم تمض شهور إلا وقد أحكم نابليون قبضته على مصر من البحر المتوسط إلى أقاصي الصعيد.

ثم عاد نابليون وغيرَّ سياسته بعد الهزيمة المنكرة في أبي قير، فأقام الحفلات بمناسبة المولد النبوي تملقاً للعاطفة الدينية عند المسلمين وهم السواد الأعظم، ولكنهم لم يستجيبوا له بغير الحد الأدنى من المجاملة، كيف وهو المحتل الأجنبي الذي لا يمت لهم بدين أو قربى، ثم اندلعت دونما سابق إنذار ثورة القاهرة على المحتلين في جمادى الأولى من سنة 1213= 21/10/1798، ولم يستطع الفرنسيون إخمادها إلا بقصف القاهرة بالمدافع وتدمير الجزء الأعظم منها، وقضت هذه الثورة على كل أمل في التعايش بين الشعب المصري وبين المحتل الفرنسي الذي عاد إلى سياسة القسوة والبطش، وأصدر أوامره المشددة بذلك إلى حكام الأقاليم، كتب نابليون إلى قائد قواته في المنوفية يقول: إني هنا أقتل كل يوم ثلاثة وآمر بأن يطاف برؤوسهم في شوارع القاهرة، وهذه هي الطريقة الوحيدة لإخضاع هؤلاء الناس، وعليكم أن توجهوا عنايتكم لتجريد الشعب قاطبة من السلاح.

ولم ينته الاحتلال الأوروبي لمصر بانسحاب الفرنسيين، فقد بقي البريطانيون يماطلون في الانسحاب من مصر سنوات طويلة، والغريب أن نابليون بعد أن أصبح الحاكم المطلق في فرنسا سعى لإعادة العلاقات مع الدولة العثمانية، ومن الحجج التي قدمها بين يدي ذلك بقاء بريطانيا في مصر واحتلالها بعض ثغور الشام، إلى جانب احتلال روسيا لبعض الجزائر اليونانية، ونجح نابليون في مسعاه ووقعت الحكومتان العثمانية والفرنسية في عام 1216، الموافق سنة 1801، معاهدة سلام استرجعت بموجبها فرنسا حقوق التجارة والملاحة التي كانت تتمتع بها قبل عدوانها على مصر.

كان من نتائج الاحتلال الفرنسي أن أخرج مصر من عزلة دامت خمسة قرون من حكم المماليك والعثمانيين، ولكنه جعل مصر جزءاً مما يسمى المسألة الشرقية، أو التركة العثمانية إن شئت، التي تنافست عليها فرنسا وبريطانيا، أما الدولة العثمانية فقد صممت بعد هذه الأحداث أن تحكم سيطرتها على مصر، وأن يكون حاكمها برتبة نائب السلطان، وأن يكون لها جيش يرابط دائماً فيها، وكان أن تشكل أغلب هذا الجيش من الألبان، الأمر الذي مهد للقضاء على المماليك وتأسيس محمد علي الكبير لدولته.

ولا ينبغي أن نغفل النتائج العلمية والتاريخية للاحتلال الفرنسي لمصر، والذي جمع كثيراً من التحف والآثار ونقلها إلى متاحف فرنسا، كما وثق توثيقاً علمياً دقيقاً كثيراً من مبانيها ومعالمها الأثرية، رغم أن العسكر الفرنسي هدم كثيراً منها لما وقفت في طريق دفاعاته أو مواقعه، ويتجلى ذلك في الأثر العظيم المسمى وصف مصر Description de l'Égypte والمؤلف من 20 مجلداً منها 10 مجلدات من اللوحات والرسوم، والذي قامت على إصداره لجنة من أعضاء الفريق العلمي الذي اصطحبه نابليون، ونشرته الحكومة الفرنسية في السنوات 1809-1822، والذي يعد بذاته تحفة فنية وكنزاً أثرياً لثراء معلوماته وجمال لوحاته.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين