وقفات مع الثقافة الإسلامية

الثّقافة (Culture) هي روح الأمة، وعنوان هويتها، وهي ركيزة أساسية في بناء الأمم ونهضتها، ويشهد الواقع أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تستمد منها عناصر حياتها وتصطبغ بصبغتها التي تميزها عن غيرها من الأمم .

ويشهد الواقع أن لكل مجتمع من المجتمعات البشرية ثقافته الخاصة التي تميزه عن غيره من المجتمعات، بل قد تختلف ثقافة مجموعة بشرية عن مجموعة أخرى في البلد الواحد، وعلى سبيل المثال قد تختلف ثقافة سكان قرية في جنوب البلاد - عن ثقافة سكان قرية في الشمال، لكن هؤلاء وأولئك يشتركون معاً في ثقافة عامة تميز ثقافة البلد عن الثقافات الأخرى، وعلى هذا النحو نجد المجتمعات العربية تشترك جميعاً في ملامح ثقافية عربية إسلامية عامة تميزها عن غيرها من الثقافات، وفي الوقت نفسه نجد ملامح ثقافية خاصة بكل بلد عربي عن الآخر .

وقد عرف التاريخ البشري كثيراً من الثقافات، نذكر منها : اليونانية، الرومانية، الفرعونية، الفنيقية، الفارسية، الهندية، الصينية .. وعندما أصبح المسلمون قادة الدنيا وسادة العالم ثقافياً وعلمياً عرف العالم "الثقافة العربية الإسلامية" في أوج تألقها، وأصبحت مقصداً للباحثين عن العلم والمعرفة ينهلون من ينابيعها الثرة، وأصبحت هذه الثقافة – بالمقابل - هدفاً للأعداء الذين وجدوا فيها خصماً عنيداً بات يستهوي أفئدة الناس، فبدأ الأعداء يتآمرون عليها !

وهذا ما جعل الثقافة الإسلامية – عبر تاريخها الطويل – تواجه تحديات هائلة، لكنها – بفضل الله تعالى؛ ثم بفضل المخلصين من المؤمنين - بقيت تحافظ على ملامحها الفريدة، فلم تذب في ثقافات الآخرين، وظلت موضع اعتزاز وتعظيم من قبل المسلمين عرباً وغير عرب؛ لما يعلمون من أصولها السماوية المعصومة ومبادئها الإنسانية النبيلة .

والثقافة الإسلامية في حقيقتها علم يعبر عن روح الإسلام وتراثه العظيم الذي تفخر به الأمة، وترجو له الذيوع والانتشار في العالم .

والثقافة الإسلامية علم أثير إلى نفس كل مسلم، لأنه علم يحقق التوازن والتكامل بين عقل المسلم وقلبه وروحه، ويربط ماضيه بحاضره ويعده لبناء المستقبل الزاهر المنشود .

ومن أهم أهداف هذا العلم تزويد المسلم بحقائق دينه وسط ضباب كثيف من أباطيل خصومه وشبهاتهم .

والثقافة الإسلامية علم ينمي ملكة النقد الصحيح لدى المسلم، ويساعده في تقييم الثقافات الأخرى تقييماً صحيحاً، ويجعله يميز في نزعات الفكر والسلوك ما بين الغَث والسمين فيأخذ النافع الخير، ويطرح الفاسد الضار .

وإذا كان تحصيل العلوم الأخرى ينحصر في حدود المعرفة العقلية البحت، فإن علم الثقافة الإسلامية يتجاوز ذلك لينفذ إلى قلب المؤمن فيحرك عواطفه ومشاعره ويطلق فيه طاقة روحية خلاقة تدفعه إلى المزيد من العمل والعطاء، وتربطه بقوة إلى عقيدته وتراث أمته، وتعمق فيه روح الولاء لأمته التي أكرمها الله عز وجل برسالة الإسلام الخاتمة العظيمة .

وبالرغم من أن "الثقافة الإسلامية" لا تعني علماً بعينه من العلوم الإسلامية، إلا أنها في الواقع تتعلق بكل هذه العلوم، وتوفر للمهتمين بالإسلام زاداً غنياً حريّ بالمسلم – قبل غيره - أن يلمّ به، ويحرص على اكتسابه .

وتكمن أهمية دراسة "الثقافة" بعامة ودراسة "الثقافة الإسلامية" بخاصة في أنها المنطلق والقاعدة الأساسية لحركة الأمة الحضارية ومسيرتها المدنية ونهضتها العلمية، فالثقافة التي تؤمن بالعلم والتمدن وتحث عليه – كما هي الثقافة الإسلامية - تكون حركة أبنائها ومسيرتها مختلفة عن غيرها من الأمم التي ليس في ثقافتها هذا الإيمان، وهذه النزعة إلى العلم والتحضر .

ومن هنا نجد أن ارتباطنا – نحن المسلمين - بالثقافة الإسلامية هو ارتباط أصيل، لأن الإسلام يشكل جوهر ثقافتنا الإسلامية ذات الصلة الوثيقة بحياتنا الاجتماعية؛ بما تحمله هذه الثقافة من قيم وأعراف وتقاليد تميزنا عن غيرنا من الأمم، وتضفي على هويتنا صورة إيجابية، وتزودنا بمقومات أصيلة تساعدنا في بناء نهضتنا العلمية وتقدمنا الحضاري .

وقد أصبحنا – نحن المسلمين - اليوم في أمس الحاجة إلى هذا الزاد الثقافي لأننا بتنا نعيش في عصر اختلطت فيه الثقافات بفعل وسائل الاتصالات الحديثة، ما أدى إلى مواجهة الحضارات بعضها وبعض، إلى حد جعل المفكر السياسي الأمريكي صموئيل هنتنغتون (1927 – 2008 ) يطرح فكرة "صراع الحضارات" في كتابه الذي يحمل هذا العنوان ( The Clash of Civilizations) الذي ذهب فيه إلى أن صراعات اليوم لم تعد تتمحور حول الخلافات الإديولوجية القومية كما كانت في القرن المنصرم (= العشرين) بل أصبحت صراعات تتمحور حول الاختلافات الثقافية والدينية بين الحضارات الكبرى في العالم، ومن الرؤى المهمة التي ذكرها هنتنغتون في هذا السياق أن الاختلافات الثقافية لا يمكن تغييرها كما تتغير الانتماءات الإديولوجية ! ويضرب على هذا مثلاً بأن الشخص الروسي يمكن أن يغير انتماءه الإديولوجي من شيوعي إلى ليبرالي، لكنه لا يمكن أن يصبح فارسي الثقافة مثلاً .

ففي الصراعات الإديولوجية يمكن للناس أن يختاروا النزعة التي يريدون، لكن لا يمكنهم هذا في الثقافة، وينطبق هذا على الثقافات الدينية بصورة خاصة، فليس بإمكان الشخص أن يكون مسلماً ومسيحيا في آن واحد، لكن يمكن أن يكون مثلاً يسارياً ولبرالياً في آن واحد ! 

وهذه النتيجة التي انتهى إليها هنتنغتون توجب على المسلم ليس التمسك بثقافته الإسلامية فحسب، بل توجب عليه كذلك أن يتمتع بثقافة إنسانية رحبة قادرة على التفاعل الخلاق مع ثقافات الآخرين دون أن تذوب ثقافته في ثقافتهم، وهذه هي حقيقة الثقافة الإنسانية الرحبة التي أسسها الإسلام، كما سوف نرى في الفصول التالية .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين