ماذا نفعله مع المبشرين لنحبط مساعيهم؟

من المبشرين لصوص معتدون: لا لصوص أموال، ولا لصوص أرواح، ولكن لصوص دين؛ ولصوص الدّين أكبر معتدين، فإنَّ الأموال والأرواح تبذل فداء للديِّن ومحافظة عليه، إذن يكون أجلَّ منهما وأغلى، والمعتدي عليه أكبر جُرماً من المعتدي عليهما.

والدفاع عن الأموال والأرواح مشروع وفريضة من الفرائض.

ولو قُتل الرجل وهو يدافع عن ماله أو عن نفسه مات شهيداً، وإذا كان بعض المبشرين لصوصاً فالغفلة عنهم تطمعهم فيما يحاولون سرقته وتجرئهم وتجعلهم يتمادون على سرقتهم.

ولذلك لما بدءوا عملهم لم يكونوا بجرأتهم التي ظهروا بها بعد البدء بزمن ليس بكثير، وبعد هذا الزمن زادت جرأتهم ثم زادت إلى أن وصلت إلى الحالة التي هم عليها الآن، ولو طالت غفلتنا عمَّا مضى لكان لهم معنا شأن أجرأ من شأنهم اليوم.

ومعروف أنَّ اليقظة للص تخيفه وتحبط مسعاه وتتركه يرتجف ارتجافاً فإنه يعمل عملاً ليس بمشروع: أي تُنكره الشرائع السماويَّة والأرضيَّة، وينكره ولا يقره عليه شرقي ولا غربي ولا أسود ولا أبيض.

إذن اليقظة لهؤلاء المبشرين لابدَّ منها ، وإلا أصبحنا بلا دين ، ومن لم يعتبر بما مضى فهو ميت الحس ، ميت الوجدان ، فاقد العقل ، فاقد الدين ، عارٌ أن يُعدَّ في صفوفنا معشر المسلمين.

وإذا كانت هذه اليقظة بالضجة التي ارتجت لها أطراف المعمورة وسمعها كل ذي أذن فإني أحب أن لا تكون كاذبة كيقظة ذي الجنون المطبق ، تكون لحظة أو لحظات إن كانت ثم لا يكون لها أثر (1).

والذي أرجوه أن تكون يقظة صادقة لها أثرها المحمود إلى قيام الساعة، وذلك بتنظيمها التنظيم الدائم، وذلك التنظيم يكون بالقضاء على الطرق التي ينفذ منها المبشرون إلى تكفير من يكفرونهم، وذلك يكون بالعلم والمال.

أما المال فإنا نجمع منه الكثير ثم الكثير ولو نفرضه على الأمَّة فرضاً، فإنا كثيراً ما نفرضه لأجل أمور ليست في الأهميَّة بدرجة الدين، فإنَّ الدين ليس لنا ما يُساويه أو يُدانيه في الأهميَّة، وبعد أن نجمع ذلك المال الكثير نبني منه مدارس ومستشفيات وملاجئ.

أما المدارس فنقطع بها ألسنة من يقولون لم نجد مدارس نعلِّم بها أبناءنا فاضطررنا لإدخالهم مدارس المبشرين.

أما الفقراء من هؤلاء الذين يقولون قبلوا أبناءنا مجاناً فتساهلنا في إلحاقهم بتلك المدارس فنقبل أبناءهم بلا مقابل لتبطل حجتهم، ولا يأتوا هذا المنكر العظيم.

وأما سراة القطر وعظماؤه الذين بهرتهم نتيجة تلك المدارس ومواقعها الصحية وأبنيتها الفخمة ونظافتها التي تُعجب الناظرين، فنقضي على علتهم هذه بجعل مدارسنا مثل أو أفخم من تلك المدارس وبانتقاء المدرسين لها من أهل النبوغ المهرة في علومهم وتعليمهم.

وهنا يجب أنَّ نقول لهؤلاء - أغنياء، أو فقراء -: غير سائغ لكم أن تُلحقوا أبناءكم وبناتكم بتلك المدارس الكفرية لمثل العلل التي تعللون بها تقديم أولادكم وأحب الخلق إليكم - إلى ذلك الكفر المؤكد حتى ولو لم يتعلموا إلى أن يموتوا على جهلهم بما يتعلمونه هناك، فإنه ما هو علم الدين الواجب تعلمه شرعاً، وإنَّما هو علم يستوي فيه المسلم وغيره، ويضاف إليه علم الكفر والعمل به، وأما أهل الهيام والغرام بالأجانب وكل ما ينسب إليهم حتى كفرهم فنحن في عجز تامّ عن علاجهم، وهنيئاً لهم هذا الحب الذي عاقبته العذاب الأبدي في النار.

وأما الملاجئ، فنربي فيها من تقطعت بهم السُبل وسُدّت في وجوههم أبواب الرزق: من أيتام صغار مات عائلهم ولا مال ولا عائل لهم، ومن عُميٍ ذلك حالهم، ومن ذوي عاهات أخرى لا تمكِّنهم من الكسب، لو فعلنا ذلك مع فقرائنا المضطَّرين حلنا بينهم وبين المبشِّرين، فإنَّ أولئك الذئاب إنَّما يصلون إلى فريساتهم بشبكة الفقر، فإنَّ الفقير يحمل عليه كلب الجوع حملة يكون أمامها مهدداً بالموت فيتلفت يميناً ويساراً: هل من منقذ له من ذلك الكلب المفترس، وفي هذه الحالة يفجأه شخص المبشر يحمل بيده عَلم النجاة لكن بشريطة الكفر، فيصبح بين أمرين أحلاهما مرٌّ.

أحدهما: الثبات وعدم الهزيمة أمام ذلك الكلب العقور حتى يفترسه ويفارق هذه الحياة، وذلك منتهى الصعوبة على الحي.

وثانيهما: التردّي في هاوية الكفر التي لا يلقى من تردَّى فيها إلا العذاب الأليم الذي لانهاية له، وذلك من الصعوبة بالمكان الأعلى.

فالمؤمن الحقّ الراسخ الإيمان لا يبالي بكلب الجوع وهو يرى الموت معه، فإنه يعلم أنه لابد من الموت لكل مخلوق بالجوع أو بغيره، ويعلم مع هنا أنَّ ألم الموت ألمٌ محدود فيختاره ولا يرضى ألم النار لأنه ليس بمحدود ، ثم هو فوق ألم الموت بأضعاف مضاعفة ، هذا على تقدير أن الجوع يقتله، والجوع لا يقتل مثل هذا فإنه من الأتقياء، والتقيُّ يجيئه رزقه من حيث لا يحتسب كما وعد رب العالمين.

والمؤمن الضعيف الإيمان، الضعيف العقل أعمى البصيرة يترامى على قدم المبشر في حرص وشره على ما يلوِّح له به من الحطام الفاني، ويقدِّم له نفسه يتصرف فيها كما يشاء من كفر وسواه، وربما سمعت منه الثناء الجزيل الذي يخيل لك أنه في مستوى لا يدانيه فيه غيره من المؤمنين.

هذا كله يكون منه إذا لم يجد من يسعفه من أهل الإسلام؛

أما إذا وجد مثل تلك الملاجئ، فإنَّه لا يفكر في غيرها أبداً، وكيف يفكر ولا ضرورة تلجئه إلى ذلك.

وأما المستشفيات فتفتح أبوابها واسعة لكل مرضانا خصوصاً ذوى الإعسار منهم الذين لا يستطيعون معالجة أنفسهم عند أطباء خصوصيين، فإنَّ هؤلاء تشتد عليهم آلام الأمراض ولا يجدون من يخففها عنهم إلا أولئك المناحيس في مستشفياتهم التي وصفناها قبلاً.

ونحن لا ننكر أنَّ لنا مستشفيات تقوم بخدمات ولكن بعسر ومعاناة أهوال حتى يظفر المريض بالعناية التي يبتغيها، وهذه المستشفيات التي ننشئها تجعلها الطراز الأول في الاهتمام بالمرضى، وتفهم الأمَّة ذلك بلسان الصحف السيارة، ونعيِّن بها من الأطباء أهل الحذق والمهارة، فإذا عرف الناس ذلك أعرضوا الإعراض كله عن مستشفيات المبشرين مناخ الكفر وينبوعه.

ومن له ذرة من عقل أو إيمان ويذهب إلى الكفر يمشي برجليه طائعاً مختاراً مع أنه يري بعينية أبواب مستشفيات الإسلام مفتحة أمامه؟!.

ويجب أنَّ تكون العناية بالمرضى - خصوصاً الفقراء منهم - هي الغاية الوحيدة والمقصود الأول من هذه المستشفيات، بحيث لو حفظ عن أيّ موظف بها أيّ تساهل مع أيّ مريض لا يكون له جزاء إلا الطرد الذى لا عودة له بعده إليها، فإنَّ الأموال إنما تجمع باسم المريض والمستشفيات تبنى باسم المريض، والأطباء والممرضون إنَّما يوظَّفون لخدمة المريض، فهو المقصود أولاً وآخراً، فالذي يعتدي عليه أو يتساهل في شأنه يستهين بإرادة أمة ويقضي على أملها، فجرمه إذن غير صغير وعقوبته - للتناسب - ينبغي أن لا تكون صغيرة.

هذا ما يتعلق بالمال. وأما العلم - وأعني به علم الدين - فاستخدامه لإحباط مساعي المبشرين دائرته أوسع جداً من دائرة استخدام المال، وهو السلاح الماضي القاضي على هذه الحركة، حركة المبشرين، ولكنه لا يعمل عمله إلا إذا استخدم استخداماً حكيماً، ونظم بيد النظر الثاقب تنظيماً، وذلك بجعله مادَّة أساسيَّة في المدارس ليحرس من بها من خطر المبشرين، فإنهم لو لم يعلموه هان اقتناصهم وسهل صيدهم لجهلهم بالدين، ومن عرف دين الله تعالى الإسلام وتغلغلت أسراره الساحرة الباهرة في قلبه ثم عرض عليه غيره من الأديان سخر بمن يعرضه عليه ، وضحك من عقله، وازدرى بما يعرضه، وذلك نتيجة لازمة للمقارنة بين دين الإسلام، وبين ما يسمونه اليوم أدياناً غيره فإنها خرافات لا أديان، وهي كلمة أنا قدير على إقامة البرهان القاطع على صدقها، ومع حراستنا بالدين لأبناء المدارس نحرس به أيضاً السواد الأعظم من الأمَّة وهم العامَّة، وذلك باختيار أفضل العلماء وجهابذتهم أرباب الاستقامة التامَّة واللسان الفصيح الحلو والحلم البالغ والاطلاع المحيط.

وبعد هذا الاختيار تمنح كل جهة من بلاد الإسلام بجهذ منهم يذهب بينهم ويجيئ ويصبح ويمسي لا تغيب عنهم شمسه ليكونوا دائماً مستنيرين بأنواره متحصنين بحصن ما يلقى إليهم من الوحي الإلهي.

إن مثل هذا الأسد من آساد الإسلام لو بدا شخصه بصقع من الأصقاع لا يستطيع أن يظهر بها ثعلب من ثعالب المبشرين، أو هو شمس ليس دونها سحاب لو بزغت في ناحية بددت في الحال ظلمات الكفر ولو مضى عليها مئات السنين لأن طبيعة الظلمة تتلاشى أمام النور ولا يمكنها الثبات أمامه لحظة.

ولقد حدثنا الثقات أنَّ بعض الجهات يذهب إليها المبشرون ويمكثون بينهم السنين الكثيرة حتى ينجحوا في مهمتهم بتكفيرهم وجعلهم تابعين لهم في دينهم لجهل أهل تلك الجهة الجهل المطلق بدين الإسلام ، وبعد أن يمكثوا تلك السنين متدينين بذلك الدين يتفق أن يوجد بينهم جندي من جنود الإسلام ليس بالبطل ولا الكمي ولكنه أحد أفراد جيش من عساكر المسلمين، فيتكلم ذلك الجندي بين أهل تلك الجهة بكلمات تبيِّن قدر دين الإسلام وتشرح حقيقته شرحاً على قدر فهم ذلك الجندي الذي لا يحيط من دين الإسلام إلا بمثل القطرة من البحر الخضم ، فبمجرد أن يسمعوها منه يترامون على حظيرة الإسلام في تهالك عليه وتفانٍ فيه ، ولا يستطيعون الصبر لحظة عن اعتناقه ، فيهدم ذلك الجندي البسيط في ساعة ما بناه وشيَّده المبشرون في سنين، هذا أثر أحد أشبال الإسلام الصغار ، فما ظنك بفعل أسد من آساده؟؟!

إن هؤلاء المبشرين يقفون في الطرق ويدخلون البلاد يجوسون خلالها ، بل ويقتحمون حصون البيوت يدعون المسلمين إلى دينهم ، ولهم من الحيل ما يوشك أن ينخدع بها العامَّة ، فلو كان بالجهة التي يكونون بها عالم من أولئك الأفاضل يتعقبهم أولاً فأولاً يهدم ما يبنون لا يكون لذلك نتيجة أبداً إلا إفلاسهم الإفلاس النهائي ، فيصبحون وقد أظلمت الدنيا في وجوههم ، وتقطعت أيديهم أن تمتد إلى مسلم ، وتقطعت أرجلهم لا تمشي إلى ناحية من نواحي الإسلام ، وبذلك يستريحون ويريحون.

هذا ما أراه في استخدام المال والعلم لقطع دابر التبشير والمبشرين ، ولو أمكن وسُنَّ قانون يحظر التبشير على أولئك الناس لأنهم يهدِّدون الأمن أن يزول ، ولأنهم يعتدون على دين الإسلام الرسمي للدولة الذي يجب أن يحترم كما يحترم على الأقل علم الدولة أن يهان.

إن ذلك القانون لو كان لقصر الطريق في القضاء على أولئك الناس وعبثهم بالدين وبأهل الدين ، ولكنه يكون دواء لهذا المرض خاصا بهذا القطر ، ونحن مسئولون عن حفظ الإسلام والمسلمين في هذا القطر وفي غيره من الأقطار.

فعلينا إذن أن نعمِّم الدواء بقدر ما نستطيع ، لا في هوادة بل بغاية النشاط والقوة فإن الاعتداء الموجَّه إلينا محاولة القضاء علينا وعلى ديننا: أي حرص عدوّنا على محونا من الوجود والعمل لتحقيق ذلك الحرص.

قد يقول قائل: إن هذه الاقتراحات تكلف الدولة مالاً كثيراً ، وإني أقول: إن مال الدولة كثير، وهو يصرف في جهات ليست من الأهميَّة بالدرجة العظيمة ، وإنك لتعلم أنه يرمى في الأرض رمياً.

أما المحافظة على دين الأمَّة الذي هو أول مشخصاتها فيجب أن يُقدَّم على كل شيء في الدولة.

ومنكر عظيم أن يقال: أنَّ المال الذي يصرف في سبيله كثير، لتَهاب الحكومة الإقدام على الإصلاح، فإنَّ ذلك - بلا شك - صدٌّ عن سبيل الله تعالى، ومع ذلك الأمَّة في غاية الاستعداد لتقديم مايطلب منها من مال للقيام بتلك المقترحات.

إنها - والله - تفعل ذلك فرحة مسرورة مندفعة بداعي الغيرة والإخلاص اللذين يملآن القلوب.

نعم هي تفعل ذلك إذا رأت الأمر جدياً مهما كلفها ذلك، ولا تحوج الحكومة إلى فتح خزائها لتأخذ منها مليماً واحداً.

أنا أقول هذا وأنا جازم الجزم كله أنَّ الأمر في الأمَّة كما نقول، كيف لا وهي لا تتأخر أبداً عن تقديم أرواحها لحفظ دينها، وإذن كيف تتردد في تقديم شيء من مالها.

وأخيراً أرجو أنَّ تكون حركتنا أمام عدونا عملاً لا أملاً، فإن العمل إنما يحبط بالعمل لا بالأمل، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من كتاب النهضة الإصلاحية للأسرة المسلمة

مصطفى أبو سيف حمامي

(1) هذه الكلمة كتبت وقت تهيج الأمَّة على أولئك المبشرين وتيقظهم لهم غاية اليقظة ، وقد كان ذلك سنة 1352 ، وقد عادت الأمَّة إلى غفلتها ونومها العميق ،وهي الآن تغط غطيطاً والمبشرون يكفرون بالعشرات والمئات بخداعاتهم وأموالهم ولعبهم بعقول الصغار والفقراء والشبان والشابات والأمر لله تعالى ، فهل يسمع ذلك المسلمون ، وهل يرضونه لدينهم ولأبنائهم ، اللهم أيقظنا حتى ترضى ، وحتى نعمل ما يقضي على كيد أولئك المبشرين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين