دفاعٌ عن الإمام محمد أنور الكشميري رحمه الله

المتوفى عام 1352هـ - 1933م

 

دواعي هذا الدفاع : 

في 3 / 10 / 2018 صدَرَ مقالٌ في موقع رابطة العلماء السوريين بعنوان : 

[ من التوجيهات النبوية للمصلين ]

أورد الكاتبُ فيه الحديثَ المتَّفق عليه « أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني اراكم من وراء ظهري » وعلَّق عليه يقول : « هذا الحديثُ مع فعل الصحابة الذين حدثنا عنهم أنس رضي الله عنه يعني أن من السُّنَّة في الصلاة أن تكون القدمان على سَمْت المنكبين، أي على مقابلة ومحاذاة الكتفين، وأنَّ من المكروه مباعدةَ القدمين عن بعضهما أكثر أو أقل من ذلك » 

قرأت هذا الموضوع ، ونظرا للحاجة الماسَّة إلى مزيدٍ من الإيضاح للقراء فيه ؛ فقد رأيتُ أن أنشر كلاما للعلامة الكشميري كنت قرأته يوما ما في كتابه الماتع فيض الباري بشرح البخاري ، فقمت بتاريخ 10/10/2018 بكتابة موضوع بعنوان : 

[ كلام نفيس للإمام الكشميري

حول معنى إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف للصلاة ]

وأرسلته لينشر في موقع الرابطة تتميما للفائدة، وإثراء لما نُشر في هذه المسألة .

ولكن موضوعي لم يُنشر ، وإنما أُرسل إلى صاحبِ المقال السابق ، ليَكْتُبَ رداً على مقالي الذي ضمَّنْتُه كلام الكشميري في مسالة " مباعدة الرجلين في الصلاة " .. وفعلا جاءني ردُّه بتاريخ 17/10/2018 فقد أرسله إليَّ موقعُ الرابطة ، وكان ردَاً مُطوَّلا ، بلغ أكثر من 15 صفحة ، ردَّ فيه كاتبه على الإمام الكشميري رحمه الله وعلى استحساني لكلامه أيضا ، وكان رده هذا بعنوان 

[ كلام الشيخ محمد أنور الكشميري حول حديث إلصاق المنكب بالمنكب ] 

وعلى الرغم من كون الكاتب تصنَّع الأدب واللِّين ، إلا أنَّ ردَّه كان قاسيا بكل ما تعنيه القسوة من معنى . ولا أعني قسوته عليَّ ، فهذا شأنٌ يسير لديَّ ، وإنما آلمني أن أكون - عن غير قصد مني- قد تَسبَّبتُ في جلب إساءة كبرى للإمام الكشميري ، ذلك العالم العلامة الرباني الألمعي الكبير ، راعي النهضة العلمية الكبرى في شبه القارة الهندية ، فهو صاحب التعليقات على فتح القدير لابن الهمام ، وأحدُ شُرَّاح صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن الترمذي ، وله أمالٍ على سنن أبي داود ، وكان شيخَ الحديث في جامعة دار العلوم بديوبند وهو ممن قرأ الكتب الستة ، وأقرأها لطلابه مرات ومرات.. يشهد له معاصروه أنه عاش لأمته ، وكان من حقه عليها أن تراعي ذمته حيا وميتا . فكوفئ هذا الإمام على ذلك كله بمقالِ هجاءٍ ، لم يُغادر فيه كاتبُهُ ساقطةً ولا لاقطةً من المثالب إلا وألصقها به. ولم يكن هنالك مبرِّرٌ لهذه الفَعلة ؛ التي لا محمدةَ فيها ولا بُقْيَا .

تحريرُ محلِّ الخلاف :

هذه المسالة التي دار حولها الخلاف هي فرع عن مسألة « إقامة الصفوف وتسويتها في الصلاة » ومحور الخلاف هو « إلصاقُ قَدَمِ المصلي بقَدَمِ جارِه عن الذي عن يمينِهِ ، وجاره الذي عن شماله أثناء القيام في الصف » . لقول أنس رضي الله عنه : « كنا نفعل ذلك حتى يلتصق المنكب بالمنكب ، والقدم بالقدم » . 

فالقائلون بظاهر هذا النص : فسروا الإلصاق بمعناه الحقيقي ، وهم يرون أنه لا بُدَّ من إلصاق قَدَمِ المصلّي بِقَدَمِ جاره عن يمينه وعن شماله إلصاقاً حقيقيا يتماسُّ به القدمان ويتلاصقُ الكعبان .. 

أما مخالفوهم في الرأي : فَيَرَونَ أن الإلصاق الحقيقي لا يتأتى إلا بالمناكب فقط ، أما إلصاق القدم بالقدم فهو إلصاق مجازي ؛ يكفي فيه أن يكون قَدَمُ المصلّي قريبا من قَدَمِ جاره ، وإن لم يتماسَّ القدمان . وهذا هو رأي الكشميري ، الذي أيَّدَهُ بأدلة من اللغة ، والرواية ، وعمل جمهور الأمة .. 

المعنى المجازي لإلصاق القدم بالقدم هو الأقرب لروح التشريع: 

1 – حين تقرأ إنكارَ الكاتب على الشيخ محمد أنور الكشميري في قوله « إن إلصاق القدم بالقدم في الصف للصلاة لا يُرادُ به حقيقةُ الإلصاق فهو إلصاق مجازي يكفي فيه التقارب بين أقدام المصلين » أقول : عندما تقرأ رد الكاتب على هذا الكلام ؛ يُخَيَّلُ إليك أنَّ رأي الشيخ في هذه المسالة مصادمٌ لإجماعٍ صريحٍ فيها ، وأنه مخالفٌ للصورة التي كان عليها فعلُ الصحابة الكرام ، وهذه الصورةُ كما يتخيَّلُها الكاتبُ ويراها مثاليةً ؛ هي الاصطفافُ القائمُ على قاعدة (المداعسة) فإما أن يكون المصلّي في الصفِّ داعساً على قَدَمِ جاره أو مدعوسا . 

بل إنه ليُخَيَّلُ إليك من خلال ردِّ الكاتب ، أن الشيخ الكشميري - رحمه الله - غير مُطَّلع على النصوص المتعلقة بهذه الجزئية ، ولو كان مُطلعاً على ما جاء في البخاري وغيره – كما قال صاحب الردِّ - لما خفي عليه معنى إلصاق القدم بالقدم في الصف ، ولعَلِمَ بالضرورة أنه إلصاقٌ حقيقيٌّ وليس مجازيا كما توهَّمَ هذا الشيخ (رحمه الله) . 

ولو صحَّ قولُ الكاتب لكان الشيخُ الكشميري ؛ إما جاهلاً وإما مُعانداً.. فأما كَونُهُ جاهلاً – فحاش لله – وقد علمنا قبل قليل أنه قامةٌ علميةٌ عالمية ، وإمامٌ غيرُ مُدافَعٍ في سَعَةِ علمِه واطلاعه ... وأما كونُهُ معانداً فهو أسوأُ التُّهمتين .. 

ولهذا لما قرأتُ ردَّ الكاتب عليه - في مسألة « إلزاق القدم بالقدم » ، وتعريضَهُ بعَدَمِ قراءة الشيخ للأحاديث التي تُبَيِّنُ معنى الإلصاق تارة ؛ واتهامَهُ بتجاهُلِه إياها تارة أخرى - صار لديَّ فضولٌ أن أعرف حقيقة ما رُمي به الشيخ رحمه الله .. فعقدتُ العزمَ على تَتَبُّعِ جميعِ ما وَرَدَ في هذه المسألة من أحاديث وآثار ، فهداني البحثُ إلى معرفة أنَّ الكشميري - رحمه الله - كان على صواب ؛ حين قال في كتابه فيضُ الباري : « ليس عندهم – أي ليس عند القائلين بلصق القدم بالقدم في الصلاة- إلا لفظُ (الإلزاق) وليت شعري، ماذا يَفْهَمُون من قولهم (الباء للإِلصاق)، ثم يمثِّلُونه : مررت بزيدٍ، فهل كان مرورُهُ به متَّصِلا بعضه ببعض، أم كيف معناه ؟ » . 

كما هداني البحث إلى معرفة أنَّ هذا الشيخ رحمه الله كان حُرَّ التفكير ، لذلك حذَّر من الجمود على حرفيَّةِ النصوص؛ خصوصا إذا كان عملُ الأمة جاريا على خلاف الظاهر منها . وهذه قضيةٌ متنازع فيها بين العلماء .. ولهذا لا ينبغي أن يُقال هنا: إن قول أنس رضي الله عنه « وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ » هو نصٌّ في المسالة لا يجوز خلافه ، فالشأنُ ليس كذلك ، لأنَّ المرادَ من لفظ (الإلصاق) دائرٌ بين الحقيقة والمجاز . ثم إنه لم يتكلم عن « إلصاق الأقدام » سوى أنس بن مالك والنعمان بن بشير رضي الله عنهما ، وسكتَ عنه غيرُهما ، ويمكن القول بأنه ليس هنالك أي حديث قولي عنه صلى الله عليه وسلم يأمر فيه بإلصاق القدم بالقدم . مما يؤكد أن المراد بالإلصاق المذكور بقول أنس رضي الله عنه هو الإلصاق المجازيٌّ ، وأنَّ أقدامَ السَّلف كانت متقاربةً في الصف ، وليست متلاصقةً كما يُفَسِّرُ الإلصاقَ مَنْ يُفَسِّرُهُ على هواه . 

وكان من ثمرة وقوفي على الأدلة المتعلقة بتسوية الصفوف ، معرفتي أن هذه الأحاديث مرويةٌ عن 13 صحابيا وهم : أبو هريرة ، والنعمان بن بشير ، والبراء بن عازب ، وأبو مسعود الأنصاري ، وجابر بن سمرة ، وأنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله، وموسى بن عقبة، وابن عباس ، وابن عمر، وعمر، وعثمان ، وعلي . وأحاديثهم عندي بألفاظها ، ولولا خشية الإطالة لذكرتها الآن ..

ولقد أعدتُ النظر في قراءة هذه الأحاديث مرات ، باحثاً عن لصق القدم بالقدم ، فلم أعثر على أيّةِ سنَّة قولية عنه صلى الله عليه وسلم في هذه المسالة البتة ، وإنما اقتصرتْ بعض التوجيهات النبوية فيها على" إقامة الصفوف ، وإحسان إقامتها ، وتسويتها حتى تكون كالقداح استواءً ، وجاء في بعضها الآخر أنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الدخول في الصلاة يمسح مناكبهم وصدورهم وعواتقهم ويقول لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، ويحثهم على إتمام الصفوف ، والتراصِّ فيها ، والمحاذاة بالمناكب والأعناق ، ويخبرهم بأن تسوية الصفوف من إتمام الصلاة . ويأمرهم بالملاينة فيما بينهم ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم" خياركم ألينكم مناكب" لهذا فَهِمَ الصحابة الكرامُ من مجموع هذه الأحاديث أن تسوية الصفِّ في الصلاة ؛ تعني اعتداله واستقامته ، وكان عمرُ وعليّ وعثمان وابنُ عمر يأمرون بتعديل الصف، وربما كلفوا رجالا بتعديل الصفوف ، فإذا أخبروهم بأنها اعتدلتْ كبروا للصلاة .

وهذه التوجيهات التي أشرنا إليها آنفاً ، هي كلها - كما ترون - خارجة عن مسألة إلصاق القدم بالقدم في الصف . ولو كان ذلك مطلوبا على الحقيقة لما خفي أمره على الناس طوال ما مر على الأمة من أجيال .. 

2 – أراد الكشميري أن يستأنس باللغة العربية في تأويل قول أنس رضي الله عنها « وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ. » فاستدلَّ الشيخُ بالإلصاق المجازي الذي في (باء الإلصاق) عند النُّحاة ؛ على أن الإلصاق الذي تحدث عنه أنس والنعمان بن بشير إنما هو إلصاقٌ مجازي أيضا ، وأورد الشاهد النحويَّ « مررتُ بزيد » وهو يريد أن يقول: إن هذه الباء لا تعني حقيقة الإلصاق بين (مرور المارّ) و(زيد) ، وإنما تعني القُربَ القريب بين صاحب المرور وزيد ، لأنه لا يُتَصَوَّرُ مرورٌ دون مارِّ ، ولا يكون (مرورُ المارِّ ) ملصقا بزيد إلا إذا كان (المارُّ نفسه) قريبا منه ، وكان مقصود الشيخ من ذكره للإلصاق المجازيّ الذي في (باء الإلصاق) . أن يقول بأن إلصاق الكعب بالكعب أو القدم بالقدم في الصلاة ، هو من قبيل الإلصاق المجازي ، الذي يكفي فيه أن يكون قَدَمُ المصلي قريبا من قَدَمِ جارِه من غير تماسٍّ بين القدمين .

ولكن الكاتب فهم كلام الشيخ على غير وجهه ، فظنَّ أنه يقول بأن باء الإلصاق تعني إلصاقا بين المار وزيد . وافترض بناء على ذلك أن الشيخ جاهلٌ باللغة العربية ، لهذا تنمَّر عليه ، وتقمَّص هيئة المعلم الذي يُصوِّبُ خطأ لأحد طلابه الصغار فقال للشيخ : « هذا خَلَلٌ في فهم اللغة ، لأن قولكَ « مررتُ بزيد » يعني التصاق المرور به ، وليس التصاق المارِّ به . قال أبو الحسن ابن الوراق : الباء للإلصاق كقولك مررتُ بزيدٍ أي : ألصقت مروري به » .

والحقيقة لا أدري من أيهما أعجب .!! من تخطئة المخطئ للمصيب ، أم من عدم فهم المخطئ لكلام ابن الوراق في معنى باء الإلصاق . 

فهل يرى الكاتبُ – هدانا الله وإياه - أن في هذه الباء مادة لاصقة تجعل من الممكن إلصاق المرور بزيد إلصاقا حقيقيا ؟؟ إن هذا غير ممكن البتة لاختلاف الماهية بين العَرَضِ والجوهر . ومن هنا كان لا بُدَّ من القول بأن إلصاق المرور بزيد هو إلصاقٌ مجازيٌّ ، وليس إلصاقا حقيقيا . فأين غاب هذا عن الكاتب؛ وهو يخاطبُ عالما شاعرا لغويا يُتقِنُ العربيةَ والفارسيةَ والكشميريةَ والأوردية .؟ وهل كان (الخللُ) المزعوم في تفكير الشيخَ - رحمه الله - ، أم في تفكر من رماه به - أصلحه الله - ؟؟؟

3 – قال الكاتبُ: [ قال الشيخ في تأكيد عَدَمِ استحباب إلصاق المنكب بالمنكب: « وهو مراده عند الفقهاء الأربعة، أي أن لا يترك في البين فرجة تسع فيها ثالثا » . 

عزا الشيخ المعنى الذي فهمه من الحديث للفقهاء الأربعة، وأظنه يعني فقهاء المذاهب الأربعة، وهذا العزو غير صحيح، وهذه أقوال بعض علماء المذاهب الأربعة ] 

أقول : لقد ملأ الكاتب صفحتين من النقول في الرد على هذه الفقرة من كلام الشيخ ردا خارج الموضوع تماما .

وواضح هنا أن الكاتب لم يفهم عبارة الشيخ ، لأنه اجتزأها من السياق ، فأخطأ في فهمها مرتين ، وقام بناءً على ذلك باتهام الشيخ بتهمتين ، والشيخُ منهما براء .. واليكم البيان الذي يطرد الشيطان: 

أولا - [ اتهمه بتأكيد عدم استحبابه إلصاق المنكب بالمنكب ] وهو اتهامٌ باطل . وارجعوا بنا ثانية إلى عبارة الشيخ رحمه الله في سياقها العام لنرى : 

أنَّ البخاريَّ رحمه الله قال: [باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصف].

فعلَّق ابنُ حجر رحمه الله قائلا: [ المراد بذلك المبالغة في تعديل الصف وسد خلله ].

فعلَّق الكشميري على كلام ابن حجر قائلا [ وهو مراده عند الفقهاء الأربعة ] . 

والضمير (هو) في عبارة الكشميري يعود على (تعديل الصف وسد الخلل) ..ففسر الكشميري (الخلل) بترك فرجة فاحشة تسع فيها ثالثا .. فهو يعتبر الفرجة خللا في الصف ، فكيف يدعو إلى هذا الخلل ويتبناه ؟ وكيف فهم الكاتب عبارة الكشميري على نقيض معناها .!! يا سبحان الله .!! إن العجلة من الشيطان .

ثانيا – وبناء على هذا الفهم المعكوس للعبارة السابقة ؛ عاد الكاتبُ فاتَّهم الشيخَ بالافتئات على الأئمة الأربعة ، وظنَّ أنه ينسبُ إليهم القول باستحباب الفُرجة ، فقوَّلَ الشيخَ على الأئمة الأربعة ما لم يَقُلْ . غفر الله لنا وللكاتب ، فلو أنه قرأ الفقرة إلى آخرها بتمهل لأدرك أنه مخطئ مرتين .. فالشيخ رحمه الله قال بعد ذلك : 

« والحاصل: أنَّا لمَّا لم نَجِد الصحابة والتابعين يفرِّقون في قيامهم بين الجماعة والانفراد، عَلِمْنَا أنه لم يُرِدْ بقوله (إلزاق المنكب) إلا التَّرَاصّ وترك الفرجة . ثم (قال) فَكِّر في نفسك ولا تَعْجَل : هل يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدَم إلا بعد ممارسة شاقّة، ولا يمكنُ بعدَها أيضًا ؟ فهو إذن من مخترعاتهم، لا أثر له في السَّلَف » انتهى كلامه 

أقول : والمتبادر إلى الذهن من كلام الشيخ الكشميري رحمه الله أنه يكفي عنده أن يقترب المصلّي من جيرانه في الصف حتى يمسَّ المنكبُ المنكبَ ، ولا بأس من التراصّ اليسير بالمنكبين ، لأنه ثابت بالنصِّ ، ومع ذلك فهو مُقيَّدٌ بأن لا يترتب عليه مضايقةٌ تُفسِدُ الخشوع ، ففي الناس ضعفاءُ لا يحتملون المزاحمة الشديدة ، وقد مرَّ معنا قوله صلى الله عليه وسلم «خياركم ألينكم مناكب » . 

أما بالنسبة ( لإلصاق القدم بالقدم ) فالأقربُ إلى روح الشريعة أن يكون المراد بذلك ما قاله الكشميري رحمه الله : « أنه لا يمكن إلزاق المنكب مع إلزاق القدم إلا بعد ممارسة شاقة » أقول : وفي هذا حرج ، « وما جعل عليكم في الدين من حرج » . ثم إنه قد يكون في أرجل بعض المصلين مرضٌ خطير (كالفطر) و( الأكزما) و(الصدف) ، وقد يتحسَّسُ بعضُهم من ملامسة قدمه بأقدام الآخرين ، فيشغله ذلك عن صلاته . فلماذا التشدُّدُ في الدين ، ومن شَدَّد شُدِّدَ عليه .؟؟ ولماذا الميلُ إلى التضييق في التطبيق؛ وهو خلاف السنَّة ، فما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما . 

4 – وأخيراً لقد أطال الكاتبُ النَّفَسَ في انتقاد الكشميري ، وحَمَلَنَا على الإطالة في الردِّ ، ولو تتبَّعنا كل ما قاله في هذا الصدد ثم أتبعناه بالردِّ على الردِّ لطال المقال ، وسئم القارئ ، خصوصا وأن هذه القضيةَ فرعيةٌ، لا يترتَّبُ عليها - بحمد الله - كفرٌ ولا معصية ، وما كان ينبغي – في رأيي - أن يُرَدَّ بها على الكشميري هذا الردَّ الجافي المطوَّل ، الذي حاول فيه كاتبُهُ إخفاء جفائه، بمثل قوله (رحمه الله) و (وسامحه الله) . ولكنْ ضاعت هاتان اللفظتان في خضمِّ استخفافه بالشيخ وتعاليه عليه في الخطاب ، وحسبُك من جفاء هذا الردِّ ؛ أن كاتبه سمى (ملاحظاته) على الشيخ (مؤاخذات) ومعلوم أن المؤاخذة زللٌ يستحقُّ صاحبُهُ العقوبة . ولا تعني الملامة أبداً ، قال في لسان العرب [. آخَذَه بذنبه مُؤاخذة عاقبه ، وفي التنزيل العزيز " فكلاًّ أَخذْنا بذَنْبه " وقوله عز وجل " وكأَيِّنْ من قرية أَمليتُ لها وهي ظالمة ثم أَخذتُها " أَي أَخذتها بالعذاب ... وفي الحديث " من أَصاب من ذلك شيئاً أُخِذَ به "يقال أُخِذَ فلانٌ بذنبه أَي حُبِسَ وجُوزِيَ عليه وعُوقِب به.. وقوله عز وجل: "وهمَّت كلُّ أُمّة برسولهم ليأْخذوه " قال الزجاج ليتمكنوا منه فيقتلوه .] فإن كان صاحب الرد لا يدري هذا المعنى فتلك مصيبة ، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم .. 

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

***

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين